عرض: كامل يوسف حسين
يقدم لنا هذا الكتاب الإطلالة الأولى الشاملة الحقيقية على الرؤية الإسلامية للحملات الصليبية، التي حركتها رغبة مسيحيي أوربا في وضع الأماكن المسيحية المقدسة، وفي المقام الأول بيت المقدس تحت حمايتهم، أو هكذا على الأقل كان الهدف المعلن.
استمرت الحملات الصليبية منذ العام 1095م مع توجيه البابا إيربان الثاني دعوته الشهيرة إلى امتشاق السلاح، حتى القرن الخامس عشر الميلادي، وربما بعد ذلك، على الرغم من أن الكثيرين يشيرون إلى سقوط عكا في يد المسلمين في عام 1291، باعتباره النهاية العملية للنشاط الصليبي الجدي ضد المسلمين في المشرق العربي.
هكذا فإن الكتاب الذي نناقشه هنا يعد أول دراسة متكاملة تعالج ظاهرة الحروب الصليبية برمتها منذ إرهاصاتها الأولى حتى نهايتها العملية من منظور إسلامي خالص، فهي إذن دراسة مكرسة ليس لتبين الحقائق في ترتيبها الزمني، بل للاستجابة التفصيلية من جانب المسلمين للوجود الصليبي على أرضهم وما شكله من أخطار داهمة وأضرار محققة.
أما الإعجاب بهذا الكتاب، الذي ألفته د. كارول هيلينبراند، فمرده إلى جمعه بين الرحابة في تناول موضوعه وعمق هذا التناول، وما على القارئ في هذا الصدد إلا أن يلقي نظرة سريعة على الصفحات الست والعشرين الأولى والصفحات الثلاثين الأخيرة لكي يضع يده على المفاتيح الأساسية التي تتيح له مواجهة جوهر الأسئلة التي تكمن في قرار علامات الاستفهام التي يثيرها الكتاب، ففي الصفحات الأولى سيجد نفسه أمام الفهرس الشامل والتفصيلي وقائمة اللوحات والرسمات ومصادرها، وفي الأخيرة سيقف طويلاً أمام كنز المصادر والمراجع الذي تحشده المؤلفة، والذي يعد هو ذاته مساهمة مذهلة بكل المعايير في هذا المجال البحثي. أما الدهشة فمصدرها أنه بين الطبعة التي نقدم هذا العرض من خلالها، والطبعة الأولى للكتاب الصادرة عام 2000 مرت سنوات ليست بالقليلة، ولم يقدر لكتاب بهذه الأهمية أن يترجم إلى اللغة العربية أو على الأقل أن يحظى بالحد الأدنى من الاهتمام الذي يستحقه في العالم العربي، وهي دهشة مبررة تماماً، إذا تذكرنا أن الدكتورة هيلينبراند قد فازت عن هذا الكتاب على وجه التحديد، قبل سنوات قلائل، بإحدى أرفع الجوائز في العالم العربي، وهي جائزة الملك فيصل.
على أني قد أتفهم عدم ترجمة هذا الكتاب حتى الآن إلى اللغة العربية، فهو ليس بالكتاب الذي يترجم بمبادرة فردية من جانب مترجم محترف أو أحد الأساتذة الأجلاء الاختصاصيين في تاريخ القرون الوسطى، بل هو بحاجة إلى مؤسسة أو دار نشر كبرى تتصدى لمثل هذا المشروع، وتتكفل بنفقات حقوق الملكية الفكرية والترجمة والنشر والتوزيع.
وهناك صعوبة حقيقية أخرى في هذا الكتاب، ربما كانت هي التي حالت دون ترجمته حتى الآن، وقد عرفت أهوالها عن قرب من خلال التجربة الشخصية خلال ترجمتي لكتاب «إمبراطوريات الرياح الموسمية» الصادر عن مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية في أبوظبي، الذي يقع في قرابة ألف صفحة، منها مائة صفحة تضم هوامش المترجم، حيث هناك مقتطفات مطولة على امتداد الكتاب من مصادر ومراجع عربية، ولكي تترجم لابد من الرجوع إلى الأصل العربي، ومن ثم فإن مترجم هذه النوعية من الكتب لا يقوم بمهمات المترجم فحسب، بل يؤدي مهمات الباحث والمحقق أيضاً، وهي مهام لا ينقصها الصعوبة ولا التعقيد، ومن المحقق أنها تقتضي كثيرًا من الوقت والجهد والترحال بين المدن والعواصم العربية والأوربية أيضاً.
من المهم وضع النقاط على الحروف، قبل المضي قدماً في مراجعة هذا الكتاب، فمؤلفته - لمن لم يتابع التعريف بها لدى فوزها بجائزة الفيصل ــ هي الدكتورة كارول هيلينبراند، أستاذة اللغة العربية والدراسات الإسلامية بجامعة أدنبرة، وهي تنتمي إلى عائلة عرفت تقليدياً بإسهامها الكبير في هذه الدراسات، ويكفي أن نتذكر في هذا الصدد الإسهامات الجليلة لبروفسور روبرت هيلينبراند أستاذ الفن الإسلامي بجامعة أدنبرة أيضاً ومؤلف السفر العظيم الذي يحمل عنوان «العمارة الإسلامية».
ليس من قبيل المصادفة أن يبادر الباحث ياسر سليمان إلى تأكيد أن هذا الكتاب يتصدى للعديد من التحديات، فهو كتاب بحثي معمق من دون أن يكون جافاً، وهو سهل التناول من دون خفة ولا انزلاق إلى تعميمات لايبرهن عليها، وهو يتناول قضايا شديدة الأهمية بالنسبة إلى المؤرخ الأقل اهتماماً بالسرد الزمني للوقائع منه بمؤسسات المجتمع التي تحرك تقدم التاريخ، وهو يغطي موضوعات تهم دارسي الفقه ومن يرغبون في التعمق في طبيعة الحرب والكيفية التي تنير الماضي بوضوح وحسم الحاضر.
ومن المؤكد أنه ليس من قبيل المصادفة أيضاً أن يبادر الدكتور عبدالعظيم أنيس إلى الكتابة تحت عنوان «الحروب الصليبية ليست مجرد تاريخ عفى عليه الزمن» إلى القول عن الكتاب الذي نناقشه هنا إنه: «كتاب أسطوري بكل المقاييس من ناحية اعتماده على المئات من المراجع العربية والإسلامية عند إعداده، ومن ناحية دسامة البحث وعمق التحليل وموضوعيته».
في الإطار نفسه يندرج تناول مطبوعة «لندن ريفيو أوف بوكس» المتخصصة في عروض الكتب لهذا الكتاب في مقال ضاف، يؤكد أن هذا العمل المميز «معلم بارز في ميدان تخصصه».
وبدوره يقول بروفسور جوناثان رايلي سميث، الأستاذ في إمانويل كوليج بجامعة كامبردج، عن هذا الكتاب إنه: «عمل رائد، لا تكمن قيمته في السرد التفصيلي للوقائع، بل كذلك في الطريقة التي ترشد بها كارول هيلينبراند المؤرخين الغربيين إلى مادة المصادر المجهولة بالنسبة إليهم أو المتاحة في ترجمات جزئية وتطلع قراءها على عقلية مسلمي القرون الوسطى، مقدمة زاوية مختلفة تماماً يتم النظر منها إلى الحركة الصليبية. وبوضع الأفكار الحديثة في سياق الكتاب، فإن الكتاب يمكن القراء في العالمين العربي والإسلامي من أن يتفهموا بشكل أفضل الأحداث التي تشكل الحاضر إلى حد ما».
تساؤلات وعلامات استفهام
هذه الاشادات العديدة بالكتاب تفتح المجال لحشد من الأسئلة المهمة، التي يتعين التصدي لها والوصول إلى إجابات عنها.ما الذي تحاوله كارول هيلينبراند في هذا الكتاب الهائل على وجه الدقة؟ ما الذي تريد أن تقوله؟ هل تسرد لنا مجدداً الوقائع العسكرية والسياسية للحروب الصليبية مكررة بذلك جهوداً سبق أن بذلت بأقلام أخرى؟ هل تحدثنا عن آليات الصراع بين الغزاة وبين من يحاولون التصدي لهم؟ هل نجحت حقاً في سبر أغوار المصادر والمراجع الإسلامية لتجعل من العنوان النادر وغير المألوف لكتابها شيئاً مبرراً؟ ما الذي يكمن وراء هذا الاهتمام الكبير بكتابها الذي سبق أن رأينا لمحات منه شرقاً وغربا؟ وأخيراً ما الذي يجعل كتابها مختلفاً عن الجهود التي قدمها بعض الباحثين العرب والمسلمين المحدثين في تناول هذا الموضوع عينه؟
إن ما يجري بحثه على امتداد الكتاب هو المنظور الإسلامي للحملات الصليبية، على نحو ما تتكشف أبعاده من خلال المراجع والمصادر الإسلامية، ويلفت نظرنا أن قدراً ليس باليسير من الترجمات لما تطرحه هذه المراجع والمصادر في العديد من المواقف والمنعطفات التاريخية هو من ترجمة المؤلفة نفسها، وهي ترجمة أعدت خصيصاً لهذا الكتاب. نحن هنا إذن على موعد مع محاولة الباحثة الولوج إلى عالم التركيبة الذهنية للمسلمين في العصور الوسطى، حيث تضع المؤلفة تحت المجهر طبيعة مشاعر المسلمين ورد فعلهم حيال دخول الصليبيين القادمين من أوربا إلى بلادهم وإعمالهم السيف والمشعل فيها.
تقسم المؤلفة دراستها، من حيث الشكل، إلى تسعة فصول، الأول منها هو مفتتح استهلالي للدراسة، يشمل منهاج الدراسة وضوابطها ومصادرها عربية كانت أم أوربية، ثم أخيراً استعراضاً تاريخياً موجزاً للحملات الصليبية الثماني، والمقصود بها هنا هي سلسلة الحملات الممتدة منذ الحملة الأولى في عام 1095 إلى سقوط عكا في يد المسلمين عام 1291.
تلك هي البداية. أما النهاية، التي يضمها الفصل التاسع فهي بمنزلة مختتم يحمل عنوان «تراث الحملات الصليبية» وفيه تتصدى المؤلفة للمهمة الصعبة حقاً، وهي الربط بين الماضي والحاضر تمهيداً لاستشراف المستقبل، فوجود دولة الاحتلال الإسرائيلي هو تكرار بلغة مختلفة للحملات الصليبية، ومن هنا تأتي الأهمية الاستثنائية للملاحظات الختامية التي تطرحها المؤلفة اعتباراً من صفحة 613 إلى صفحة 614.
بين البداية والنهاية، تتناول المؤلفة في الفصل الثاني الحملة الصليبية الأولى وردود فعل المسلمين الأولى على قدوم الفرنجة إلى بلادهم. وعبر الفصلين الثالث والرابع التصدي الفعلي من جانب المسلمين للغزو الصليبي، ابتداء من الخطوات الأولى المترددة ثم النضال تحت راية عماد الدين زنكي وسقوط الرها في يد المسلمين، ومن ثم توالي نضال نور الدين زنكي وصلاح الدين والأيوبيين والمماليك وصولاً إلى تحرير عكا.
في الفصل الخامس، نحن على موعد مع تحليل تفصيلي لرؤية المسلمين للفرنجة مع التشديد على الصور النمطية الأخلاقية والدينية، ومن ثم نتابع في الفصل السادس جوانب شتى من الحياة في الفترة الصليبية.
على امتداد الفصلين السابع والثامن، نحن على موعد مع تحليل شامل لما كانت عليه الجيوش والأسلحة والدروع والتحصينات. وهذا الجزء الأخير، المتعلق بعمارة القوة، هو من المتعة والإثارة والقوة بحيث دفع كاتب هذه السطور، في ضوء اهتمامات قديمة بالعمارة، إلى ترجمة هذا المقطع بكامله ونشره، فلعله يفيد من سيقدر له الاضطلاع بترجمة الكتاب كله في نهاية المطاف.
في الفصل الثامن يجد القارئ نفسه مع تحليل ضاف لمسار الحرب، حيث نتابع لمحات من الاستراتيجية العربية والإسلامية، وتتابع الجيش الإسلامي في تحركه ومن ثم في المعارك التي يخوضها وحروب الحصار، ثم نطل على عمليات حصار بعينها، ونضع أيدينا على تحليل بالغ الأهمية لدور القوة البحرية في الحروب الصليبية وأسرار قصور القوة البحرية الإسلامية عن المساهمة في القضاء على المعاقل الصليبية المطلة على البحر المتوسط.
كيف نظروا إلى الفرنجة؟
لا حصر للجوانب المهمة التي يطلعنا عليها هذا الكتاب. لكننا في الفصل الخامس سنتوقف طويلاً عند الكيفية التي كان المسلمون ينظرون بها إلى الفرنجة، حيث يتم تناول الأبعاد الثقافية والدينية للصراع بين المسلمين والفرنجة، وينصب التركيز في الامتداد الزمني الكبير والطبيعة غير المتغيرة للمفاهيم السلبية لدى المسلمين عن شعوب غرب أوربا، وهي المفاهيم التي يمكن العثور عليها في الأدبيات الإسلامية ابتداء من القرن العاشر الميلادي على الأقل. تحيلنا المؤلفة هنا إلى كتابين مهمين هما «كتاب الاعتبار» لأسامة بن منقذ، في ضوء احتكاكه الطويل بالفرنجة من خلال جولات القتال وصولاته معهم ومن خلال المهمات الدبلوماسية التي قام بها في بلاطاتهم، وكذلك «رحلات ابن جبير» الذي كانت لمؤلفه بوصفه أحد أبناء الأندلس معرفة وثيقة بالفرنجة.
وكل من قرأ، بحب وتعاطف، «كتاب الاعتبار» لابد أنه سيلاحظ مدى دقة الإشارة البارعة التي تقدمها لنا المؤلفة، فالفارس العربي الكبير، في أكثر من موضع من كتابه، وبصفة خاصة في الفصل الثامن الذي يحمل عنوان «طبائع الإفرنج وأخلاقهم» يقول عن الإفرنج «إنهم لا يتكلمون إلا بالإفرنجي ما ندري ما يقولون» على نحو ما نجد في صفحة 66 من طبعة دار الكتب العلمية البيروتية الصادرة عام 1999. ويشير إلى امرأة إفرنجية «تبربر بلسانهم وما ندري ما تقول»، وذلك في صفحة 140 من الطبعة نفسها، ويذكر أن رفيقه الغسياني «التفت إلى غلام له كلمه بالتركي ولا أدري ما يقول» وذلك في صفحة 100 من الطبعة عينها، وفي موضع لاحق من الكتاب، وعلى وجه التحديد صفحة 151، يقول: «وهم يتكلمون بالتركي ولا أدري ما يقولون»، وإن كان ذلك لم يمنعه من استعمال كلمات إفرنجية عدة.
وذلك يصب في ما أشارت إليه المؤلفة من أن المصادر الإسلامية توضح أن عدداً محدوداً جداً من المسلمين هم الذين اهتموا بتعلم لغات الصليبيين وإتقانها، وذلك على الرغم من وجود بعض الوعي في صفوف المسلمين بالتنوع العرقي لأعدائهم من الفرنجة، وهو وعي لم ينصرف غالباً إلى تشكيل وعي حقيقي بما يتجاوز وجود لغة واحدة يتحدثها الفرنجة.
بالمقابل حرص ملوك الفرنجة وقادتهم على إتقان اللغة العربية، رغبة منهم في مواصلة البقاء في الأراضي التي غزوها والصمود فيها من ناحية، وخدمة للمصالح التجارية وسواها من ناحية أخرى، وربما ساعدهم على إتقان اللغة العربية صلاتهم بالبنادقة، الذين طالما احتكوا بالعالم العربي، وكذلك إيداع بعضهم سنوات طويلة في السجون العربية ريثما يتم افتداؤهم أو تبادلهم، فضلاً عن حالات الزواج بين رجال ونساء من جانبي الصراع.
ما الذي يبقى منهم؟
سبقت لنا الإشارة إلى أن المؤلفة تكرس الفصل التاسع والأخير من كتابها لتراث الحملات الصليبية، بل إنها تتخذ هذا المفهوم ذاته عنواناً للفصل.
إذا كان السؤال هو: ما الذي يبقى من الصليبيين؟ فإن الإجابة عن هذا السؤال التي تخطر على البال فوراً، والتي تبدو الأكثر بساطة ومنطقية، هي أنه لم يبق منهم إلا أطلال القلاع التي بنوها على امتداد الساحل الشرقي للمتوسط، والتي لايزال بعضها مستخدماً لأغراض عسكرية حتى الآن، كما هي الحال بالنسبة لقلعة الشفيق في جنوبي لبنان.
لكن هل الأمور بهذه البساطة حقاً؟
دعنا نتذكر، ابتداء، أن الظاهرة الصليبية لم تتوقف فجأة بين عشية وضحاها مع تحرير المسلمين لعكا في العام 1291، فقد استمرت الهجمات المتبادلة بين أطراف الصراع على امتداد القرون اللاحقة، وهكذا فإنه لم تكن هناك نهاية مفاجئة أو حاسمة للحملات الصليبية التي ظلت أصداؤها تتردد طويلاً بعد انحسار آخر وجود عسكري أوربي وانسحابه من شرقي المتوسط. هكذا فإن البعض لا يتردد في اعتبار التوغل العثماني في أوربا وصولاً إلى أسوار فيينا بمنزلة رد تاريخي على الحملات الصليبية.
بالمقابل سنجد من لا يتردد في التأكيد على أن الاقتحام الأوربي، ابتداء من السفن البرتغالية المزودة بالمدافع والبارود، للمحيط الهندي، الذي هو بحيرة اسلامية في جوهره، كان امتداداً، بلغة أخرى للحملات الصليبية.