مختارات من:

في التباسات علم الاجتماع: الإنسان.. حيوان اجتماعي أم ممثل رغم أنفه؟

محمد الرميحي

بدأ العلم الذي يدرس علاقة الإنسان بمجتمعه بداية حائرة، ثم أخذ في الانطلاق مستفيدًا من عطاءات العلوم المختلفة، وها هو كتاب حديث الصدور يراجع مسيرة هذا العلم ويستشرف آفاقه.

إرادة الإنسان في أن يعرف نفسه هي إرادة قديمة, وقد كانت هناك اجتهادات كثيرة على مر التاريخ المكتوب لمحاولة المعرفة تلك, ومع تقدم العلوم الحديثة المختلفة فقد اقترب الإنسان من معرفة الكثير عن نفسه ولكنها ظلت معرفة نسبية, ثم أضيفت على هذه المعرفة صيغة "العلم" ومن هنا ظهر علم الاجتماع, وهو علم حديث نسبيا لدى الغرب, وحديث حقا لدى العرب المحدثين وقد تعلمه طلابنا في الجامعات العربية أو غيرها كعلم غربي في الأساس, وهو علم أو مجال دراسة يشد الإنسان ويغريه ـ بصرف النظر عن تخصصه ـ لأن الإنسان يريد أن يعرف المزيد عن نفسه من خلال علاقته بمجتمعه, لماذا يتفاعل أناس ومجتمعات ما بشكل معين, ولماذا يتفاعل أناس آخرون ومجتمعات أخرى بشكل مغاير?

وقد وقع في يدي كتاب مشوق عنوانه "الحيوان الاجتماعي" ألفه أستاذ في جامعة كيمبردج البريطانية هو "و.ج. رنسيمان", ونشر هذا العام, ويدور موضوع الكتاب حول فهم أفضل لهذا العلم الحديث من أجل فهم أوضح لعلاقات الإنسان وتصرفاته داخل الجماعة, ولأن هذا العلم لدى المختصين قبل غيرهم علم يتخلله الكثير من الفرضيات المعقولة وغير المعقولة فإن هناك كثيراً من علامات الاستفهام حول الكثير من مداخلاته, فهو للعامة بمنزلة طلاسم غير قابلة للفهم, وقد أراد المؤلف بهذا الكتاب أن يقدم علم الاجتماع بشكل أكثر تبسيطا وتشويقا ليتعرف الشخص العادي آلية الاتصال الاجتماعي, دوافعها ومحدداتها.

لقد تعلمت شخصيا وعلمت شيئاً من علم الاجتماع في الجامعة, وأنا أتفق ربما مع آخرين غيري على أن طلابنا في الجامعات العربية وإن حصلوا على تصور شامل لهذا "العلم" يظل ما حصلوه غير دقيق وغير مهضوم, حيث إن الذي قدمناه لهم في جامعاتنا هو علم اجتماع يدرس في الجامعات الغربية, فهو نتاج التفكير الغربي, بينما الفلسفة والتاريخ أقرب لفهم طلابنا لأن بيئتهم التراثية الفكرية لها جذور في هذين العلمين.

لا تفوت المؤلف مزحة طريفة فهو يقول إن المشتغلين بعلم الاجتماع ليسوا أذكياء بما فيه الكفاية ليكونوا فلاسفة, ولايملكون كفاية من المعلومات ليكونوا مؤرخين! ولقد سمعت هذه الطرفة تطلق أيضا على دارسي العلوم السياسية, ولعل الجوهر الجاد داخل المزحة هو رد فعل احتجاجي, لأن علماء الاجتماع فوضوا أنفسهم حكاما على الأوضاع الاجتماعية فأخذوا يصدرون الفتاوى عن المجتمع.

ولكن بعد هذا كم هو جميل دراسة علم الاجتماع خاصة إن تم فهمه على أنه نسبي وليس قطعياً, لأنه يخص الإنسان أنا وأنت وجيراننا ومجتمعنا والمجتمعات التي نقرأ عنها, هذه المعرفة أصبحت ممكنة بفضل الرواد, حيث إن هناك معلومات جديدة تظهر لنا لم تكن معروفة قبل عقود من السنين, وكلما تقدمت العلوم الأخرى ـ البيولوجية والتاريخية والديمغرافية والاقتصادية وعلم الوراثة واللغات وعلم النفس ـ تقدم علم الاجتماع, وأصبح بإمكاننا معرفة علاقات البشر بشكل أوضح وأفضل.

يحاول علم الاجتماع أن يجيب عن سؤال عام مفاده: هل هناك توافق أو اختلاف في سلوكيات الإنسان خلال الزمن وعبر العالم, وهل المجتمعات البشرية تتصرف وتسلك بعضها مثل بعض عبرالأجيال وتحت مختلف الظروف, أو أن ذلك يختلف تبعا للمعطيات المتعددة?

لقد حاولت نظريات عديدة في علم الاجتماع أن تجيب عن ذلك السؤال العام والعريض, منها نظريات الماركسية, والدارونية الاجتماعية, والسلوكية, والبنيوية, والأنثروبولوجيا الثقافية ونظريات أخرى, ولكن قبل أن أعقد الأمر على القارئ أقول إن هذه النظريات ليست كلها نظريات علم اجتماع, ولكن بعضها استمد مفاهيم أفادت من علوم أخرى كي تطبق في علم الاجتماع الذي يبغي معرفة آليات وأسباب سلوكيات الإنسان الاجتماعية, وكلها مدارس جاءت وذهبت, ترك بعضها بعض البصمات التي ساعدتنا في فهم المجتمع, وبعضها لم يترك شيئاً يذكر.

يقول لنا الكاتب إن هناك مقارنة جديدة بدأت تظهر لفهم المجتمع, وهي "التاريخية الثقافية المقارنة" وبكلمات أبسط كي نفهم المجتمع يجب أن نفهم تاريخه وثقافته ونقارن بينهما وبين غيرهما في الزمن وعبر العالم, وقد سمى هذه المقارنة تقييماً جديداً لا نظرية جديدة, واشترط أن يكون لها مقاييس مشتركة متفق عليها مثل بقية العلوم الأخرى, هذا التقييم أو المنهج إن أخذنا به يمكن أن يفسر لنا الإنسان لماذا هو كما هو ولماذا يفعل ما يفعل, ادرس علم الاجتماع وستجد الكثير من المسالك والطرقات التي يمكن أن تسير فيها.

الإنسان اجتماعي بطبعه

شواهد التاريخ وملاحظات الفلاسفة وما تركه لنا الكثير من الكتاب تقول جميعاً دون أدنى شك إن الإنسان حيوان اجتماعي, لايستطيع أن يعيش خارج المجتمع, من هنا مأساته ومن هنا فرص تقدمه أيضا, ولقد ترك لنا أرسطو قولا مأثورا حول ذلك, فقال: "إن الإنسان الذي يستطيع أن يعيش خارج المجتمع إما متوحش أو إله". فالإنسان مثلي ومثلك ومثل آخرين في العالم هو ثلاثة في واحد, أولا: مخلوق عضوي مولود "ليست كل المخلوقات العضوية مولودة من رجل وامرأة وترث جيناتهما" وثانيا: عضوية تمتلك دماغاً متطوراً, وبالتالي مقدرة عقلية "علما أن الأنواع العضوية القريبة تمتلك أدمغة ـ كالشمبانزي مثلاً ـ لكنها ليست متطورة كأدمغة البشر" ثالثا: هذه العضوية ذات المقدرة العقلية المعقدة تعيش في احتكاك دائم مع أخرى من جنسها, أي أن لديها "حياة اجتماعية" تتكون فيها علاقات مع الآخرين.

فعلم الاجتماع علم يدرس العلاقات البشرية داخل الجماعة تحت تأثير هذه العناوين الثلاثة ويهتم بالاتصال, المؤسسات والمجتمعات, والتي يقيم الإنسان علاقاته مع غيره من البشر من خلالها, مع السعي لاستنباط القواعد العامة "ليس كل الأعضاء بالضرورة منصاعين لتلك القواعد" "إلا أن وجود غير المنصاعين لتلك القواعد لايعني عدم وجود قواعد".

علم الاجتماع بهذا المعنى هو مظلة كبيرة تتفرع تحتها تخصصات عديدة, ربما بعدد أشكال التفاعل الإنساني, فالعاملون بالإدارة يمكن أن يكون لهم مجال خاص هو علم الاجتماع الإداري, وهكذا, علم الاجتماع القانوني, التعليمي, السياسي, الديني.. إلى آخره من أشكال الاحتكاك الاجتماعي بين البشر.

وإن كان هناك سؤال يلخص الموضوع فمفاده: لماذا كل هذه الجماعات الإنسانية المختلفة. المجتمعات, والمؤسسات, الموجودة اليوم والتي كانت موجودة على ظهر الأرض قبل ذلك لم تضع "قواعد" للسلوك فيما بينها, الإجابة بسيطة أو ظاهرة وهي أنه ليست هناك الطريقة "العلمية" لتفسير السلوك الإنساني التي يحاول علم الاجتماع الحديث أن يوجدها, فهناك نظرات غير علمية أيضا لتفسير السلوك الإنساني قام بها فلاسفة وسياسيون. افترض علم الاجتماع مسبقا أن السلوك الاجتماعي الإنساني يمكن ملاحظته, ويكمن الاختلاف فيما بين مفسري هذه الملاحظات واستنتاجهم في طبيعة الزاوية التي ينظرون منها.

هناك العديد من أشكال العلاقات الاجتماعية التي يدرسها علم الاجتماع, العائلة, القبيلة, الفخذ, الطائفة, الطبقة, الجيش, النادي, المدرسة, الأحزاب السياسية, الجامعات المدنية, الجماعات التطوعية, الاتحادات, العصابات, جماعات الضغط, إلى آخره من الجماعات الإنسانية, والمشترك بينهم جميعا أنهم يقبلون وجود "قواعد للتعامل" مع بعضهم البعض, والقواعد هي "سلوكيات" متبادلة متعارف عليها, واشتراك في التوجهات والمبادئ يقوم "بتمثيلها" الإنسان, فهو له دور, والدور بالمعنى العام مشتق من عمل المسرح أو السينما, ولكن أيضا لكل إنسان "دور" معيش في الحياة, لذلك فإننا جميعا "ممثلون" بمعنى من المعاني, كل الرجال والنساء الذين نعرفهم هم ممثلون, ويمكن النظر إلى أنفسنا كباحثين, أو ضباط, أو ربات بيوت, أو طلاب لكننا جميعا ممثلون, الفرق بين الممثل على خشبة المسرح وبيننا في الحياة, أن الممثل هناك يقبل أويرفض "الدور", ولكن الأمر في الحياة الاجتماعية ليس بهذه السهولة والبساطة. فنحن في حياتنا الاجتماعية لانختار الدور الذي نقوم به بشكل مطلق, فإن أخذنا صاحب المرتب "المأجور", وهو لمعظم الناس أهم دور في حياتهم, فهو يستطيع أن يغير عمله, وينتقل من عمل إلى آخر إذا كان لايطيق معاملة رئيسه ولكنه في النهاية لابد أن يعيش وسوف يبقى متسلماً لأجر, فهو "دور" لايستطيع تغييره, وبعضنا لايحتاج إلى عمل من أجل المعيشة, ولكنه محكوم بأدوار أخرى.

كما هو الممثل على المسرح محكوم بحركة يحددها المخرج, في الحياة البشرية يكون التعامل بين الناس محكوماً بقواعد, لابد أن تتعايش فيها وبها البشرية, إنها أدوار, وهذه الأدوار لها خصوصية ولها معنى, فهي تحدد من يؤثر في من, كل عضو في المجتمع رجلا أو امرأة ينتمي إلى ثقافة عامة واحدة يتأثر أجزاؤها بعضها بالبعض الآخر, فنحن نأخذ من بعضنا أفكارا وأذواقا وتصرفات تلفت نظرنا من خلال عملية نقل من عقل إلى عقل, ولكن هذا التأثير والتأثر يكون أكثر وأقوى إن كان الشخص المنقول عنه في منزلة أقوى أو يتخذ دور الرمز, الرجال العرب في الثلاثينيات من هذا القرن ومابعدها كانوا ينبتون شواربهم في الغالب على شكل شنب الزعيم الألماني النازي أدولف هتلر, وإن أردت أن تتأكد انظر إلى صورة رجل عربي أخذت في تلك الفترة, الرمز هنا مهم لأن الآخرين يقومون "بتقليده" في "الدور" وبالتالي فإن المأثور العربي القائل "الناس على دين ملوكهم" هو ملاحظة سوسيولوجية قريبة من الصحة العلمية.

الناس في الحياة لهم أدوار مختلفة, ولكن لأن الحدود في الفضاء الاجتماعي ليست محددة بشكل قاطع, فإن هذه الأدوار قد تختلط وهي قابلة للاختراق, قد يحدث أن يكون رئيس جهاز المخابرات في دولة ما عميلا سريا لدولة عدوة, وقد يكون رئيس شركة إلكترونية في اليابان مواطنا فرنسيا وهكذا, كما يحدد الدور العلاقة بالآخرين فدور الأب يختلف عن دور الأم عن دور العم وهكذا, وحتى لانخدع أنفسنا فإن العلاقات الاجتماعية ليست مقصورة على البشر, فالشمبانزي تقيم علاقات من نوع ما فيما بينها, من معرفة أو غربة, أصدقاء أو أعداء, محلي أو دخيل, وتتصرف بناء على ذلك, ولكن الإنسان يتفوق بقدرته اللغوية, فطفل في الثالثة من عمره تكون له قدرة ضخمة على الاستيعاب اللغوي أكثر بكثير من شمبانزي مدرب ويافع, اللغة إذن لاتجعلنا "اجتماعيين" ولكن تجعلنا اجتماعيين أكثر بطرق عديدة, أكثر نشاطا اجتماعيا وأكثر وعيا اجتماعيا, وأكثر قدرة اجتماعية, ولكننا اجتماعيون, فنحن نولد "اجتماعيون". هناك نزوع اجتماعي لدى البشر كما أن هناك نزوعاً عدوانياً, هناك نزوع للحب كما للكره, هناك نزوع للمكر والخداع كما أن هناك نزوعاً للصفاء.

الناس منذ القدم وهم في جماعاتهم يتساءلون عن سلوك غيرهم من الجماعات, لماذا تلبس هذه الجماعة أنواعاً معينة من الملابس, ولماذا تأكل هذا النوع من الأكل ولماذا لاتأكل ما نأكل, لماذا تعتمر هذه الجماعة بهذا النوع من غطاء الرأس, لماذا نساؤهم يختبئن هكذا وراء كومة القماش, لماذا هؤلاء يستطيبون أكل اللحم النيئ أوشرب الدم الحار, لماذا رسموا هذه الصور على الجدران, ولماذا يختارون قادتهم بهذه الطريقة? مثل هذه الأسئلة كانت دائماً في أذهان الناس منذ القدم, لذلك فإن هيردوت الملقب بـ "بأب التاريخ" يمكن أن يلقب أيضا بأب الاجتماع, حيث إن كتابه الأشهر المكتوب في وسط القرن الخامس قبل الميلاد كان إضافة إلى كونه كتاب تاريخ عن انتصار اليونان على الفرس فإنه كان غنياً أيضا بملاحظات عن الشعوب الأخرى نسميها اليوم اجتماعية "سوسيولوجية", فهي ملاحظات عن علاقات ودوافع السفر وعن تحليل التاريخ الشفوي للشعوب, وعما رأته العين, كل ذلك عن طريق التسجيل الحي, ولو أنه ـ بحسابات اليوم ـ صدق ما لايصدق من المرويات.

أكثرالنقاط الرئيسية من الملاحظات الاجتماعية العامة التي تابعها الكتاب المعروض نقطتان, الأولى: أن كل مجتمع إنساني مختلف بشكل ما عن الآخر, وهو اختلاف في الطبيعة البشرية, والثانية: أن أعضاء كل مجتمع يعتقدون أن مجتمعهم هو النموذج الأفضل للمجتمعات, والإجابة عن سؤال كيف يختلفون عنا قادت دارس علم الاجتماع إلى المقارنة بين المجتمعات, والمقارنة عادة تبدأ بأوجه الشبه, هوميروس بدأ من نظرة اليونانيين إلى غيرهم, وملاحظون آخرون اهتموا لاحقا بأشياء أخرى وفوجئوا بما وجدوه.

من هذه النظرة المختلفة لايزال عالقاً لدى مجتمعات عديدة ما يسمى اليوم بـ"العنصرية" التي قد تكون ظاهرة وتكون خفية ـ يعتمد ذلك على مدى تعقد المجتمعات ـ في السابق كانت المفاجآت أن الآخرين لايقتلون أسرى الحرب فقط, بل ويأكلونهم أيضا, في مجتمع ما بين النهرين القديم, وفي بريطانيا الأنجلو سكسونية فإن الرهبان يمكن أن يكونوا عبيدا, ولكن هناك أيضا تماثلاً, فالبيروقراطيون في روما القديمة يتصرفون كما يتصرف أهل بيروقراطيتنا اليوم, الاختلاف الاجتماعي ليس بسبب البشرة أو المكان وإنما بسبب "الأدوار" التي يرتضيها المجتمع لأفراده, وعلماء الاجتماع يجب أن يتعرفوا هذه الأدوار وأن يبدوا الملاحظات, ولكن ليس بالضرورة أن تكون أحكامهم صحيحة.

حتى تصل إلى الإجابات الصحيحة يجب أن تسأل "الأسئلة الصحيحة", وأن تسأل أيضا "الناس الصحيحين", وقد يعطيك "الناس الصحيحون" إجابات خاطئة, مارجريت ميد من أشهر علماء الأنثروبولوجيا والاجتماع الأمريكيين في النصف الأول من القرن الحالي, قدمت دراسات مهمة عن مجتمعات عديدة من أهمها ما قامت به من دراسات للمجتمع الياباني, في دراستها لمجتمع "ساموا" ـ مجموعة جزر في المحيط الهادي ـ قررت أن هذا المجتمع "إباحي" وهي معلومة بقيت وتدوولت لفترة طويلة بين المختصين منذ أن نشرتها في سنة 1928 وتبين خطؤها الفادح, لم تقم مارجريت ميد وقتها بالتأكد مما قالته لها مواطنة تبلغ الخامسة والعشرين من ذاك المجتمع, وهي لم تكن تعرف اللغة, ولم تبن ما نقلته على ملاحظة ثاقبة, ولم تتصور أنها خدعت في تلك المعلومة عن سابق إصرار.

أخطاء علماء الاجتماع لاتأتي مصادفة فقط, فهناك من لايشك في إخلاصهم المهني "المعاكس لأحكامهم", ولكنهم صرفوا جهدا كبيرا لتفسير ما لايحتاج إلى تفسير, مثل تفسير ظهور العائلة النووية "الصغيرة" من الأبوين والأولاد, المتناقضة مع افتراض "العائلة الممتدة", وهي أشكال افترض أن الأولى لها علاقة بالمجتمع "السابق" غير الصناعي, أو أن المجتمع الجديد الممثل في الطبقة العاملة يتناقض مع الثقافة البروليتارية المفترضة والمنبثقة من صناعات القرن التاسع عشر, أو خذ افتراض الكابتن ارسشبولد بلر الذي قرر بناء على اكتشافات تمت في الثلث الأخير من القرن الثامن عشر أن الزعماء في جزر اندماند غالبا ما يكونون مطليين باللون الأحمر, وأستطيع أن أضيف أخطاء ارتكبها باحثون غربيون في المجتمعات العربية, هي اليوم جزء من التراث الغربي الثقافي الخطأ المتصور عن العرب, وبالمثل فإن كتاباً عرباً اليوم يكتبون عن الآخرين غربيين أو شرقيين وكأنهم قادمون من عالم آخر.

ولكن ليس بالضرورة أن الأجانب هم معادون عند كتاباتهم, فمن المعروف أن أفضل من كتب عن الديمقراطية الأمريكية هو غير الأمريكي فنسي الكسي دوكفلي, في كتابه الذي أصبح معروفا اليوم "الديمقراطية في أمريكا".

إذا كان علم الاجتماع قديما قدم هيردوت وأرسطو, أو الفيلسوف الصيني كنفوشيوس, فلماذا أخذ كل هذا الوقت الطويل كي يصبح قريبا من العلم, أي يصبح بإمكاننا التعميم دون مخاطرة كبيرة? ولكن السؤال يمكن أن ينسحب أيضا على علوم أخرى, فالجبر والهندسة والكيمياء كلها كانت فيها اجتهادات قديمة, وقد شرح لنا المرحوم عبدالمحسن صالح في كتابه "الإنسان الحائر بين الخرافة والعلم" هذه المحاولات, بل إن من أشهر المحاولات في هذا الشأن الملتبس بين الخرافة والعلم ما حاوله "الخيميائيون" من تصنيع الذهب عبر تحويل مواد أخرى أقل منه نفاسة, ورغم أن الإنسان حاول أن يفهم العالم الطبيعي والعالم الاجتماعي منذ آلاف السنين إلا أنه وقع في كثير من الأخطاء, واللافت للنظر تضاعف المعرفة الإنسانية في هذا القرن والتي غيرت العالم وغيرت كلا من فهمنا له وعيشنا فيه.

كيف ولماذا حدث ما حدث? سؤال كبير ومعقد, ولكن المؤكد أن العلوم التي نعرفها اليوم من كيماوية وطبيعية وبيولوجية ونفسية واجتماعية هي بالكاد نتاج قرنين من الزمان أو أقل, هذا لا يعني أن كل الأفكار المتقدمة الأولى كانت كلها خطأ, فمازالت بعض آراء أرسطو على سبيل المثال, معقولة مثل ربطه بين الاستقرار السياسي ووجود الطبقة الوسطى في المجتمع, لقد قدم لنا ابن خلدون في القرن الرابع عشر مساهمة لا تزال حية كمنهج تفسيري اجتماعي عبر دراسته لعلاقة أهل المدر بأهل الخزن, أو مفهومه عن العصبية الذي لا يزال ممكن الاستخدام لتفسير بعض الظراهرالاجتماعية, وميكافللي لا يزال اسمه معروفا بيننا إلى اليوم بنظريته للاحتفاظ بالسلطة في دويلات آخر عصر النهضة الإيطالي , ولكن كل هذه الأفكار لا تصل إلى المستوى أو العمق الذي وصلت إليه العلوم الاجتماعية في نهاية القرن العشرين, فمعرفة البشرية اليوم اعمق وأوسع.

الثلاثة الكبار

علم الاجتماع "السوسيولوجيا" كمفهوم للعلم صك فقط في القرن التاسع عشر من خلال كتابات الاجتماعي الفرنسي أوجست كونت, والذي تعورف على تسميته بـ "أب علم الاجتماع الحديث", دراسات كونت كانت مهتمة بمعرفة تأثير التصنيع على مجتمعات العالم الثالث, واليوم تعتبر تلك الأفكار التي جاء بها كونت كالسواحل المهجورة للأفكار الميتة.

الذين أثروا في تطور علم الاجتماع الحديث هم ثلاثة: كارل ماركس, وماكس فيبر, وأيميل دوركايم, ألمانيان, وفرنسي, ولا يوجد عالم اجتماع اليوم لم تلمسه بعض أفكار واحد أو أكثر من هؤلاء الثلاثة, بغض النظر عن قبول أو رفض آراء أي منهم, ومن الملاحظ في كل العلوم ان التقدم الذي أحرزه جيل ما, جاء الجيل الذي بعده ليضيف كثيرا, إلى تلك الأفكار ويبدي ملاحظات في الغالب أكثر عمقا وأكثر رحابة, وما يلاحظ أن الثلاثة أبحروا في الأفكار التي طرحوها إلى مسافات بعيدة وجاءت كثير من أفكارهم كبيرة.

صعوبات انطلاق الأفكار الاجتماعية لكارل ماركس, وأيضا كثير من أسباب تأثيره اللاحق, تعزى إلى أنه نظر إلى علم الاجتماع من منظور فلسفي وذلك ما يفسر صدور آلاف الكتب التي كتبت عن أفكار ماركس, وما زالت تكتب, لقد نظر إلى علم الاجتماع كعقيدة وفلسفة وطريق للتحول الاجتماعي الثوري, ولكننا اليوم نعرف ان بعض أفكار ماركس هي إما طوبائية أو احتمالية دافعها ذاتي, خاصة في موضوع التغير الاجتماعي الثوري, وطرق تحقيق هذا التغير. ماركس اعتقد أن مسار التاريخ الإنساني يحدد من خلال الصراع بين طبقة متسلطة وطبقة متسلط عليها, وتستبد الأولى بالثانية, وأن الأولى البورجوازية ستطيح بها الثانية البروليتارية والتفاصيل حول كيف يتم ذلك ظلت غامضة لدى ماركس, إلى درجة أن نكتة, بولندية مشهورة قالت إنه تحت مـظلة الرأسمالية يستغل الإنسان الإنسان, وتحت مظلة الاشتراكية فإن العلاقة عكسية! أو التحليل الذي وصل إليه بعد ذلك أنه في الرأسمالية تملك فئة من الشعب وسائل الإنتاج, وفي الاشتراكية تملك الدولة وسائل الإنتاج, ويملك المكتب السياسي للحزب الاشتراكي الدولة! المعنى نفسه, واحد هازل والآخر جاد.

الماركسية كما يراها الكتاب مخطئة في ثلاث نقاط:

الأولى: أخطأت عندما افترضت أن الرأسمالية تكثف الحاجة والجوع لدى الطبقة البروليتارية المتوسعة, وبالتالي تؤدي إلى ثورة وتغير السلطة.

الثانية: أخطات عندما زعمت أن الثورة الاشتراكية سوف تأتي في المجتمع الصناعي بدلا من أن تأتي في مجتمع زراعي في معظمه.

الثالثة: اخطأت عندما افترضت أنه عندما يأتي المجتمع الاشتراكي سوف ينتهي صراع الطبقات.

إذا كانت هذه الأخطاء, التي ارتكبها ماركس في غمرة حماسه للتغيير ونتيجة لقراءة المجتمع الأوربي في القرن التاسع عشر, كبيرة إلى هذا الحد فإن السؤال المنطقي: لماذا يؤخذ ماركس في بعض الأوساط بجدية حتى هذا اليوم?

والإجابة السريعة التي يتبناها الكاتب هي أن ماركس جعل من الصعب على أي عالم اجتماع بعده أن ينظر إلى العالم وإلى المجتمعات الإنسانية دون اعتراف بأهمية صراع الطبقات, والتي سماها "علاقة الإنتاج" ولكن الملاحظة الأهم هي أنها كانت موجودة قبل علم الاجتماع الماركسي, وما زالت بيننا.

أما الشخصية الثانية فهي ماكس فيبر, الذي ولد تقريبا بعد نصف قرن من ولادة ماركس, ولم يوافق على مقولاته, لا لأنه لا يعترف بأهمية صراع الطبقات في التاريخ, ولكنه رفض الاعتراف بأن كل أشكال الصراع الإنساني يجب ان تنجم عن الصراع الطبقي فقط, بل هناك أسباب أخرى تؤدي إلى الصراع, وهو لم ير فقط أن "العوامل السياسية" مضادة للاقتصادية ولها دور تلعبه, ولكنه أيضا أفسح مجالا للأفكار الأخرى, منها الأفكار الدينية, أعطاها دورها في التغيير الذي تجاهله ماركس, الأفكار كما قال فيما كتب "مثل محول السكة الحديد" توجه مسار التاريخ باتجاه هذه السكة أو تلك, وهذه التصورات السوسيولوجية استمدها ماكس فيبر من قراءته لتاريخ تطور أوربا, وفيبر مثل ماركس أثر في الجيل الذي جاء بعده.

دوركايم كان تقريبا معاصرا لماكس فيبر, ولكنهما, كما يؤكد الكاتب, لم يأخذ أحدهما من الآخر, دوركايم أراد أن يحدد علم الاجتماع كعلم مستقل, وكعلم ناضج, وبهذا قال إن السلوكيات الاجتماعية ليست هي خيارا فرديا يختار الفرد أن يسلكه أو لا, ولكنه سلوك مفروض عليه, فالعلاقات الاجتماعية, ليست حاصل جمع سلوك الأعضاء, فبعض الأعضاء في الجماعة لا يمارسون طقوسا معينة, أو لا يؤمنون أو غير مهتمين بها, ولكنهم أمام الجماعة يمارسون هذه الطقوس, وذلك ينطبق على الأيديولوجيات والشعور الوطني, فهم يستجيبون لها لإعطائهم شرعية.

اهتم دوركايم بدراسة تقسيم العمل في المجتمعات الصناعية, والضغوط الاجتماعية الناشئة من تعقد المجتمعات, وظهر بمفهوم لا يزال مستخدما وهو "الأنومي" أي حالة يجد الفرد فيها نفسه منبتا عن المجتمع خاصة في مراحل المجتمع الانتقالية والتي يشوبها عدم التوازن الاجتماعي, وبالتالي تكثر ظاهرة الانتحار, كما اهتم دوركايم بالجماعات الوسطى بين الفرد والدولة.

ما يشترك فيه الثلاثة أنهم لم يكونوا مؤثرين أثناء حياتهم, كما أثر البريطاني مهندس السكة الحديد في العصر الفكتوري ومعلم نفسه هربرت سبنسر, وهو الذي حاول تطبيق مفاهيم دارون على المجتمع, وصك ما عرفناه لاحقا بـ "البقاء للأصلح" ولكن علم اجتماع هربرت سبنسر الذي أثار ضجة في وقته لم يبق منه اليوم شيء يذكر, فقد كانت أفكاره أكثر هشاشة من الثلاثة وأضعف من أن تبقى, مفهومه عن التطور الاجتماعي أنه عملية آلية تتجه دائما إلى التوازن والانسجام, وهي مثل الطبيعة يبقى فيها الأقوى والأصلح.

ماركس رأى صراع الطبقات يقود إلى انسجام الدولة ومن ثم العالم, كما هو لدى سبنسر الذي رأى التنافس يقود إلى الانسجام, ولقد سر سبنسر معاصريه- خاصة في الولايات المتحدة- بأن ترك الفئات الاجتماعية غير القاد على التنافس لتلقى حتفها, ورأى في ذلك عملية أخلاقية لاشائبة حولها.

المفسرون السوسيولوجيون مدارسهم كثيرة, بعد المدراس الأولى ظهرت في القرن العشرين مدارس عديدة منها المدرسة الوظيفية, والمدرسة البنيوية, والمدرسة السلوكية, إلى درجة أن أطلق على السوسيولوجيين "تجار المواقف المتذبذبة" من كثرة ما قدموا من تفسيرات لأسباب التغيير في المجتمعات المختلفة.

السلطة

أحد الموضوعات المهمة التي عني بها علم الاجتماع مفهوم السلطة, وهو مفهوم مركزي في علم الاجتماع, ويعني دراسة البشر وهم في "أدوارهم"المختلفة, وكيف توزع وتقسم السلطة في الجماعة والمجتمع والمؤسسات التي ينتمي اليها الناس, ومفهوم السلطة مثل العديد من المفاهيم في علم الاجتماع لم يقم حوله اتفاق تام.

أفراد الجماعة يتفاعلون مع بعضهم البعض حسب أدوارهم بطريقة تختلف من دور إلى آخر, والسلطة تعنى إجبار شخص ما على ان يتصرف في موضوع ضد إرادته, ولكن هذا الإجبار يتفاوت في الدرجة, فهناك الإقناع, التأثير والضغط, والاستغلال, فالإقطاعي الذي يقوم بطرد فلاح من الأرض يستخدم سلطة, وصاحب العقار الذي يغريني بتعويض كبير لترك عقاره, يستخدم سلطة أيضا, الأول القوة والثاني المال, فكلاهما له "دور" جعلاني أقوم بفعل ما كان لي ان أقوم به, إنهما فرضا علي سلوكا معينا, والسؤال هو كم شكلا هناك من أشكال السلطة?

هناك أشكال من السلطة بمثل ما هناك أشكال من الأدوار, استخدام السلطة بين الأفراد إما بالجزاء والردع أو بالإغراء والمنح, استخدام بين شخصين أو أكثر في أدوارهم الاجتماعية ينقسم إلى ثلاثة, بصرف النظر عن الأدوار الاجتماعية المختلفة, أو المؤسسات التي أنت وأنا ننتمى إليها, هذه السلطات إما اقتصادية, تمنحني أو تحرمني من الثروة أو الدخل أو الخدمات أو البضائع, أو سلطة أيديولوجية تكون في موقع يحرمني أو يمنحني وضعا اجتماعيا أو شرفيا أو مكانة اجتماعية أو إكراهية "قسرية" أي ان دورك يمنحك القيام بها أو حمايتك منها عن طريق القوة المباشرة أو التهديد بها, من هنا فإن المجتمعات لديها أشكال من الإقناع أو القسر، كما أن لها طريقتها الخاصة في توزيع هذه السلطة، اقتصادية أو أيديولوجية أو قسرية، البعض من علماء الاجتماع يرى أنك يمكن أن تحصل على سلطة إن كنت متعلما, ولكن هناك شرطا لذلك أن تكون المؤسسات في المجتمع قادرة على منحك فرصة الإفلات من سلطة أو الحصول عليها، كما أن بعضها تحرم أو تعطي سلطة نتيجة للثقافة السائدة، في المجتمع القبلي انتماؤك إلى قبيلة، ودرجة وجودها في السلم الاجتماعي تمنحك سلطة أو منعها عنك، في بعض المجتمعات لونك قد يعطيك سلطة أو يمنعك إياها، في المجتمع الأبيض، الأسود عادة محروم من السلطة، تقسيم السلطة في المجتمع لا يكن قياسه كما تقاس درجة الحرارة، ولكن هناك مفاهيم عامة عادة ما تشير إلى تركيز السلطة في أعلى الهرم الاجتماعي، وتقل في الوسط وتنعدم في القاعدة.

وبعد..

مهما درسنا من "قوانين" علم الاجتماع فإن ما ندرسه مجرد إضاءة لتفسير بعض السلوك الإنساني، ولم يرق هذا إلى مستوى العلم المتعارف عليه بعد، فالمصادفة التاريخية، والأحداث الكبيرة والشخصيات العظيمة تؤثر في مسيرة المجتمع، ومن الإشارات المعروفة، أنه لولا كساد الموسم الزراعي في فرنسا وفساد الإدارة وإفلاس الدولة قامت الثورة الفرنسية، هل قلت قاعدة علمية أم تحدثت عن المصادفة؟ كليهما.

سيظل الإنسان دوءبا يسعى إلى معرفة القوانين التي تحكم تطوره، وسيظل يعدل ويلغي ويقبل بعض هذه التعميمات، ولكن جهد علماء الاجتماع، مثل علماء في مجالات أخرى، لا يمكن إنكاره لأنه أضاء لنا كثير من طريق المعرفة الطويل.

محمد الرميحي مجلة العربي اكتوبر 1998

تقييم المقال: 1 ... 10

info@3rbi.info 2016