مع الشاعر السعوديّ: عمر كردي
بين سحْر الدانوب وحكايا القلوب
يُهدي الشاعر السعودي «عمر كردي» أحدث دواوينه: «هذي حكاياك» إلى زمن جميل تقضّى بين المدينة المنورة، والقاهرة، وفيينا (عاصمة النمسا)، وإلى الوجوه الحبيبة التي عطّرت هذا المكان وملأتْه أُنْسًا وحياة.
وهو مخلص في إهدائه هذا كلَّ الإخلاص. فالمدينة المنورة هي بيئته الأولى، العلمية والروحية، العميقة التأثير في وجدانه وفي تكوينه الإنساني وفي توجهاته في رحلة الحياة والإبداع. منحته من طهرها وصفائها ونقائها ما صاغ وجدانه المرهف الحسّاس، الذي يهتز لأدق المواقف والخطرات والأحداث، خاصة في فضاء الإخوانيات وشكوى الزمان وتأمل دورة الأيام. كاشفًا عن مخزون طفولة هائل، اتسع له وجدان الشاعر، ولا يزال، يعي ويستوعب ويُنقّب ويتأمل، ويخرج من هذا كله بذخيرة فكر وفلسفة حياة، ومزاج إنساني شديد التعاطف مع سلبيات الآخرين وقصورهم، وبخاصة حين يكونون من أصدقائه ورفاق حياته. يعرف أخطاءهم ويغفرها، ويعزف على أوتار شاعريته - الشديدة الأسى والشجن - أجمل قصائده وأصفاها لغةً وأقدرها بيانًا ورصانة.
وهو في حنينه الدائم إلى «القاهرة» وانشغاله بها، يعود إلى ذكرياته في أيام دراسته وشبابه الأول، وانفتاح عالمه لرؤى وثقافات وأحلام، صنعتْ منه هذا الشاعر الذي بدأ حياته وهو شديد الانتماء إلى شجرة الشعر العربي وذخيرة ضخمة من أمهات كتب التراث العربي، مُكبًّا عليها اطلاعًا ذكيًّا انتقائيًّا وناقدًا. ثم سرعان ما أصبح - بفضل القاهرة - يعيش عصره ويتابع مسيرته، منذ استهواه شوقي بين المحدثين، كما استهواه المتنبي - من قبل - بين القدماء.
وفي مرحلة أكثر تقدمًا ونضجًا من حياته، تلقي به الأقدار سفيرًا لبلده في فيينا - عاصمة النمسا - وشهرتها الأسطورية في وجدان المبدعين، وهم يرددون قصيدة رامي التي شدت بها أسمهان: ليالي الأنس في فيينا، التي كأنها روضة من رياض الجنة. وفي فيينا ينشغل عمر كردي بالدانوب وسحره ولياليه، كما انشغل قلبه وعقله من قبل بالنيل في لياليه وأسماره، وتصبح سنواته العشر في النمسا دائرة خصبة ثالثة، تنفست فيها شاعريته، بالجديد البديع من قصائده العاطفية والقومية والإنسانية، وبخاصة أنها امتدّت عشر سنوات متصلة، كان فيها الشاعر السفير أو السفير الشاعر يرى ويتأمل، ويصغي لهتفات الشعر كلما استوقفته، فيطلق لشاعريته العنان، حتى إذا ما طغى الإحساس بالمسئولية، مهددًا بتكميم الأنفاس وتكبيل القلب، والحدّ من الحرية والانطلاق، عاد سريعًا إلى عافية الشعر ليبدأ مغامرة فنية من لون جديد ومذاق فريد.
يقول عمر كردي في قصيدته «هذي فيينا»:
كم ضمّني في رُباكِ العطرُ والنورُ
وكم توالت تناغيني العصافيرُ
وكم تألق حولي بالسّنا قبسٌ
وضمّختني بريّاها الأزاهيرُ
في كلِّ إطلالةٍ سرٌّ يُحيّرني
دُنيا من الحسنِ إبداعٌ وتصويرُ
أغيمةٌ تلك، أم إيماضةٌ بهرتْ
في كلِّ إيماءةٍ منها بواكيرُ
هلّت بوادرُها في ديمةٍ هطلتْ
راحت تَقاذَفُها حولي الأعاصيرُ
والدغدغاتُ يوالي نَقْرَها بَردٌ
كأنه لؤلؤٌ في الأفْقِ منثورُ
ياديمةً لم أَزلْ بالشوق أرقُبها
جودي فقلْبيَ بالآهاتِ مغمورُ
وروّحي عن فؤادي إنه دنِفٌ
بالحسن، طالعهُ بادٍ ومستورُ
قد راقه جبلٌ بَاهَى بقامتهِ
كهودجٍ شعّ ما أخفاهُ ديجورُ
مُلفّعٌ بقلاداتِ الجليد بدتْ
من حوله، وعلى هاماته سورُ
بُرْدٌ تَماوَجَ في أعطافها ألقٌ
ألوان طيفٍ تلاقى عندها النورُ
يتيه فيه عريسًا يوم فرحتهِ
غنّت تُراقصه جَذْلى المزاميرُ
أنغامُ «موتسارت» في رفقٍ تهدهدهُ
و«بيتهوفن» ما أعياه تعبيرُ
و«الأوبرا» عُزفت، يا طيبَ ما سمعتْ
أذْنٌ حلا عندها صعبٌ وميسورُ
ولليالي-ليالي الأُنْسِ-ظلُّ صدًى
بالأمسِ غنّاه في واديك شحرورُ
والغانياتُ تهادتْ، كلُّ فاتنةٍ
هيفاءُ، أترابُها سرْبٌ قواريرُ
وفي الضفافِ على الدانوبِ أُغنيةٌ
يصوغها شاعرٌ بالحسن مبهورُ
غنّى فأصغت له الدنيا تُسامرهُ
كأنه في رحاب الشعر «هومير»
وصولاً إلى قوله:
دنيا تذكّرني فصلاً ضحكْتُ له
قد كان سطّرهُ من قبل «موليير»
هناك لاحت على دلٍّ بمشيتها
حسناءُ تاه بها عقلٌ وتدبيرُ
قالت على خفرٍ، حيْرى تُعاتبني:
ماذا؟ لعلّك قد شطّت بك الدورُ
هذي «فيينا» التي مازلت تجهلُها
لطالما حدّثتْ عنها الأساطيرُ
في الدائرة الشعرية التي تملؤها قصائده في الإخوانيات، - وهي دائرة واسعة وعريضة - يلتمع حسّ الشاعر الساخر ودعابته المرحة وتوّهجُه الإنساني اللافت في حضوره، وهو المولع بالمسامرة. ورفقة الأصدقاء ركن ركين في طقوس حياته، ولا حياة حقيقية له إلا بأن يكون وسط أهله وبين صحبته ورفاقه. ومن خلال هذه الدائرة الحميمة تفجّر شعره المتوهج بالفكر وروح الحكمة، والنظر البعيد في الحياة والناس والكون.
يقول عمر كردي في قصيدته: «همسة عتاب»:
ماذا وراءكَ قل لي أيها الرجلُ
فقد تبدّلت الأحوالُ والسُّبلُ
ما قد عرفْتُكَ إلا منْ ألوذُ به
ومن له في دُنايَ البِشْرُ والأملُ
وكنتُ أحسبُ أني قد بلغْتُ منًى
وأنت ترقى، ولكن ضاقت الحيلُ
طورًا أراكَ على نأيٍ تُقاطعني
وتارةً يحتويك الزّيْفُ والخَتلُ
ومرَةً أتلقى ردّ حاجبةٍ
بأنك اليوم عن دُنيايَ مُنشغلُ
وأنّ حولك قومًا سادةً لهمو
في كلِّ مُعتركٍ حِلٌّ ومُرتحلُ
وأن مثْلكَ فيما بينهم فِكرٌ
تألّقت، وتلاقتْ عندها المثُلُ
وقد تضيفُ: تأمّلْ وعدنا، فإذا
ما غادروا، سنُوافيكم ونتصلُ
وينقضي الوقت في حُلْمِ يُداعبني
وفي اصطباري على مَنْ دأْبهُ المَطلُ
يا صاحبي ما فعلْتَ اليوم ذكّرني
عهدًا ترافق فيه التْبرُ والوَحلُ
كنْا كأنجمٍ دهرٍ والدُّنا ألقٌ
والناس من حولنا ظلَّوا وما رحلوا
والقوم في صفّنا، بعضٌ يُواكبنا
وبعضُهم للتحايا راح يرتجلُ
وأنجبُ القومِ أهلونا وصُحْبتُنا
وصاحبُ الحفل بالبسمات مُقتبلُ
كنّا نُداعبه، كنّا نُسامرهُ
كمثْلِ كوكبةٍ بالحبِّ تكتملُ
وقد نسينا بأنّ الدهر دائرةٌ
تدور في سيْرها الأيامُ والدولُ
وأنّ يومًا لنا إن طال أوّلهُ
لا بُدّ آخرهُ آتٍ به الأَجلُ
ما قد ذكرْتُ الذي وافيْتُ مفتخرًا
لكنه الحبُّ يُغريني فأمتثلُ
فلسْتُ أقبلُ، ممن عشْتُ أَصْدقُهُ
نأْيًا تظلُّ له الأعذارُ تُنْتَحلُ
إن كان بعض اقترابي زلّةً، فأنا
ما كنتُ أحْسبني يرمي بيَ الزَّللُ
فأنت عندي أخٌ تبقى مودّتهُ
وصاحبٌ منْزلاهُ: القلبُ والمُقلُ!
وفي التفاتةٍ من الشاعر على معاهد الصبا وذكريات الطفولة، في ربوع المدينة المنوّرة، في مناسبة عزيزة على قلبه، إن خمسة وعشرين عامًا تمرُّ على تأسيس ناديها الأدبي، الذي يُكرّم الشاعر بإهدائه درع النادي، باعتباره واحدًا من كبار شعراء «طيْبة» وأصواتها الإبداعية التي تحمل فيضًا من عطرها الروحي إلى كل مكان من العالم - في هذي الالتفاتة ينطلق في شدوه بهذه الأبيات:
الدُّنا حولنا ربيعٌ ووردُ
والأماني موصولةٌ لا تُحدُّ
ونداءُ الرسول ظَلَّ يُهاديني
فتصحو رُؤًى، ويشرقُ سعْدُ
وعلى السفح من جبالك ومضٌ
فيه «سلْعٌ» حيّا، وصافَح «أُحْدُ»
«طَيْبتي» يا مناهل البِرِّ، قد جئتُ
وكم شفّني للقياكِ وجْدُ
ذكرياتٌ وأمنياتٌ وعهدُ
قد رعاه أبٌ وخالٌ وجدُّ
التقيْنا على رُباكِ، وكلٌّ
يتمنى لو ضمّهُ منْكِ بُرْدُ
«طَيْبتي» حدّثي بأحلى الأماني
ودعيني بما تكرّمْتِ أشدو
هي ذي درْعُكِ الحبيبةُ تُثريني
فتزهو مُنًى، ويصدقُ وعْدُ
وأرى العزَّ قد تجلّى يُهاديها
ومن حوله تناثر وَرْدُ
هو حبُّ القلوب، كلٌّ تغنَّى
بأمانيكِ، ما تردّدَ فرْدُ
هكذا، عزُّكِ الأصيلُ تسامَى
وبينبوعهِ، تَتابعَ وِرْدُ
ولناديك يا حبيبةُ سيماءٌ
أشعّتْ وما طوى المدَّ بُعْدُ
هي من بعض ما رجوْتُ، فمرْحى
همّةٌ تُرتجى، وعزمٌ وجِدُّ
كلَّ يومِ مكارمٌ تتوالى
وعناوينُها فخارٌ ومجدُ
فليدمْ عهدُنا، ولاءً وحُبًّا
خالصًا، ما بدا يُضاهيهِ نَدُّ!
ويظل وتر «الأُبوّة» قويًّا وشجيًّا ومِرْنانا في المسيرة الشعرية للشاعر السعودي «عمر كردي»، بدءًا من الأبناء وانتقالا إلى الأحفاد، ولكل منهم نصيبهُ من شعر كردي وفيض عواطفه ونهر مشاعره الحانية. يقول في عُرْس ابنته «سلافة» تحت عنوان «دمعة فرح»:
أَدْمعيَ هذا، أم تُرى أنهرٌ تجري
تولَّتْكَ من بَرٍّ، لمرْساكَ في بَرِّ
أدمعيَ هذا أم حديثٌ كتمْتهُ
وكنتُ أداريه، فأفقدني صبري
يريدونني أسلو، وما كنتُ ساليًا
ولا كنتُ في يومٍ أُفكّرُ بالهجْرِ
حنانيكِ هذا العمرُ لوْ قيسَ بالمُنى
لكنتِ أمانيَّ التي مَلكتْ عُمري
ولو أنني خُيِّرتُ في الحبِّ مرّةً
لكان خياري أنتِ في السرِّ والجهْرِ
أأقبلُ نأياً منكِ لولا مودّتي
وعلميَ أنّ النأْي ضربٌ من القسْرِ
وإن حُلْتِ أنتِ اليوم دوني ودونهُ
فإنك لا تقويْن في آخرِ الأمْرِ
وها نحن قد عشنا ومرّت حياتُنا
وياليت ندري كيف تجرى ولا تجري
لقاءٌ ونأيٌ واشتياقٌ وغُربةٌ
ولوعة قلبٍ ذاب في موقدِ الجمْرِ
سُقينا حلاواتِ الحياة ومُرَّها
فكان تنائينا أَمرَّ من المُرِّ
وها أنا في حالٍِ أحارُ بوصفها
ويمنعني عن أن أبوحَ بها كِبْري
أكفكفُ دمعي خشْيةً ومهابةً
وأكتمُ بوْحًا ضاق عن شرْحهِ عُذري
ويُذهلني صوتٌ أهبُّ لسمْعهِ
كأنْيَ أدري أو أُخذْتُ فلا أدري
لعلّي إذا غافلتُ دهريَ وهلةً
ونمْتُ، يناديني بإيقاعهِ السّحري
فأصحو الليالي، ما عرفتُ قصارَها
أواكبُ مجراها إلى مطلع الفجْرِ
أحاورُ نفسي هل تُرى صوتها الذي
يداعبُ عن بُعدٍ بترنيمه المُغْري
أم انّي تلبّسْتُ الخيالَ وعادني
حنيني إلى ما كان من حُبّيَ العُذري!
إن جمال «العربية» في هذه النماذج من شعر عمر كردي، ليس مجرد جمال لفظٍ أو سبْكٍ أو تعبير. إنه جمال نفس إنسانية، وجمالُ قلب ينبض في مواجهة الحياة والطبيعة والكون، والبشر والأشياء، بأصدق العواطفِ وأرق المشاعر وأنبل الغايات. ولعلّه أن يكون المرْقى الروحيَّ الأسمى لكلِّ ما هو جمال!.