مختارات من:

عمران ابن خلدون.. والعمارة المعاصرة

مسعود ضاهر

تطور فن العمارة عبر مختلف حقب التاريخ بفعل الإرادة الإنسانية, التي عبّر عنها الفرد أو الجماعة. لذا تعتبر إرادة القوى البشرية المحرك الأساسي والمباشر للتفاعل الجدلي, بين المادة الخام وتحولاتها اللاحقة إلى مبان جميلة.

العمارة ظاهرة اجتماعية تحتاج إلى فهم معمق للمقولات الجمالية الدائمة التطور, وبالتالي, لا يجوز تفسيرها بالأوضاع الاقتصادية بصورة ميكانيكية, دون إعطاء الإرادة البشرية لدى الأفراد والجماعات, ومعها إرادة القوى الحية والفاعلة في المجتمع - الدور الأساسي في قيام ما أسماه ابن خلدون (علم العمران الحضري), في مواجهة البداوة المترحلة, التي يغلب عليها طابع الخشونة والتوحش وعدم الاهتمام بالعمران, وتهديم ما هو موجود منه.

كان ابن خلدون من أوائل الباحثين العرب الذين صنفوا الظاهرات الاجتماعية على أسس علمية, ودعوا إلى تحليلها بعد مقارنتها مع طبائع (علم العمران) الذي شكل منطلقا مهمًا لقيام علم الاجتماع, ومن بعده علم الإناسة أو الأنثروبولوجيا الثقافية.

أما في التاريخ الحديث والمعاصر, فقد تم ربط علم العمارة بالتطور الفكري والاقتصادي والاجتماعي الذي شهدته بعض مناطق العالم, خاصة أوربا منذ القرن التاسع عشر, فالعمارة الأوربية الحديثة هي وليدة عصر النهضة, الذي كان بدوره وليد إحياء العقل الإغريقي بصورة عقلانية وإبداعية. وجاءت ولادة العمارة العصرية كمنطلق لإحياء العقلانية الإغريقية, ونبذ كل أشكال اللاعقلانية. في حين لم يتمكن الفكر العربي في عصر النهضة من تجاوز جماليات القرون الوسطى التقليدية, تجاوزًا يؤهله لمواجهة متطلبات المعاصرة, بقدر ما تمكنت منه أوربا تدريجيًا, وخلال القرون الخمسة الماضية.

تتمحور المنهجية العامة في مجال فن العمارة العصرية حول معايير ثلاثة: المعرفة الوصفية لخصائص الأشياء والظواهر, والمعرفة المعنوية للعلاقات الاجتماعية, بما في ذلك تحديد هوية المجتمع وخصوصيته, والتراتبية الاجتماعية والطقوس الدينية والعادات الاجتماعية, وأخيرًا المعرفة التي تحدد مقاييس للأشياء والظواهر الطبيعية والاجتماعية. ويلعب المهندس المعماري دورًا أساسيًا في تأمين حاجات ثلاث: الوظيفة النفعية التي تشبع المطلب النفعي, والوظيفة الرمزية التي تطمئن متطلبات هوية الفرد والجماعة, وتشمل العقائد والعادات والعلاقات الاعتبارية, والوظيفة الاستاتيكية أو الجمالية بحيث تؤمن العمارة متعة إدراكية وبصرية, ويتضمن التكوين المعماري فيها قيما تنويعية مركبة تؤمن للناس المتعة والاسترخاء النفسي.

إن إقحام التفسير الغيبي في تحليل الظاهرة الفنية, وفي صلبها فن العمارة, مسألة غاية في الخطورة. فالعمران ظاهرة اجتماعية يمكن إخضاعها للتحليل العلمي من خلال التعرف إلى بناها السكانية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. إلا أن صعوبة تحليل الظاهرة الفنية المعمارية تكمن في غياب المصطلحات والمفاهيم العلمية الدالة عليها. وقد توصل الباحثون في الدول المتطورة إلى صياغة مناهج دقيقة لمقاربة الظاهرة الفنية المعمارية من مختلف جوانبها, في حين بقيت تلك المصطلحات والمفاهيم مغيبة أو غير دقيقة لدى المعماريين العرب. ويعتبر الدكتور رفعة الجادرجي من أبرز الباحثين المعماريين العرب الذين كتبوا دراسات نظرية مهمة استفدت منها في إعداد هذه الدراسة للربط بين مقولات (علم العمران) الخلدوني, ومقولات فن العمارة في الدول الأوربية والأمريكية والآسيوية المتطورة.

علل الجادرجي غياب الدراسات العربية المتميزة في مجال فن العمارة بوجود معوقات فكرية ولغوية تمنع قيام منهجية متكاملة لدراسة الظاهرة الفنية في المجتمعات العربية. لذا تم اللجوء إلى مصطلحات مثالية كالإبداع والإحساس المرهف وجمالية الشكل وغيرها. فوصف الجادرجي هذه المعضلة بقوله: (إن الفكر الكامن وراء هذه اللغة لم ينفض عنه بعد هيمنة السلطة, أي الدولة والدين, ولم يتمكن من إطلاق طاقاته في استحداث مفاهيم معاصرة يصف بموجبها ظاهرة الفن وغيرها من الظواهر التي تخصه. كما أن الحوار الثقافي الذي يهيئ لنا لغة التنظير, قد أهمل في الفكر العربي منذ القرن الثالث عشر, حيث أنهى عهد الفلاسفة العرب بسبب تعارض هذا الحوار مع الغيبيات الدينية).

العمران... وثيقة تاريخية

العمران ظاهرة اجتماعية متعددة الغايات, وهي تستجيب لحاجات اجتماعية ولمتطلبات العلاقات العائلية والطبقية والتراتيبة الاجتماعية من جهة, ولتبدلات التقنيات المستخدمة في تصنيع المواد الخام من جهة أخرى. وهي تعبر أيضًا عن توق الإنسان لحياة أفضل, وسعيه نحو التنمية البشرية والمادية المستدامة, وشغفه بإبداع ظاهرات اجتماعية تخلد ذكراه, وبهذه الطريقة أبدع الإنسان المفكر أنواعًا متجددة من العمارة كوثائق دالة عليه, وذلك في توسع دائم نحو معرفة أكثر توافقًا مع الواقع الاقتصادي والاجتماعي الذي عاش فيه.

وليس من شك في أن الصيغة الأمثل للإنتاج لا علاقة لها بديمومة الشكل التقليدي, ولا تقترن بعوامل تصنيعه, وبالتحديد الخصائص الواقعية للإنتاج, وإنما تقترن بعوامل اجتماعية أخرى, كالسياسة أو العقيدة أو العاطفة. ولا جدوى من الرجوع إلى الحرفة التقليدية, أو الإصرار على الحفاظ عليها في الإنتاج البنائي المعاصر. وهذه مسألة نظرية مهمة لا علاقة لها بالحفاظ على مكونات التراث وموجوداته, وكيفية صياغة معالمه وفق أحدث الطرق العلمية الحديثة.

إن حماية التراث علم قائم بذاته, بالإضافة إلى كونه واجبًا إنسانيًا ملقى على عاتق البشرية بأسرها, وليس فقط على الدول التي تحتضن أمكنة تراثية, وكثيرًا ما تكون عاجزة عن ترميمها أو صيانتها أو الحفاظ على معالمها. والهدف الإنساني منه هو التوثيق العمراني, أي الحفاظ على العمارة كوثيقة تاريخية تتحول إلى كتاب مفتوح لجميع الناس. ولا تتضمن هذه العملية أي أهداف اقتصادية على الإطلاق. ناهيك عن أن الحفاظ على المعالم التراثية هو المدخل الحقيقي للتأكيد على هوية المجتمع وخصوصيته. أما الترويج لبعض المعالم التراثية لأسباب دينية أو سياحية أو عائلية, فشيء آخر. ففي هذه الحالة لا يعاد ترميم البناء التراثي أو تأهيله للحفاظ عليه كوثيقة عمرانية, وإنما لصيانة الشكل بهدف إشباع حاجات شخصية, أو عائلية, أو دينية, أو سياحية, أو تجارية, أو غيرها. وهناك فارق كبير بين الحفاظ على التراث كوثيقة عمرانية, وبين صيانتها وإعادة تأهيلها, والتلاعب أحيانًا ببعض مكوناتها الأساسية لكي تلعب وظائف جديدة معاصرة تحافظ فقط على الشكل الخارجي للعمران كوثيقة تاريخية.

وفي حين يتوجب التقيد الشديد بالتقنية التقليدية, أو بأسلوب متوافق كليًا مع التقنية الأصلية عندما يكون الهدف هو الحفاظ على التراث العمراني كوثيقة تاريخية, يتم التحلل بصورة شبه تامة من تلك القيود عندما يكون الهدف إشباع حاجات سياحية أو تجارية معاصرة.

ظاهرة العمران الحضري

لكل ظاهرة اجتماعية, ومن ضمنها ظاهرة العمران, بنية خاصة بها, ويقوم أساس نظرية العمارة على أن شكل العمارة المرئي هو محصلة لتفاعل مسبق بين المطلب الاجتماعي للعمارة من جهة, وتكنولوجيا استحداثها من جهة أخرى. فالعمران فن وتعبير عن عاطفة بشرية, والتفاعل معه يتم عن طريق إسقاط العواطف الإنسانية على العمارة بهدف التمتع أو الإحساس الوجداني بها. وهي جسم مادي تم استيلاده بنتيجة التفاعل الخلاق بين الفكر والمادة. لكنها, في جوهرها, تلبي حاجات الإنسان. فهناك إحساس طبيعي لدى الإنسان بالحاجة, والوعي بها, وتعيينها, والقرار بإشباعها وتسخير الفكر للتوصل إلى صيغة فكرية مناسبة للتعامل مع العالم الخارجي عن طريق تحويل المواد الخام إلى معالم مادية مناسبة.

يقدم تاريخ تطور العمارة أو علم العمران فرصة بحثية ثمينة للتعرف إلى المقومات الاجتماعية والروحية والدينية والأسطورية والسحرية وغيرها, التي تكمن في معرفة الظروف المادية لقيام تلك العمارة, كما يقدم معرفة مباشرة بالتقنية المادية والاجتماعية, وطرائق الإنتاج, والمكننة الاقتصادية, والتنظيم الاجتماعي, وأدوات الإنتاج, التي استخدمت في تشييدها. ويستند التكوين الداخلي للظاهرة الاجتماعية إلى تفحص شتى العلاقات بين مقوماتها وترابط تأثير كل منها في الآخر, ومدى القبول والاستجابة للتأثيرات الخارجية أو رفضها, وتنقسم دورة الإنتاج إلى ثلاث مراحل: التصور والتصنيع والتلقي, ومن خلال تفاعل هذه الركائز الثلاث تبرز جدلية العلاقات كعملية انسجام أو تناقض بين الأضداد من خلال ترابطها لتشكيل كيان مادي.

فظاهرة العمران من صنع الإنسان. ولا يقتصر دور الفكر على اكتشاف العمارة أو ترميمها فقط, بل أيضًا إلى تحليل الأسباب الكامنة وراء نشوئها وتطورها. وهي تنقسم إلى أربعة أشكال: علاقات الفرد الاجتماعية مع الأفراد الآخرين, ومع المجتمعات الأخرى, ومع التصورات الوهمية, ومع الإنتاج الصناعي, الذي يتكون من الأعمال التي أنتجتها يد الإنسان في مختلف حقب التاريخ. وما يميز الظاهرات الطبيعية أنها نتاج أعمال لا يد للإنسان فيها. أما الظاهرات الاجتماعية فهي بالتحديد من صنع الإنسان. والعمارة هي الظاهرة الاجتماعية الأكثر بروزًا وثباتًا, لأنها صنعت من مواد صلبة, ومنها ما له القدرة على الاستمرار لقرون طويلة.

ونظرًا للترابط الوثيق بين الاستاتيكية والجمالية يصبح الفن المعماري ضرورة اجتماعية, أو أنه يفرض نفسه كضرورة اجتماعية على مستويين: الأول, لتطمين التعامل اليومي للحاجة الاستاتيكية, والثاني من خلال التفاعل بين المادة والفكر. وتكمن أهمية الفن المعماري في كيفية التعامل اليومي معه, وأي موقف نظري لا يرجع إلى هذه الضرورة هو موقف ميتافيزيقي غيبي, لا يصف الواقع وصفًا يتمكن الفكر بموجبه من الوقوف على الظاهرة الاجتماعية, ومعرفة واقعها المادي. ويلعب العمران أيضًا وظيفة البديل الذي يخفف من رتابة المعاش اليومي, لكي يتمكن الإنسان بموجبه من تخفيف التوتر النفسي المتراكم بسبب الرتابة المتأصلة في معاشه اليومي. لذا يرجع تاريخ غالب الأعياد والمهرجانات والكرنفالات, لدى شعوب الشرق الأوسط, كما لدى شعوب أوربا, إلى هدف أساسي هو إعادة الحيوية لحياة الفرد والمجموعة.

فالأعياد, بهذا المعنى, ظاهرة اجتماعية في الأصل, هدفها تجميع الأفراد في زمن محدد مسبقًا وبموجب تقويم معتمد. والسبب الجوهري لجمعهم هو تحقيق وظيفة اجتماعية يتم بموجبها تهيئة الظروف المناسبة ليتمكن الفرد من أن ينسحب مؤقتًا من رتابة المعاش اليومي وتخفيف التوتر النفسي المتراكم من جرائه.

هنالك سلوكيات مختلفة للمجتمعات البشرية في مجال منح الفرد فرصة الاسترخاء لتطمين الحاجة الاستاتيكية, عن طريق المرح كما هي الحال في أكثر المهرجانات العالمية, أو تطمينها عن طريق الحزن الظاهري. وفي هذا النمط من الاحتفال الجماهيري يصبح النحيب والبكاء وسيلة ظاهرة لتأمين مناسبة اجتماعية, يستطيع الفرد من خلالها تخفيف التوتر النفسي المتراكم لديه.

فمنذ قيام المجتمع الزراعي الحضري قبل نحو ستة آلاف سنة, تبلور انفصام حاد بين المؤدي المصنع من جهة, والمؤدي المنظم الإداري من جهة أخرى. فانقسم المجتمع إلى قطبين: آمر ومأمور, الملك والرعية. تسند الملك نخبة تعمل ضمنها حاشية القصر والكاهن والقاضي والقائد العسكري والإداري, وغيرهم ممن يتمتعون بمركز السلطة على سلوكية الإنتاج ومراقبة المحاصيل. وفي مواجهة هذا الحلف يقف حلف آخر يتكون من الفلاح والحرفي والجندي.

وجاءت الأيديولوجيات لتبرر هذا الانفصام الاجتماعي وتعتبره حالة قائمة منذ الأزل, وهي غير قابلة للتغيير إلا في عالم لاحق حيث يتساوى الجميع بعد الموت. وقد ابتليت المجتمعات العربية بأيديولوجيات تبرر السلطة الاستبدادية وتمنحها طابع الشرعية الدينية. وتم التعاطي مع من يؤدي العمل اليدوي بأنه ينتمي إلى فئة اجتماعية تتصف بالعامية أو الدونية كالفلاح والحرفي. ونشأت فلسفة مثالية اعتبرت العمل اليدوي سلوكًا دونيًا يشير إلى انقسام المراتب والطبقات الاجتماعية.

وأعطيت أهمية استثنائية للقوى البشرية التي لا تمارس الأعمال اليدوية واعتبرتها طبقات مميزة منها الملك, والسياسي, ورجال الإدارة, والكتاب, والفلاسفة, والفنانون وغيرهم. عندما أصبح التنظيم والتوقيت للانتفاع عن طريق الآلة, فقد العامل المصنّع دوره الفكري بهذا الموقع الجديد والعلاقة بالإنتاج, أي فقد آنية القرار, التي كان يتمتع بها عندما كان حرفيًا. وبقدر ما كانت تتم المكننة لعملية التصنيع وبرمجة إدارتها مسبقا, كان يتم عزل الفكر الحرفي, وألغي الكثير من دوره السابق في الإنتاج. وبسبب هذا العزل فقد الفكر المبرمج تماسه المباشر مع عملية التصنيع.

استمر الفكر الأكاديمي في عزل نفسه عن عمليات التصنيع وحصر التعليم في التنظير, وكتابة تاريخ العمارة في مسألة شكلية الشكل لا غير. وانحصر النقاش الأكاديمي في جمالية الشكل وأفضليته ذوقيا أو دينيا أو وجدانيا أو رسمانيا وتميز طرزه غوطيا أو كلاسيكيا.

أما ظاهرة الفصم بين التنظير والتصميم والتنفيذ فحالة مستحدثة, لاسيما في العالم الثالث وذلك منذ مرحلة الاحتكاك المباشر والكثيف مع الخارج. وتطورت ظاهرة المكننة وهيمنة الأكاديمية على العمل المعماري إلى زيادة الفصم بصورة مضاعفة, وبرزت تأثيراتها السلبية في مختلف مجالات العمارة العربية. فابتعاد الفكر المعماري عن الممارسة الفعلية حالة سلبية, لأن الفكر عندما يعمل بصورة مجردة ودون تماس مع الواقع المادي يتحول إلى فكر تجريدي لا يدرك التبدلات الحقيقية, التي تحصل في المادة أثناء عملية التصنيع. بعبارة موجزة, خلال تاريخها الطويل أقدمت العمارة الحديثة الدولية على ثورات تقنية متتالية.

إلا أنها تجاهلت الخصوصيات الإقليمية والمحلية, وافترضت أن متطلبات المكننة المعاصرة تستلزم اختزال التنويع إلى الحد الأدنى. وغالبًا ما تحولت البيئة التي أنتجتها العمارة الحديثة في كثير من المدن الحديثة إلى أماكن تستدعي الكآبة, وتحتضن مراكز للإجرام أحيانًا.

ومع تكاثر الأعداد السكانية وتمركزها في أماكن جغرافية ضيقة, ظهر تلوث البيئة الاجتماعية والطبيعية بصورة بشعة, وذلك في ظل غياب أي رادع سياسي أو ديني, أو أخلاقي قادر على التصدي لتلك المشكلات التي تسيء إلى إنسانية الإنسان. ونتج عن ذلك تلوث البيئة الجغرافية بسبب التصنيع الممكنن بصورة غير عقلانية, وسعي دائم لتحقيق أرباح سريعة, وعدم التزام المهندس المعماري بالمبادئ الخلقية في تقديم سكن مريح يليق بالبشر ولا يمتهن من كراماتهم ككائنات إنسانية ذات حقوق مكتسبة يجب الحفاظ عليها. لقد برز إرباك كبير في الفكر العمراني لعدم وضوح الدور المنوط به لبناء مجتمع الرعاية والرفاه الاجتماعي, وتجاهل مشكلات التلوث البيئي والاكتظاظ السكاني والتشوه الذوقي.

وتم ذلك تحت وطأة الربح السريع الذي تسعى إلى تحقيقه قوى رأسمالية طفيلية, تقوم على المضاربات العقارية, وتخالف أبسط المبادئ الإنسانية والخلقية. هكذا ولدت عمارة ما بعد الحداثة على قاعدة احترام التكوين الشكلي فقط, وتجاهل الموقف الاجتماعي والإنساني, وعدم الاهتمام برفاه المجتمع وبالرعاية الاجتماعية. واتجه بعضها لبناء عمارة بمواصفات تكنولوجيا مجردة من المبادئ أو القيم المثالية, ولا تسعى إلى إشباع الحاجة الجمالية لدى البشر.

تحديث التراث

يتمثل التقليد بانتقال المعرفة من جيل إلى جيل, ومن المعلم الكبير إلى المبتدئ الصغير وذلك عن طريق تكرار الممارسة نفسها. فالتقليد يفضي إلى معرفة مكررة لا تقبل التطور.وهي لا تخضع لضرورات التعديل بل تتجنبه لأنها اكتسبت صفة رمزية كالتي تتمثل بطقوس دينية.

لقد كانت معرفة محتكرة من قبل فئة من المصنعين دون غيرهم للحفاظ على (سر المهنة).

ويلعب التقليد عاملاً أساسيًا في منع قيام التغيير بسبب سهولة التلقين, والحفاظ على معاش القوى المستفيدة من الحرف التقليدية, والطقوس الاجتماعية والدينية المرتبطة بعملية الإنتاج التقليدي.

بالمقابل, بعد أن تحرر الفكر الغربي العلمي من الاعتقاد الأعمى وهيمنة السلطة الفوقية, الدينية والمدنية, تحول العلم إلى سلاح نظري لفهم الواقع بهدف تطويره وتغييره. فالعالم المعاصر لا يعتبر النظرية العلمية أكثر من تعميم مناسب ومفيد في تفسير الظاهرات الطبيعية, وأسلوب التعامل معها. وقد منح العالم لنفسه الحق في الشك لإثبات الفرضية باليقين العلمي. ومن دون هذا الاستقلال المنهجي سيبقى الفكر المعاصر معوقًا.

إن إنجاز عمارة معاصرة يحتاج بالضرورة إلى تسخير تقنيات معاصرة من أجل تلبية حاجات الناس المتزايدة في المرحلة الراهنة. لذا, فاللجوء إلى تقنية غير معاصرة أو نقل أو تكرار الحرفية التقليدية في الزمن المعاصر هو عمل معوق لاستحداث عمارة عربية معاصرة. فلابد للمهندس المعمار العربي من أن يبقى على تماس مباشر مع النظريات المعمارية التي تنتجها مركز الدول المتطورة. وعليه أن يواكب مسار التقدم المعماري العالمي من جهة, وأن يجد لنفسه موقعًا متميزًا في شبكة الثقافة العالمية. وبحصوله على استقلاله النسبي عن الفكر الغربي والعالمي عامة, وعن هيمنة ما هو سائد من التراث المحلي, ينتقل المعمار العربي إلى حالة أكثر تقدمًا في إقامة التوازن الإيجابي بين الفكر العالمي والفكر التراثي التقليدي معًا.

ختامًا, لقد أطلق ابن خلدون في مقدمته مقولات لثقافة كونية الطابع تحت عنوان (علم العمران الحضري). لكن المنظرين الأوربيين والأمريكيين والآسيويين طوروا خصائص العمارة المعاصرة بصورة مذهلة لدرجة لم تعد معها المقولات السابقة قادرة على المواجهة. ولم يترك التكوين الاقتصادي والسياسي العالمي للمجتمعات المحلية في عصر العولمة خيارًا للعزلة.

وليس بمقدور العرب الانعزال عن المجتمعات الأخرى تحت ستار الهوية, والخصوصية, ونقاوة التراث, فقد انفتحت آفاق الثقافة والفنون, ومنها فن العمارة, على متطلبات عصر العولمة, وباتت المواجهة الثقافية تتطلب المزيد من معرفة الثقافات المعولمة بهدف التفاعل الإيجابي معها, والتخفيف من سلبياتها الكثيرة. وذلك يتطلب من الباحثين العرب الكثير من الجهود النظرية للانتقال من مقولات (علم العمران) الخلدوني إلى فن العمارة العصرية, مع الاحتفاظ بجماليات عربية أصيلة ومتميزة.

مسعود ضاهر مجلة العربي يوليو 2006

تقييم المقال: 1 ... 10

info@3rbi.info 2016