مختارات من:

حيفا.. في الذكرى الستين على سقوطها

تحسين يقين

خيال شرقي يطل الماضي باسما يغطي جبل الكرمل والبحر... لكن الحاضر حزين حزين


لم أقرأ «عائد إلى حيفا» الا متأخرًا، كان ذلك بعد التخرج.. ووقفت عند الذي ذكره غسان كنفاني عن دخوله حيفا من الشرق وما في ذلك من دلالات تأخر تحريرها الذي ينبغي ان يكون من جهات أخرى.. كما وقفت عند عبارة «سعيد س» لزوجته: «إنك لا ترينها، إنهم يرونك إياها».

كان ذلك في يوم ربيعي.. سلكنا طريق القدس يافا، ثم سرنا مع البحر في شارع البحر، كنت أقرأ ما تيسر من أسماء، وأنظر للكرمل حين بدأ يلوح في عشقه الدائم حين أصر على أن يظل ينظر نحو البحر. تذكرت رحلة «سعيد س» حين عاد إلى حيفا، فحزنت، لكن البحر بمائه الكثير كان يأخذني إلى عوالمه فأنسى قليلًا. حين مررنا بالقرب من بلدة ما، نظرت وتوقعت أن تكون قرية عربية، فقلت ربما هذه هي جسر الزرقاء، جميل أن تكون الاقامة في قرية على بحر. إنها قرية كبيرة، كيف ظلت هذه القرية؟ تساءل قبلي إميل حبيبي حين قال على لسان سعيد أبي النحس المتشائل عنها وعن الفريديس (قرية عربية قريبة من جسر الزرقاء): «وأمر هذه القرية، جسر الزقاء، أمر عجيب، فكيف صمدت هذه القرية لدواهي الحرب والترحيل، مع اختها فريديس? الفردوس? المجاورة، لما قبض الريح بقية القرى العربية على الساحل، ما بين حيفا وتل أبيب? الطيرة واجزم وعين غزال والطنطورة وعين حوض وأم الزينات، وهي أعمق منها جذرًا، وأصلب عودًا؟ أما فريديس? الفردوس? فبقيت لحاجة في نفس يعقوب».

لم أكن أعلم بنهر الزرقاء هذا، ربما درست عنه شيئًا ثم نسيت، وكثيرة هي التداعيات التي صاحبتني في طريقي، في الوقت نفسه كنت خجلًا وأنا أزور المكان، كما كنت متهيبًا.

زرقة البحر لأكثر من ساعة وربع تسحر الناظر، والسائق يركز بنظراته عليّ وعلى زميلي الكاتب أسامة العيسة، والراكبة من قوم الفلاشا حين عرفت أننا عرب حشرت نفسها في أقصى الكرسي الأخير متأففة، فقلنا لها في سرنا: حتى انت..؟ ثم ما لبثت أن غطت في نوم عميق! تحدثنا مع يهود روس، أسامة بعبرية مكسرة، وأنا بإنجليزية مبسطة حتى يستطيعوا فهمها. قلت جريمة التهجير مزدوجة: تهجير أهل فلسطين، وتهجير هؤلاء أيضًا! فلماذا كان التهجير؟ ولِمَ لم يظل كل إنسان في بلاده وذكرياته؟

التقينا بعض العرب الحيفاويين، تجولنا في المدينة من خلال سيارة أحد الأصدقاء، ثم قضينا ساعتين على البحر، سبحنا في الماء والذكريات، كنا ننظر إلى حديقة الكرمل، وإلى النقطة العسكرية التركية، كأنها كانت حامية، وإلى جانبها الدير، وهناك مكان جميل للتطلع نحو حيفا، ترى معظم حيفا، وتلوح في الأفق من بعيد عكا. كفى جمالًا، كفى بحرًا، كفى حزنًا، بالكاد ألملم خجلي وحزني، ينسيني البحر البارد حرارة الذكريات ووصف زوجة «سعيد س» لبيتها في وادي النسناس!

زرت وادي النسناس، دخلنا بعض المحلات، واشترينا، وتحدثنا بالعربية، وشاهدنا جزءًا من الحياة الاجتماعية للفلسطينيين في مدينة مختلطة، وكيف حاكى الجيل الجديد أسلوب عيش الآخرين، لم يعجبنا ذلك، لكن لم نشأ أن نحملهم فوق طاقتهم.. هناك مبررات لسكان المدن خصوصًا من أصبحوا أقلية، أو هكذا يشعرون.

تذكرت ما رواه إميل حبيبي عن حمير القرويين اللاجئين التي ظلت وراءهم «هل هي مأساة الحمير في وادي النسناس، التي ظلت أكثر من سنة سائبة: حمير من الطيرة، وحمير من الطنطورة، وحمير من الزينات صينت من العقل، ومن لغط الاناث، فلم تهاجر، فنفقت دون أن يتحقق من لحمها الدسم غير المرحوم كيوورك، أم هي مهزلة النقانق الشهية، صنعة تل أبيب».

ضحكت على الرواية وعلى الأهبل الذي لم يكن يعرف العبرية، ولم يعرف إلا متأخرًا حكاية صاحب المطعم الذي كان يقدم لحم الحمير، وحزنت على الطيرة والطنطورة وعين غزال واجزم وعين حوض وأم الزينات.. هل درست (محت) تلك الأماكن فعلًا؟

قيل لنا عن مكان عين حوض وكيف أصبح مكانًا لفناني دولة الاحتلال الاسرائيلي. حين عاد الكاتب الصحفي حسن البطل بلدته الطيرة زار مقبرة الطيرة ونظر إلى مدرسة ثانوية شيدها والده وخرجوا دون أن يدرس فيها أطفال حيفا.

هاجس العودة، وأصحاب المكان تستبدّ بي، حسب رواية سعيد في المتشائل الذي لم يكن قد غاب طويلًا عن حيفا، فإن أصحاب البيوت الذين ظلوا هناك بعد حرب عام 1948 كانوا متهيبين من الذهاب إلى بيوتهم:

وقد ذكر إميل حبيبي في مكان آخر أمر هذه العودات (جمع عودة): «رجال ونساء، من غزة، ومن الضفة الغربية، ومن عمان، بل حتى من الكويت، عبر الجسر، يعبرون أزقتنا في صمت، ويتطلعون نحو الشرفات والنوافذ في صمت، وبعضهم يطرق الأبواب ويسأل في أدب أن يدخل ليلقي نظرة وليشرب جرعة ماء، ثم يمضي في صمت، فقد كان هذا بيته.

وبعضهم يقابله سكان البيت بابتسامة شفقة، وبعضهم يقابله سكان البيت بابتسامة شقاء، وبعضهم يدخلونه البيت، وبعضهم لا يفتحون الباب في وجهه.

وبعضهم لا يطرق الأبواب بل يجول بعينيه باحثًا عن صاحب سحنة سمراء عابر، فيستوقفه، فيسأله: هل كان يقوم هنا بيت من حجارة مكحلة؟ فإما أن يقف عابر السبيل، صاحب السحنة السمراء، ويستذكر، ويتذكر، وإما أن يقول له: لقد ولدت بعدها ياعماه!».

ترى كيف تفسر هذه العودات؟ ولماذا نعود إلى الماضي، الى روايات أهل حيفا عنها؟ هل لتأكيد أنه كانت هنا يومًا حيفا: المدينة العامرة.

كتابات الأدباء الفلسطينيين في سيرهم الذاتية مثل الدكتور إحسان عباس تدل على أن حيفا كانت مدينة حديثة عامرة قبل عام 1948:

«وكان في آخر الشارع الذي يقع فيه المسكن عمارة فخمة يسكن في أحد أدوارها آل الزيبق، وقد تعرفت على هنري وأخيه توفيق، بل أصبحت أزورهما في بيتهما أو نذهب معًا في الصباح إلى المدرسة، وكان يلفت انتباهي قبل أن نصل المدرسة، بقليل مدرسة تدعى «المدرسة الإنجليزية للبنات» وكنت أعجب بأزيائهن الموحدة وجمال الصبا لديهن».

«وكنت اعود من المدرسة بعيد الرابعة سالكًا الطريق الطويلة إلى البيت، لتقل حاجتي للجلوس إلى الطاولة، فالجلوس إليها يُغري بالقراءة والكتابة، وقد أخذ المساء يلف الأفق، وكنت أتعمد التأخر في العودة لأني كنت أقف عند حائط المقبرة القريبة من جامع الاستقلال، وهناك أرى الكتب المستعملة مصفوفة للبيع بمحاذاة جدار المقبرة، فأتوقف لأقرأ عناوينها. وحين عدت ذات يوم من القرية إلى المدينة، ووصلت جامع الاستقلال اشتريت صحيفة ذلك اليوم (سنة 1935) ورأيت فيها صورة الشيخ عز الدين القسام، وعرفت انه استشهد، فغامت الدنيا في عيني لكثرة الدموع».

حين ردد الحيفاويون الذين التقيناهم أسماء الأحياء العربية مثل وادي الجمال، وادي الصليب، الخليصة.. عدنا إلى تلك الحياة التي كانت هناك.

هل أعود إلى هذه الأماكن: أين هو جامع الاستقلال؟ هل أسلك درب إحسان عباس الطفل من المدرسة إلى البيت لأتوقف كي أقرأ في الكتب المستعملة عند حائط المقبرة؟ وهل مازال هناك بيت ومدرسة ومساجد؟ هل أصبح ذلك لقومٍ آخرين؟ إذن فلماذا نأتي إلى هنا؟

حيفا مكان أكثر من رائع، جبل على بحر، مطل مدهش حقًا، على جبل الكرمل، سرنا وأوراق الزهر لوّنت الشارع.

يدور البحر حول المدينة، عندما يدخل البحر في اليابسة يقال «خليج»، وعندما يدخل البر في البحر يقال «رأس»، ولأن البحر يدور من جهة الجنوب قليلًا والغرب، تحس أن المكان يشبه ولو قليلًا الجزيرة المحاطة بالمياه.

حين وقفت على مكان متوسط ما بين النظرة إلى الغرب والشمال والنظرة إلى الجنوب، كان الموج يلمع إلى جهة يافا، يكاد الموج يبيض ويزداد بياضه، ثم يلتقي مع بياض الأفق، ثم تتلألأ قطرات ماء الأمواج.

في الغرب والشمال، تطل السفن كبيرة قريبة من الميناء، وفي الليل ظهرت أضواؤها، فخلت نفسي أحد روادها فتذكرت قصصًا وروايات وأفلاما وتجارب لي في ركوب الماء..

في بيت أبو خالد السيد أسعد عودة رجل مثقف ومتقاعد، في حي الكبابير الذي كان قرية قبل عام 1948 على جبل الكرمل، مشهد البحر من جهة ومشهد السلاسل الجبلية على الكرمل، مرتبة وقوية، تحدت أكثر من نصف قرن ولم تخرب، مباركة الأيدي التي صنعت. هناك كنيسة، دير، أبقار ترعى، تناولنا إفطارنا، لكن عيوننا كانت تأكل البحر، هناك ما يشبه اللسان، حين تنظر إلى جهة الجنوب.. إلى يافا.. تحس بشكل الأرض حول البحر، لم ننتبه له الا بعد أن صعدنا الكرمل.

لا أدري لم أحس من داخلي أن المكان مكاني؟ كنت أحذف مشاهد وأقيم مشاهد أخرى، لم تذهب الواقعية السياسية ما رسخ بداخلنا من إيمان بالحقوق.

وحيفا مدينة تعددية قبل عام 1948، وظلت محتفظة بشيء من تعدديتها، يطلقون عليها اسم مدينة مختلطة، لم يعجبني اللقب الدخيل عليها.

كان من الممكن أن تكون حيفا قد تابعت تطورها الطبيعي لجميع ساكنيها والذين وفدوا اليها للعمل والاستيطان قبل عام 1948 لو لم تسقط وتقع فريسة الاحتلال، حيث أصبح تطورها مشوهًا بسبب تهجير أصحابها الأصليين، وزيادة عدد الأغراب فيها على عدد ناسها الذين ظلوا هنا وهناك وتجمعوا للعيش فيها!

حيفا هذه كانت مدينة التحديث والحضارة، بل عاصمة للتجمعات المدنية والقروية.. «ومرت أكثر السنة ونحن في القرية، إلا أننا كنا نزور المدينة بين الحين والحين، نكتري شاحنة، ويحشر عدد غير قليل من أبناء القرية فيها، ونذهب جميعًا لمشاهدة فيلم سينمائي في المساء، وعند انتهاء الفيلم نحتشد في الشاحنة ونعود ليلًا إلى القرية، وكان أكبر مشجع لنا أن يكون الفيلم لمحمد عبد الوهاب، إذ إن ما كان يهمنا من الفيلم حينئذ هو الأغاني، لا قصة الفيلم ولا حبكته ولا شخصياته الأخرى.

كان في منزل الشيخ فوتوغراف، لا أدري كيف أو متى وجد هنالك، وكان مصدر تسلية لنا ولمن يزورنا من أبناء القرية. كنت قد رأيت الفتاة في إحدى زياراتها لبيت الشيخ، بصحبة أمها؛ جلستا على طراحة، وكنت بعد الغداء جالسًا إلى الطاولة، وظهري للجالسات.

وكنت ذات يوم أمشي متجهًا في شارع اللنبي نحو ساحة الحناطير برفقة حسني حسن أحد زملائي في المدرسة، وبينما نحن نمشي في أول الشارع واجهنا شاب وبصحبته فتاة جميلة وقد شبكا ذراعيهما معًا، قال حسني بالإنجليزية (very beautiful) يعني الفتاة.

ولكني لم ألبث أن اكتشفت منافذ أخرى في المدينة، فقد ذهبت إلى سينما (عين دور) - وهي لليهود - مع زميلي سهيل النبهاني».
كيف عاش من بقي في حيفا؟

ترى كيف عاش من ظل هنا وسط السلب؟ كانت بلادهم قد احتلت، وكان لا بدّ من دفع ضريبة الوجود في ظل الاحتلال، في وادي النسناس (ولا ادري لم كانت التسمية؟ هل كان ثمة نسناس في المكان؟) مكتوب على أحد جدران الحي درب إميل حبيبي، وقد اقتبسوا فقرة من كتاب المتشائل، ربما تتحدث عن سر وجود وبقاء العرب في حيفا..

«لا لا يامعلم، ليست حكاية السمكة الذهبية، وليست غيرها من حكايات ألف ليلة وليلة، هي السبب في ضياع ولدي، وحيدي ولاء، فلو انطلق هذا الخيال الشرقي المكبوت، الذي تنفس بألف ليلة وليلة، لعانق النيرين.

ما قولك بالفلاح المسكين، الذي خاف على عروسه من كلام الناس، فوضعها في صندوق حمله فوق ظهره وقام يحرث أرضه وهي فوق ظهره يومًا يومًا. فلما التقاه الأمير بدر الزمان، فسأله عن سبب هذا الصندوق محمولًا فوق ظهره، فأخبره، فأراد الأمير أن يرى بعينيه، فأنزله وفتحه، فإذا بعروسه مضطجعة، في الصندوق فوق ظهر زوجها، مع الشاب علاء الدين، أليس في الأمر عبرة يعتبرها مصدقو النهاشات في الأعراض، المحمولات، صونًا على ظهور رجالهن في صناديق؟

ولولا هذا الخيال الشرقي هل استطاع عربك، يا معلم، أن يعيشوا في هذه البلاد يومًا واحدًا؟ فأنت، في كل سنة في عيد الاستقلال، ترى العرب يرفعون أعلام الدولة ابتهاجًا، اسبوعًا قبل العيد وأسبوعًا بعد العيد، وتتزين الناصرة بأكثر مما تتزين به تل أبيب من أعلام خافقات. وفي وادي النسناس بحيفا، حيث تآخى العرب واليهود الفقراء، يعرف بيت العربي من بيت جاره اليهودي بأعلام الدولة الخفاقة فوق بيت العربي فحسب، أما بيت اليهودي فحسبه أنه يهودي، وكذلك السيارات في عيد الاستقلال، تعرف قومية صاحبها بأعلامها الخفاقة، فلما سألت أحد أبناء قومي عن السر في هذا الأمر، اجاب: خيال يا أخ! هؤلاء أوربيون خيالهم باهت، فنرفع الأعلام حتى يروا بعيونهم.

قلت: فلماذا لا يرفعون الأعلام هم أيضًا؟

قال: خيال، أيضًا، يا أخ! هم يعرفون أن خيالنا شرقي،، نفاذ، ترى ما لا يرى. فنرى الأعلام وهي مطوية في الصدور.

ألم يحاول.. أشكول أن يحول الحكم العسكري إلى شيء يرى ولا يرى، فرأيناه، على الرغم من ذلك، في أوامر الاقامة الجبرية وفي أخاديد الجروح في خدودنا؟ خيال، يا محترم.

والشاب العربي، الذي صدم بسيارته سيارة أخرى في شارع ليلينبلوم في تل أبيب، ما كان ينقذه سوى خياله الشرقي؟ نزل من سيارته وهو يصرخ: عربي، عربي فتلهى الناس بضرب الضحية حتى ولى أخونا الأدبار.

والنادل شلومو، في أفخم فنادق تل أبيب، أليس هو سليمان بن منيرة، ابن حارتنا؟ ودودي، أليس هو محمود؟ وموشى، أليس هو موسى بن عبد المسيح؟ فكيف كان يرتزق هؤلاء، في فندق أو في مطعم أو في محطة بنزين، لولا الخيال الشرقي وحكاية السمكة الذهبية، وجبل المغناطيس، في وسط البحر الهائج، فلا تستطيع أن تشق عبابه بقاربك الا إذا امتنعت عن ذكر الله سبحانه وتعالى على لسانك مهما يمج الموج وتعصف العاصفة؟».

إنه نوع من التكيف في العيش مع الغزاة، ضريبة دفعها أهل حيفا ومازالوا يدفعونها. فالمعلمة الحيفوية الحسناء قالت لي تختصر أسئلتي: إنها لا تستطيع أن تعلم التاريخ الحقيقي، وإنها ملتزمة بالمنهاج الرسمي لدولة الاحتلال الاسرائيلي، وإنها تحاول أحيانًا تمرير بعض المعلومات وإنها تخشى على وظيفتها إن قامت بما تقتنع به.

الحداثة الجديدة بعد عام 1948 متكلفة، وهي في الواقع استمرار لما قبل النكبة حيث كانت حيفا كغيرها من الحواضر الفلسطينية على الساحل عامرة، لقد سلب الغزاة حداثتنا الأولى.

أتأمل المدينة الجديدة، فأرى التوسع العمراني الجديد:

لقد فهم ذلك «سعيد س» في «عائد إلى حيفا» حيث قال: «إنك لا ترينها (عن حيفا) إنهم يرونك إياها»، بمعنى ان الغزاة يريدون نقل رسالة بأنهم يستحقون هذه البلاد?!

أما من سيتمرد على هذا الوضع كغير حال المعلمة العربية الفلسطينية التي لم تتمرد، فسيكون له وضع آخر.

المرأة التي مرت بأطفالها بالقرب من المركز العربي اليهودي المشهور في حيفا، في وادي النسناس حين سألتها سريعًا كيف الحال: ردت: محبوسين.

الشيخ ابن السبعين أو أكثر تحدث واول ما قال عن الوضع انه احتلال «عندما جاء الاحتلال» يقول هذا بعد 58 عامًا.. وبسبب بقاء جزء من العرب الفلسطينيين هنا مهما كان وصفنا ووصف اميل حبيبي لهذا البقاء فإن ذلك افضل من غيره.

اقرأ ما كتبه الاديب العراقي (اليهودي) سامي ميخائيل في زاوية أخرى من وادي النسناس تحت عنوان «درب سامي ميخائيل» عن العرب وعاصفة النخيل وصفة الكرم وحماية الضيف.

كلا الأديبان من دعاة التعايش، لكن هذا التعايش في الحقيقة ليس من الداخل، انما هي تعددية شكلية، والا فكيف أصبحت الأكثرية العربية أقلية؟ يوجد في حيفا أكثر من 35 ألف عربي، هذا خبر حسن، لكن كم يوجد من غير العرب؟

أنظر إلى مدينة حيفا من علو الكرمل، وأحاول أن أراها قبل 58 عامًا، وان اتخيل منظر أهلها الذين هجروا من ديارهم، هؤلاء إلى الشرق مضوا إلى جنين ومناحيها، وهؤلاء إلى عكا ومن هناك إلى انحاء المعمورة..

سقوط حيفا

ولنترك وليد الخالدي يروي لنا كيف سقطت حيفا، وليستدل القارئ من هذه الرواية ما يشاء: «كانت حيفا المركز التجاري الصناعي الاقتصادي لعرب فلسطين، كما كانت القدس مركزهم الروحي والسياسي والإداري، ويافا مركزهم الاجتماعي والثقافي والرياضي، وكان مجمل عدد سكان حيفا نحو 140 ألف نسمة، يشكل اليهود أكثر من نصفهم بقليل، وكانت أحياء المدينة منتشرة على المنحدر الشمالي لجبل الكرمل قبالة الميناء، وكانت أحياء اليهود في أعالي الجبل (هدار هكرمل) تشرف كليًا على الاحياء العربية، بما فيها البلدة العربية القديمة.

شهدت حيفا كسائر مدن فلسطين، منذ قرار التقسيم اشتباكات كثيرة بين الطرفين وحوادث قنص وتفجير لا تكاد تتوقف حتى تندلع من جديد، لكنها بقيت دومًا ضمن حدود معينة. وكانت القوات البريطانية تتموضع على طرق المدينة الرئيسة وفي هدار هكرمل بين الاحياء اليهودية المطلة والأحياء العربية السفلى. وتجاوبًا مع طلب الجنرال ستوكويل stockwellK القائد البريطاني، أنشئ في أول ابريل 1948 مكتب ارتباط بين الجيشين البريطاني والعربي إلى أن جاء وقت احتلال حيفا بموجب الخطة «د»، وهو الاحتلال الذي قررت قيادة (الهاجاناه) القيام به فور سقوط طبرية، وخصوصًا بعد أن لمست ما لمست من موقف الجيش البريطاني في طبرية. وقد سمّت القيادة الصهيونية عملية احتلال حيفا «مسباراييم» (Operation Misparayim) وجعلت توقيتها في 21 - 22 أبريل.

في الساعة الحادية عشرة من صباح يوم الاحد الموافق في 21 أبريل، استدعى الجنرال ستوكويل إلى مقر قيادته قائد الحامية العربية، أمين عز الدين (اللبناني المعيّن من قبل اللجنة العسكرية). ومن دون مقدمات أو سابق إنذار، قال له ما فحواه أنه أعطى قواته امرًا بالانسحاب من المناطق الواقعة بين الأحياء العربية واليهودية، وأنه لن يتدخل في أي صدام يقع بين الطرفين، وأن كل ما يعنيه هو تأمين سلامة قواته وإتمام جلائها خلال ما تبقى من أيام الانتداب، فيجيب جورج معمر، ضابط الارتباط الذي رافق عز الدين، بأن كلام الجنرال يناقض تصريحات بريطانيا المتتالية بأنها وحدها المسئولة عن النظام والأمن، كما تناقض جميع الترتيبات المتفق عليها في لجنة الارتباط. ويجيب الجنرال بدوره، بأنه لا يستطيع مع الأسف تغيير الترتيب الذي ذكره.

ويطلب في إثر ذلك عضو بارز في اللجنة القومية، هو فريد السعد، موعدًا مستعجلًا لمقابلة الجنرال ويلح في الطلب فلا يعين الجنرال له موعدًا إلا في اليوم التالي، 22 ابريل، الساعة التاسعة والنصف صباحًا. في هذه الأثناء، وابتداءً من الساعة السابعة مساء يوم الاربعاء، 21 ابريل، شرع اليهود في هجومهم العام، مستعملين مدافع الهاون الثقيلة بكثافة، من دون أي تمييز في الأهداف. كما اخذوا يملأون البراميل بالمتفجرات ويدحرجونها نحو الأحياء العربية الدنيا، فأتى ذلك على الكثير من المنازل، وقتل وجرح كثيرون من نساء وأطفال ورجال، وجرت اتصالات بالجيش البريطاني بغية إرسال نجدات فامتنع عن ذلك. واستمر الهجوم اليهودي طوال الليل وخلال يوم الخميس 22 ابريل، وطلب العرب إلى الجيش البريطاني إرسال سيارات إسعاف لنقل الجرحى فامتنع، كما طلبوا إليه على الاقل انتداب حرس عسكري لمرافقة سيارات الإسعاف العربية فامتنع أيضًا. وواصل اليهود هجومهم الشديد وصعدوه فانطلق الآلاف من النساء والأطفال المذعورين في اتجاه الميناء وقتل العشرات منهم داخله برصاص القناصة اليهود. وبلغ عدد اللاجئين في الميناء نحو 10 آلاف فأخذت السلطات البريطانية تضعهم في القوارب والمراكب وتنقلهم إلى عكا.

في هذه الاثناء، عقد الاجتماع المقرر الساعة العاشرة صباح الخميس 22 أبريل، بين الجنرال ووفد عربي ألفه فريد السعد. وطلب توقيف الهجوم اليهودي الذي اصطبغ بصفة مجزرة بشرية، واحتج الوفد بشدة على موقف الجنرال طالبًا منه إعادة النظر فيه. فرفض الجنرال أن يفعل شيئًا إلا إذا قبل العرب بعقد هدنة مع اليهود، وأعرب عن استعداده لـ «التوسط» من أجل ذلك. وعبثًا حاول الوفد زحزحة الجنرال عن موقفه. أخيرًا، ورغبة منه في وضع حد سريع لتقتيل المدنيين العرب، قال الوفد إنه مستعد لعقد الهدنة وطلب أن يخبره عن شروطها، فما كان من الجنرال الا أن انسحب من الغرفة مدعيًّا انه سيتصل باليهود، وعاد بعد فترة لا تتجاوز 15 دقيقة وتلا على الوفد مسودة شروط مطبوعة تشكّل عمليًا تسليمًا من دون قيد أو شرط (Unconditional Surrender)، فحواها تجريد العرب كاملًا من كل أنواع السلاح، وتسليمها خلال 3 ساعات، وتجّمع جميع الذكور (الأجانب) في مكان معين على ان يغادروا فلسطين خلال 24 ساعة، وتعقب ذلك فترة منع تجوال يمارس بعدها العرب حياتهم (العادية). اعترض الوفد العربي على هذه الشروط، وطلب زيادة شرط ينص على أن التوقيع لا يتضمن أي اعتراف بقيادة (الهاجاناه)، أو بأي تغيير أو تبديل في وضع البلاد السياسي، فوعد الجنرال بنقل الشرط إلى اليهود وطلب أن يجتمع الوفد العربي إلى الوفد اليهودي بحضوره في الساعة الرابعة من بعد ظهر اليوم ذاته (الخميس، 22 ابريل).

تم الاجتماع مع اليهود بحضور الجنرال في الموعد المحدد، ورفض اليهود إضافة الشرط العربي، فشعر الوفد بضرورة استشارة إخوانه في المدينة وطلب مهلة 24 ساعة آملًا أيضًا بالاتصال بالدول العربية. فرفض كل من اليهود والجنرال منح هذه المهلة، واعلن الجنرال أمام اليهود انه يجب توقيع الهدنة (هذا المساء حتى يتحاشى العرب وقوع 300-400 إصابة أخرى بينهم). ولم يوافق، على الرغم من إلحاح العرب الشديد، على تأجيل الاجتماع الا حتى الساعة السابعة من مساء ذلك اليوم.

فور خروج الوفد من الاجتماع إلى الجنرال واليهود، دعا أكبر عدد من رجالات المدينة للتشاور فيما آلت اليه الأمور. وحضر عدد من المحامين والأطباء والموظفين والتجّار وأصحاب الاملاك، وسئل نائب قائد الحامية يونس نفّاع (الذي خلف أمين

عز الدين في منصبه بسبب مغادرة عز الدين المدينة في اليوم السابق) هل لديه قوة كافية للاستمرار في المقاومة فامتنع عن الرد بحجة أن هذه المسائل عسكرية ولا يستطيع البحث فيها علنًا. وبعد تبادل الآراء، فوّض المجتمعون إلى الوفد الاستمرار في المفاوضة وعمل ما يراه ملائمًا منعًا لتقتيل الأبرياء، بما في ذلك توقيع هدنة يراها ملائمة.

تداول الوفد مليًا أمر الهدنة بعد الاجتماع العام وقبل لقاء اليهود ثانية بحسب الموعد في الساعة السابعة من مساء ذلك اليوم، ووصل إلى اقتناع بأنه على الرغم من التفويض الذي حصل عليه خلال الاجتماع، فإنه ليس له أن يلزم سكان حيفا العرب بالاعتراف بسلطة (الهاجاناه)، مع كل ما ينجم عن ذلك من نتائج سياسية. لذلك قرّر رفض قبول الهدنة، والطلب من السلطات البريطانية الاستمرار في إجلاء سكان المدينة التي كانت قد بدأت به في الميناء.

دخل الوفد قاعة الاجتماع وأعلن رفضه توقيع الهدنة وطلبه تسهيل جلاء السكان، فأبدى الجنرال أسفه لذلك كما عبر رئيس البلدية اليهودي الذي كان حاضرًا الاجتماع عن أسفه، وتأجل الاجتماع إلى اليوم التالي للبحث في تدابير الجلاء.

وفي يوم الجمعة، 23 ابريل، اجتمع الجميع لدرس مشروع ترحيل العرب، وقدّم الوفد العربي مذكرة إلى الجنرال ستوكويل تستشهد بقوله إنه إذا لم يقبل العرب شروط (الهاجاناه) لعقد هدنة فإن العرب سيتكبدون بين 300 - 400 إصابة إضافية، كما ذكرت المذكرة أنه على الرغم من أن الجلاء (يجري بناء على طلبنا لكن الدافع الأكبر لهذا الطلب هو رفضكم اتخاذ أي إجراء لحماية أرواح الأهلين وممتلكاتهم). ورفض الجنرال تسلم المذكرة.

في الاجتماع نفسه قدّم الوفد العربي مذكرة ثانية إلى الطرف اليهودي، تحتج على استمرار إطلاق الرصاص، وقتل العرب، واقتحام منازلهم وسلبها وسرقة متاجرهم وسيّاراتهم، واعتقال المئات منهم من دون ان يعرف مصير المعتقلين. وطالبت المذكرة بأن يتمتع كل عربي يبقى في المدينة بحرية تامة في الإقامة والعمل، وبألا يتعرض لأي أذى، وبأن يحافظ محافظة كافية على أملاك الذين يغادرون المدينة. وراوغ اليهود في التجاوب مع هذه المطالب، وما لبثوا أن أسسوا خلال أيام (إدارة لأملاك العدو) معتبرين كل عرب حيفا أعداء، وأن أملاكهم المنقولة وغير المنقولة تنطبق عليها أنظمة حراسة أملاك العدو، فحالوا بذلك دون أن يأخذ حتى الراحلون منهم سوى أبسط الأغراض الشخصية والعائلية. وهكذا أقفرت حيفا بدورها من العرب، وهبط عددهم فيها خلال أسبوع إلى نحو ثمانية آلاف، واقتفى الباقون آثار من سبقهم من سكان طبرية نحو شتات لا نهاية له».

في كتابها «حيفا العربية (1918 - 1939) التطور الاجتماعي والاقتصادي» للدكتورة مي ابراهيم صيقلي الذي نشرته مؤسسة الدراسات الفلسطينية عام 1997 تبين كيف تطورت المدينة حتى أصبحت إحدى المدن الرئيسة على شرق المتوسط، ورصدت التغيرات الاجتماعية والاقتصادية والديمجرافية والهجرات اليهودية والخطط البريطانية الاستعمارية المتحالفة مع الصهيونية من أجل السيطرة اليهودية على المدينة واقتصادها، مشيرة إلى أن حيفا اختيرت لتكون نقطة ارتكاز للاستيطان اليهودي ومن ثم للتوسع جنوبًا إلى حيفا وشمالًا إلى طبرية كما خطط لذلك الصهيوني آرثر روبين، والكتاب يصف ويحلل العلاقات بين السكان واصولهم، وعند تصفح عائلات حيفا رأينا ثمة ارتباط بين العائلات والمهن التي يعمل فيها ابناؤها.

أعيد التأمل في رواية الخالدي، وأعيد رسم الصورة كما هي، كان المشهد متحركًا كالفيلم.. مشهد الضابط الانجليزي وبوجه ذي ملامح الغدر، تدحرج البراميل، إطلاق الرصاص والقنابل من فوق إلى تحت، صمت الجيش البريطاني وكيف كان يقضي وقته، ولم يشارك بالإسعاف ولا بحماية الإسعاف، لجوء الحيفاويين إلى الميناء والرصاص يلاحقهم ويسقط منهم، المسودة المطبوعة الجاهزة من صك التسليم والتسلم بلا شرط، مشهد المحامين والأطباء والتجار والمفاوضات..

تذكرت، وكيف لنا الا نذكر!، كيف في زحمة الاحداث رواية عائد إلى حيفا، وكيف ترك «سعيد س» وزوجته ابنهما في البيت بعد أن اعتقد كل واحد منهما ان الطفل مع الطرف الآخر ! وهل ثمة رمز ما في هذه الرواية العميقة؟

لقد ركز الصهاينة على حيفا لكونها مركزًا مهمًا، ولكونها في الساحل حيث يودون بناء دولتهم هناك في المرحلة الأولى، وكيف تزايد عدد سكانهم من مئات إلى آلاف إلى عشرات الآلاف إلى النصف عشية حرب عام 1948م وكيف غدروا بالحيفاويين الذين عاشوا معهم, لولا فتنة الصهيونية, بسلام، وكيف كان الوضع سيكون لهذه المدينة لو لم يشوه الاحتلال روح المكان. أبعد خيالي الشرقي، وتخيلي لسقوط المدينة وأتأمل حديقة البهائيين الكاملة الروعة بمساطبها الكثيرة، وكيف تستلقي من فوق إلى تحت وصولًا إلى شارع عباس ثم البحر.. ننظر نحو البحر حيث الخضرة وتناسق الأزهار والأشجار، فتحس بأنك مسحور بهذا الجمال ثم لتصحو بعد ذلك ويخف تأثير السحر تدريجيًا، وتعود إلى الواقع الأليم

على الشاطئ، كان هناك عرب، فلسطينيون من القدس وحيفا وغيرهما، وكان هناك روس يهود، كأن هذا الشاطئ لهذه الطبقات الاجتماعية، كان هناك كبار في السن يتأملون البحر مثلي، أو أنا مثلهم.

هل التاريخ والذكريات والتأمل يزيد في عمر الإنسان ويجعله كهلًا في غير أوانه؟ وهل للمكان كل هذا السحر والشوق?!

تحسين يقين مجلة العربي مايو 2008

تقييم المقال: 1 ... 10

info@3rbi.info 2016