طغت شهرة المازني الناثر على المازني الشاعر, فتأخر الكلام عن شاعريته وإبداعه الشعري, وتقدم الكلام الكثير عن المازني الناقد والمازني المترجم والمازني كاتب القصة والرواية. وليس المازني وحده في هذه الحال. فالعقاد - شريكه الأكبر في التأسيس لجماعة الديوان ونزعتها التجديدية فكرًا ونقدًا وإبداعًا - أصابه ما أصاب المازني, وأكثر. حين عدّه الناس: خاصة وعامة, كاتبًا في المقام الأول لا شاعرًا.
وإبراهيم عبدالقادر المازني (1889-1949) عنوان على فن السخرية في الأدب الحديث: نثرًا وشعرًا, تمتلئ كتاباته وإبداعاته بتجليات هذه النزعة التي أنضجها تكوينه النفسي وعمّقتها قراءاته المختارة في عيون الأدب العالمي وبخاصة الإنجليزي والروسي, وتوقفه - بصورة خاصة - عند النماذج التي تفيض بالتجهم والتشاؤم والقتامة, الأمر الذي جعل شعره يزخر بتأملات فكرية ونفسية عميقة, وتجليات للموت والفراق والرحيل, فضلاً عن الكشف الذي يتاح لقارئه ومتذوق إبداعه عن أعصاب المازني العارية, والهجاء لكل ما ليس يرضيه من الحياة والناس, والمخزون الهائل من الآلام والأحزان التي تمتلئ بها كتاباته, والتي تخفي بين طياتها حبًا عميقًا للحياة, وانشغالاً كبيرًا بها, بالرغم من ظاهر السخرية والتشاؤم.
المازني - بهذا المعنى - شاعر فكر, أو هو شاعر مفكر, شاعر موقف من الحياة والإنسان والكون, تشغله القضايا الكبرى, ويهتز وجدانه وعقله معًا للتجارب العظيمة, ويفسح من شعره مساحة للقلق الإنساني, وصراع الرؤى في عالمه المُتْرع, والبصر النافذ المتشوف دوما لما يتصور أنه اللباب أو الجوهر أو الحقيقة, وكأنه - كما يقول في لغته الشعرية البديعة - يرى من ستور الغيب, أو يطالع في سِفْر الكون الجليل, يقول عن الشاعر وشعره:
يرى من ستور الغيب, حتى كأنما يطالع في سفر جليل المراقم
له خاطر يقظان, ليس بنائمِ يجيشُ بأصداف اللآلى الكرائمِ
صقيل كحدّ الصبح, سمْح كنوره نقيّ كصوب العارض المتراكمِ
وروحٌ كأنّ الكون من فرط رحْبها بها, قطرة في زاخرٍ مُتلاطم
ولَحْظٌ كأنّ البرْقَ ريشتْ سهامهُ يضيءُ حواشي كلِّ أَغْبر قاتمِ
وتُطلعه فجرًا على الناسِ واضحًا يُريهم سبيل الحقّ بادي المعالمِ
وما الشعر إلا صرخةٌ طال حبْسُها يرنّ صداها في القلوبِ الكواتمِ
يُرقرقُ أنداءَ العزاءِ على الأسى ويُضرم طوْرًا خامداتِ العزائمِ
وحين يصور المازني عذابات الشاعر وهول معاناته لا يفوته أن هناك الذكر الباقي والخلود المنتظر, حين يقول:
لنا الله من قومٍ تُذيبُ نفُوسنا ويجني سوانا ما نَشورُ ونقطفُ
ويَصدُرُ عنّا الناس مريّا قلوبُهم ونحن عِطاسٌ بينهم نتلهّفُ
ولكنه ما أخطأتْنا لذاذةٌ إذا بلغ السَّؤْلَ القريضُ المُثقّفُ
إذا هو سرّى عن لهيفٍ مُفجّعٍ وأَنسَ قلبًا مُوحشًا يتشوَّفُ
فما غفل الدنيا وإن جلّ ظلمُها ونحن عن الأيام والعيش نُنصَفُ!
وفي قصيدة المازني (الشاعر المُحْتضَر) لوحة شعرية افتنّ في تصويرها, واستقصاء كلّ زواياها وألوانها, تحقيقًا للجوّ القاتم المسيطر عليها منذ البيت الأول فيها حتى البيت الأخير, ودوران مُفْردة (الموت) في العديد من أبياتها, وكأنها كلمة يلتزمها الشاعر عامدًا, ومعها مفردات أخرى بمعناها, حتى يُشيع في قصيدته جوًّا عَدَميا, وحِسّا مأساويًا, يوازي جزع النفس وانقباض الروح, ونزْف الوجدان. كل ذلك يصوغه الشاعر في براعة وسيطرة محكمة على معجمه الشعري, ودلالاته النافذة في كلّ اتجاه, وعلى عاَلمِ صوره المنتزعة من أجواء الموت والفناء وقضاء النّحْب, وداعي الرّدى وهزّمة الرعد. والحفرة التي تطوى, والحِمام الذي يقف بالمرصاد, والبرْق الخُلب, والدهر الذي يستردّ عاريته, ومن يقتل النفس عامدًا, إلى آخر هذه الصور والتراكيب التي تمتلئ بها القصيدة وتحتشد في أصدائها وظلالها ودلالاتها الفاجعة.
يقول المازني:
فتّى مزّق الحبُّ المُبرّحُ قلبه كما مزّق الظلَّ الضياءُ أياديا
قضى نَحْبهُ كالمُزْنِ فِضْنَ مدامعًا وخلّفْنَ آثارًا لهنّ بَواديا
ولما دنا منه الحِمامُ ورنَقتْ مَنيّتهُ, نادَى الصفيَّ المُصافيا
وكاشَفهُ والعينُ ينهلُّ ماؤها بما كان يُخفي من هويً ليس خافيا
وقال وضمّ الراحتَيْنِ على يدٍ كساها شآبيبَ الدموع الجواريَا:
بقيتَ وبُلّغْتَ الذي بِتَّ راجيًا وإن كنتُ ما أُعطيتُ منْكَ مُراديا
سيسْقى الرّدى قلبي عن الحسن سلوةً فلا بٍتّ حرّانَ الجوانحِ صاديا
ولا عجبٌ أن يُطفئَ الموتُ غُلّتي ويُصبحَ داءُ العالمين دوائيا
كتمْتُك حُبّى خَشْيَة الصدِّ والقِلى وحصّنْتُه حتى رَمَى بي المراميا
بَعُدْتَ كماضي الأمسِ عنِّيَ غايةً وأَقربُ شيءٍ أنت مثويً وثاويا
أضرّ بيَ الكتمانُ حتى عَددْتُني خليلاً من التبريحِ والوجد خاليا
كأنّي لم أحملْ هواكَ, ولم أَبِتْ أخا شُغُلٍ يُغري بصدرى القوافيا
كأنّ قريضي لم تكن أنت سرَّهُ ومُوحي معانيه العِذابِ البَواقيا
مضى ما مضى, لم أدْرِ ما لذّةُ الهوى ولا ذُقْتُها إلا بطرْفِ خياليا
إذا لجّ بي شوقي قَنيْتُ حيائيا وظلّتْ تباريحُ النّزاع كما هيا
نَجِيِّي الصخورُ الصمُّ أركبُ ظهْرَها وأُفرغُ في أذْنِ الظلامِ شكاتيا
وما بيَ حُبُّ الصخرِ والريح والدُّجى ولكنّ حالاتٍ لهنّ كَحاليا
أرى في أديمِ الطوْدِ عاث برأْسِهِ الـ خرابُ, وواراهُ الضبابُ مِثاليا
وفي الظلمة الطّخْياءِ من ظُلمةِ الأسى مَشابِهُ تَدْريها القلوبُ صَواليا
إذا الليل واراني اطّرحْتُ الأمانيا وكاد جمودُ المَوْتِ يُصْبي فؤاديا
وما كنتُ آبى الموْتَ سهْلاً مَذاقهُ لو أنّي إذا استأويْتُه كان آويا
أرى الموْتَ ظلّ العيش يبسُط تحْتَهُ فيَغْشَى أَدانيه, ويُخْطي الأعاليا
أَلمْ تَرَ للأشجار تمتدُّ تَحْتَها الـ ظِلالُ, وتكسو الشمسُ منها النّواصيا
فإنْ تُحتطَبْ يومًا تُولِّ ظلالُها وما إنْ يزيلُ الموتُ إلا الدياجيا
كذاكَ حياةُ الأفضلين فلا تلُحْ إلى الظلّ, وانظرْ نُورَها المتراميا
فيا مرْحَبا بالموت يُثلج بردُهُ فؤادي, ويُنْسيني طويلَ عَنائيا
تموت مع المرءِ الهموم, ولن ترى ككأسِ الردى من علّة العيش شافيا
ولستُ على شيءٍ بآسٍ, وإنني لأهجرُ ظهْرَ الأرض جذْلانَ راضيا
وما طال عمري, غير أنّ لواعجًا أَطلْن عنائي, فاجتويتُ مقاميا
أهاب بنا داعي الرّدى, فترحّموا وقولوا: سقى الله القلوبَ الظواميا
وقُمْ ودّعِ الأرضينَ عني, فإنني بقيْدِ الرّدى المحتوم إلا لسانيا
وقلْ لجبالٍ عارياتٍ مخوفةٍ تخال مواميهنّ للجنّ واديا
ألا أطلقي لي صوتهُ والأغانيا وغذّي بذكراها الشّجون النواميا
ألم تعِ عنه جنةٌ عبقرية فقد كان يغشى مثلُهنّ الفيافيا
وكيف تُؤدّي ما وعاهُ سَماعُها وما تُحسنُ الجِنّانُ إلا التعاويا
وقلْ يا عيون الزهر غُضّي وأطرقي - قضى عاشقٌ, أجْلِي - العيون الروانيا
لقد كان في روض الجمال خميلة سقتْها دموع الحبّ, لا الطلّ ساريا
فأعطشْتُها حتى تصوّح عودُها وأَلْوى بها عصْفُ الرياح سوافيا
لقد أفردتْهُ نفسُهُ بين قومه فعاش خيالاً بينهم مُترائيا
وما كان إلا قوةً أَحدقتْ بها حوائلُ ضعفٍ أمرُها ليس باديا
فعاد وما يسطيعُ حملاً لساعةٍ فكيف بأيامٍ حملْنَ لياليا
وما كان إلا كالسحابة أُفردت وقام بها الرعدُ المجلجلُ ناعيا
وما كان إلا موجةً قد تحطّمَتْ على ساحلٍ للعيش كم بات راغيا
وما غاله موتٌ ولا هاضهُ كرى ولكنْ غَدَا من حُلْمِ ذا العيْش صاحيا
وما مات إلا الموت يا فجرُ فائتلقْ وحوّلْ سناءً طلَّكَ المتلاليا
ولا غاب إلا في الطبيعة أُمِّهِ وقِدْمًا أَعارتْهُ الضلوع الحوانيا
فقوموا اسمعوا في هزْمة الرعدِ صوتهُ وفي سجْعه الغرّيد ما بات شاديا
وفي حيثما تبدو لنا القدرةُ التي دعتْهُ فلبّاها ولم يكُ عاصيا
أرى عيْنَكَ أخضلِّتْ, وعهدي بدمعها عصيًا, على ريْب النوازل, آبيا
لقد جلّ هذا الجفن من عادة البُكى وقد قلّ فيض الدمع إن كنْتَ باكيا
تَعزّ, ولا تُرخصْ لموتي أدمعًا أُباةً على سوْمِ الغرام غواليا
سواءٌ علينا إن طوتني حُفرتي أَبكَّيْتنا أم بات قلبُك ساليا
بحسْبي أني سوف أَلْقَى حِماميا وأنت إلى جنبي تُراعي فنائيا
ولا تحسبوا أني قنِعْتُ تكرُّمًا ولكن لأمرٍ ما عَقَرْتُ الأمانيا
وردّد أنفاسًا تردّدْنَ بُرهةً وحشرجْنَ حتى راح ما كان جائيا
فخانَ الحبيبَ الصبرُ, فانقضّ فوقه يُنادي مُرمّاً لا يُبالي المناديا
فلما رأى برقَ الأمانيِّ خُلّبًا غَدا يستجيرُ الدمْعَ ما كان جاريا
رأى ما جناهُ حُسْنهُ ودلالهُ فقال: أيا ويحي لقد صرتُ جانيا
عَدتْني العوادي لم تكن بي غباوةٌ ولكنّني كنتُ امرءًا متغابيا
سواسيةٌ من يقتلُ النفْسَ عامدًا ومَنْ يدعُ التبريحَ يقتلُ ظاميا
لبسْتُ جمالاً من قريضكَ خالدًا ورُحْتُ وقد ألبسْتُكَ الموْتَ ضافيا
وسوَّغْتني من طيب ذكراكَ نفحةً وسوّغْتُكَ الآلامَ والدمْعَ قانيا
لغَلَّفتْني عاري الجمالِ من التي تزينُ, وكم أمسي وأصبحُ كاسيا
أَعَضُّ على الماضي البَنانَ تحسُّرًا وهل ينفعنيّ اليوم عضُّ بَنانيا
لقد كنتُ أقسو هازلاً, ولربّما غدا الهزْلُ بابًا للشقاءِ وداعيا
فبئسْتْ على طول التفرّق رقةٌ أُحسُّ بها تُذْكي على الدهر ناريا
ستَبقى ويمشي مْنَ علِقْتُ, وإن تمُتْ فقد يحجبُ الغيْمُ النجومً الدّراريا
وأنك نورٌ تستضيءُ به الدُّنا وغيرُك ظلٌّ سوف يصبحُ فانيا
وأنّك حُسنٌ ليس يبلى, وغيرهُ وديعة دهرٍ يستردّ العواريا
فيا آخذًا من دهرهِ بنصيبه هنيئًا لك المجدُ الذي ليس ذاويا
وإني لأستسقيكَ كُلَّ دُجنّةٍ وإن كنْتَ أحْرى أن تبُلَّ فؤاديا
من المؤسف أنّ المازني توقف - أو كاد - عن إبداع الشعر بعد عام 1917, لكن شاعريته ظلّت تسري في عروق كتاباته الروائية والأدبية, وفي شرايين ترجماته الرائعة للعديد من القصائد الأجنبية, شاهدا على معرفة باذخةٍ بكل من العربية والإنجليزية, وأسلوب رصين متمكن يستوعب أسرار اللغة, ولغة الظلال في الدلالات والإيحاءات والمعاني.
وستبقى قصيدته (الشاعر المُحتضر) شاهدا على شاعرية أصيلة مقتدرة, وموهبة أدبية عالية, وتجسيدًا حيًا لما نادى به أصحاب مدرسة الديوان, العقاد وشكري والمازني من قيمٍ شعرية وحداثة إبداعية.