حاول أمل دنقل كتابة الشعر على طريقة شعراء "أبوللو" الذين ردوه إلى نماذجهم الشعرية القديمة، ومنها أن الكتب التي كانت متاحة في قريته النائية بأقصى صعيد مصر لم تكن تعرف أشعار رواد حركة الشعر الحر، سواء في مصر أو غيرها من الأقطار العربية. يضاف إلى ذلك أنه، إلى منتصف الخمسينيات، لم تكن حركة الشعر الحر قد فرضت وجودها تماما في مصر بوجه عام، وفي صعيدها المحافظ بوجه خاص، فقد نشر صلاح عبد الصبور ديوانه الأول "الناس في بلادي" سنة 1957، وصدر الديوان الأول "مدينة بلا قلب" لأحمد عبد المعطي حجازي سنة 1955، ولم يكن هناك ما ينتسب إلى الشعر الحر قبلهما سوى الأعمال الشعرية الباكرة لعبد الرحمن الشرقاوي، من مثل قصيدته الشهيرة "من أب مصري إلى الرئيس ترومان". وهي قصيدة لم تصل إلى مداها الذي نعرفه من الذيوع والانتشار إلا بعد حرب السويس سنة 1956.
والواقع أن حركة الشعر الحر بوجه عام ظلت هامشية إلى حد بعيد إلى أن جاءت حرب السويس، وتفجر الشعور القومي على نحو لم يسبق له مثيل، وبدأت صحوة المشروع القومي بما فتح الوجدان والوعي الشعريين على آفاق جديدة من التجديد والتحرر.
وكان أمل دنقل قد بدأ محاولة الكتابة الشعرية منذ سنة 1954، أي منذ أن كان في الرابعة عشرة من عمره، فقد ولد سنة 1940 وتوفاه الله سنة 1983، وظل يجالد الكتابة إلى أن استطاع نظم قصائد لفتت إليه الأنظار في المدرسة الثانوية، وفي الأوساط الثقافية المحدودة في جنوب الصعيد. وقد ترك لنا في أوراقه الخطوطة مجموعة من قصائد الأول، مثل قصيدة "لقاء" التي كتبها سنة 1956، و"قبل الرحيل" سنة 1957، و"قالت" سنة 1958، وكلها قصائد كتبها في مدينة قنا في الجنوب، قبل أن يرتحل إلى القاهرة سنة 1959 بعد إكمال دراسة الثانوية، وهي قصائد أرجو أن ترى النور قريبا حتى تكتمل صورة ذلك الشاعر الكبير في أذهان قرائه.
مناخ جديد
وفي القاهرة، تعرف أمل دنقل على الشعراء الجدد، وبدأ يسمع عن صلاح عبدالصبور الذي كان قد أصدر ديوانه الأول عام 57، وعن حجازي الذي أصدر ديوانه الأول في العام نسه، وعبد الرحمن الشرقاوي الذي كان الجميع ينظرون إليه بوصفه رائدا من رواد الشعر الحر شأنه في ذلك شأن لويس عوض. ومع المناخ الثقافي الجديد، أخذ أمل ينفتح على عوالم إبداعية مختلفة، ويترك شيئا فشيئا الجوانب التقليدية المحافظة التي انطوت عليها نشأته الأولى في بيئة قاسية صارمة ويقبل على شكل الكتابة الشعرية الجديدة التي وجدت من يدفع بها إلى الأمام من رواد الشعر الحر في العراق ولبنان وسوريا، خصوصا بعد أن أصبح في مقدوره الاطلاع على النماذج الشعرية التي عرف بها كل من البياتي والسياب ونازك الملائكة ويلند الحيدري، فضلا عن نزار قباني وأونيس وخليل حاوي، والفيتوري وتاج السر حسن، وهي النماذج التي أخذت تفرض حضورها مع النصف الثاني من الخمسينيات، بعد أن أتاحت لها مجلة "الآداب" البيروتية "التي أنشأها سهيل إدريس سنة 1953" دوائر متسعة من القراء على امتداد الوطن العربي.
ولم يكن طبيعيا أن ينتقل أمل دنقل مرة واحدة من الشكل العمودي إلى الشكل الجديد، ولا من الموضوعات التقليدية إلى الموضوعات الواقعية، فقد كان التحول يحتاج إلى وقت. وكان أمل يتنقل من القديم إلى الجديد الذي لا يزال قريبا من القديم بحكم ثقافته التقليدية الراسخة، ولا يقحم نفسه إلا فيما يشعر أنه قادر على امتلاكه والإضافة فيه، وأهم من ذلك الاقتناع بأن الأفق الجديد الذي يغامر بدخوله ينطوي على بعض الوعد الذي ينقله إلى درجة أعلى من قدرة التعبير عن النفس. وهكذا أخذ ينتقل من الموضوعات القديمة التي لم تخل من منظومات وعظية، ومن التوقف عند بعض القيم الأخلاقية المتوارثة في الصعيد، إلى موضوعات من جنس ما كان يكتب فيه رواد الشعر الحر في الخمسينيات، حين كان النزعة الرومانتيكية لها التأثير الغالب على الوجدان الشعري العام.
ويبدو أن انفتاح أمل على العوالم الرومانتيكية التي كانت تتناسب وفورة وجدان شاب لم يكمل العشرين من عمره، ودخوله إلى الجديد متأثرا بالمناخ التحرري الذي شاع في أعقاب حرب السويس سنة 1956، وتعرفه محاولات التمرد على القصيدة العمودية، يبدو أن ذلك له دفعه إلى ممارسة التمرد الإبداعي في الكتابة على طريقته حتى من قبل أن يصل إلى القاهرة سنة 1959، فهجر لزوم القافية الموحدة إلى تنويعات القوافي التي ورثها معاصروه عن مدرسة أبوللو، وآثر الأوزان التي أصبحت أثيرة لحرة الشعر الحر، واتجه إلى الموضوعات الوجدانية التي ظلت المرأة تحل فيها موقع الصدارة، واشتد إلحاحه، بعد أن حط الرحال في القاهرة، على الغربة التي كانت تؤرقه في العاصمة التي لم تكن تشبه، فقط، عالم القرية التي نشأ فيها أو المدينة الصغيرة التي تعلم فيها في أقصى الجنوب.
روضة الشعر
وحسب ما أعلمه إى اليوم، كانت مجلة "صوت الشرق" المجلة الأولى التي استجابت إلى مراسلات الشاعر الصغير من أقصى الجنوب، ونشرت قصائده الأولى وكانت هذه المجلة تصدر عن السفارة الهندية بالقاهرة، ولا تزال إلى اليوم، تعزيزا للروابط بين بلدان الشرق. وكان يرأس تحريرها في ذلك الزمان أديب أخذ على عاتقه تشجيع الأصوات الشابة، هو خليل جرجس خليل الذي فتح صفحاتها لكبار الأدباء، ولا يدخر وسعا في العمل على جذب الشباب للإقبال على المجلة والكتابة فيها. وقد نجح في ذلك نجاحا كبيرا شهدتها أعداد المجلة.
وكان القصيدة الأولى التي نشرتها "صوت الشرق"، في شهر يونيو سنة 1958 للشاب أمل دنقل، قصيدة مطولة بعنوان "راحلة" احتلت أغلب صفحة "روضة الشعر". وهي قصيدة من قصائد الوجدان الفردي، تعتمد على تفعيلة البحر المتقارب في تدفقها الإيقاعي الذي يلجأ إلى تنويع القافية حسب تنوع أمواج الدفقة الشعورية اتي تندفع معها القصيدة منذ البداية على هذا النحو:
أحـقـا رحـلت.
إلى أين.. يا فتنتي الخالدة؟
إلى أين .. يا زهرتي الناهدة؟
إلى عالم زاخر بالضباب؟
يلفك في عمقة الحالم؟
فلا تسمعين أنين العتاب
ولا زفرة القلق الواجم؟
أحقـا رحلت؟
أحقـا أفلت؟
فإني هنا في اصطخاب الظنون
ولست أصدق ما قيل عنك
فطيفك يرقص بين الجفون
ونورك خضب سهد العيون
وسحرك أرعش دمع الحنين
فلم أر شيئا.. ولم أسمع
ولم تر عيني سوى أدمعي
وقهقهة السخريات الأليمة
يطوف صداها بكل الوجوه
وألمح فيها اصفرار النميمة
فأدفن سمعي وعيني وقلبي
بمقبرة الصمت والاكتئاب
وأصوات رفقتي الغاشمة
تردد في نبرة قاتمة
بأن قد رحلت.
تدفق إيقاعي
وبقدر ما تعتمد مطولة "راحلة" على انفعال أساسي يهيمن على التجربة، ويجذب عليه كل المفردات المتجانسة مع طبيعته، فإن هذا الانفعال يضبط حركة تداعي الصور في القصيدة، وحركة التدفق الإيقاعي في الوقت نفسه، ويناقل ما بين الاثنين داخل تدرج البناء الذي اعتمد بالدرجة الأولى على ما أثاره الانفعال من دفقات أو موجات متتابعة، ظلت تتابع إلى أن هدأ الانفعال نفسه فأوصل القصيدة إلى نهايتها الشعورية. ومن هذا المنظور، فالقصيدة المطولة تحكي تجربة حب مجهضة من تجارب الشباب الباكر التي تتكرر كثيرا في هذه المرحلة العمرية التي كان فيها أمل "البالغ من العمر ثمانية عشر عام" عندما كتب القصيدة، وتدور وقائع القصة التي تسردها القصيدة حول قلبين تحابا في الصغر، جمع بينهما طل الحب الجميل في مدينة قنا، لكن أصوات الوشاة وصرخات الغاضبين وعيون الحاسدين ونواهي الأقربين قمعت وردة الحب التي تفتحت، وطاردت الحب بما أجبر الحبيبة على الرحيل الذي فوجئ به الشاعر:
رحلت بلا بسمة شافيه
رحلت بلا نظرة حانية
رحلت بلا شهقة شاجية
رحلت بلا وقفة في الطريق
لنلقي نشيد الوداع العميق.
وكان رحيل الحبيبة إلى القاهرة التي سوف يرحل إليها الشاعر العاشق بعد عام صدمه كبيرة موجعة، تركت جرحا عميقا غائرا، وثورة غاضبة يمتزج فيها الحزن بالسخط، ولذلك تتدافع الأبيات في نوع من التهدج الوجداني الثائر الغاضب الذي يعلن السخط على جمود الأقربين وأقوال المغرضين:
عبيد التقاليد والعادة
ومن يئدون الضياء المنير
بيتون في القلب حب الحياة
***
يريدون حرماننا في الشباب
لأن شبابهمو قد ذهب
وأضحوا خريفا من الاكتئاب
فأينع غيظهمو والتهب
شوق بعيد المدى
وفي ثورة الشاعر الشاب على هؤلاء الأهل ثورة على التقاليد التي يحافظون عليها، وثورة على الجمود الفكري الذي يحرم الحب على القلوب الشابة، وثورة على العقد المكبوتة لجيل الكبار الذي يدون أن يمنعوا الشاب من كل ما حرموا منه في حياتهم الماضية، ولا تتوقف هذه الثورة على الأهل، وإنما تمتد إلى الحبيبة التي انصاعت إليهم، ولم تقومهم، بل رضخت لما أرادوا فحية بالحب والحبيب تنثرت بحبه الكبير وعصفت بقلبة الأخضر، وما ذلك إلا لأنها طفلة لا تعرف معنى الحب الحقيقي، ولاهية يفرحها أن تشد إلى هواها من تتخلى عنه دون ندم. وما يلفت الانتباه في هذه الثورة هو محاولة الغوص في نفسية هذه الطفلة واستبطان مشاعرها الاهية من منظور الشاعر الغاضب. ومن تصوير هواجسها ونجواها الذاتية على نحو يكشف عن مقدرة شعرية لا جدال في أنها أفادت من أصوات الشعراء الكبار.
وعموما، فالقصيدة تحمل أنفاس أبوالقاسم الشابي وعبد الرحمن الشرقاوي وشيئا من طريقة نزار قباني استبطان مشاعر المرأة. وفضلا عن ذلك، تنطوي على التقاليد الرومانتيكية التي تصوغ المشاعر صباغة مطلقة، في تقلبها بين الأضداد التي تتمزق ما بين نقائض الحب والكره. وتصور شخصياتها تصويرا يختزل كل شخصية في صفة واحدة حدية.
ومهما يكن من أمر، فقد لفتت قصيدة "راحلة" انتباه خليل جرجس خليل رئيس تحرير المجلة الذي نشرها كاملة بوصفها علامة على شاعر واعد في الثامنة عشرة من عمره. ويبدو أنها ظلت في ذاكرته إلى أن وصلته مقطوعة جديدة للشاعر نفسه فنشرها في العدد الثاني والسبعين من شهر سبتمبر سنة 1958، وذلك في صفحة الباب الثابت "بأقلام الأدباء" الذي خصص في هذا العدد لقصائد الشعراء الذين تعودوا مراسلة المجلة. وكان هؤلاء: ابن الريف: البكري حسن، وصلاح حسين رمضان مدرس بالمنيا، ومحمد حسيب القاضي من غزة، وعباس حلمي نديم مهندس بتليفونات القاهرة. وأخيراً محمد أمل دنقل من قنا- شركة أتوبيس الصعيد. ويبدو أن أمل كان يعمل ي هذه الشركة التي كان يمتلكها أحد أقاربه منذ ذلك الوقت الباكر.
وكانت المقطوعة الشعرية بعنوان "سأحمي انتصارات الشعب".
وتمضي على النحو التالي:
سأمضي إلى الموت..
لست أخاف..
ولست أعافي كئوس الردى
غدا يا حياتي فإن بلادي تنادي
الشباب لمجد الغدا
سأمضي .. وأقضي على الأفعوان ..
واملأ الردى بالصدا
سأمضي فلا تجزعي ..
كم نداء يهيب بقلبك أن يصمدا
وكم من شقيق مشى للمنايا ..
يدوس الشظايا .. يلبي الندا
سأمضي لأصنع مجد السلام ..
وأبني لنا بالدماء غدا
سأقبس نصري من بسمة .. على شفتيك .. تشع الهدى
عيونك خضر .. كغصن السلام .. وإني أرى عنده الموعدا
فأحمي انتصارتا شعبي.. وأنى لثارات شعبي أن تخمدا؟
ويوم أعود سألقي إليك قصائد شوقي بعيد المدى
والمقطوعة فورة من فورات التحرر الوطني التي ولدتها حرب السويس سنة 1956 . وفي نبضها المتدفق مع بحر المتقارب الذي يصلح للاندفاع الوجداني ما يؤكد صدورها عن شاعر يحاول المزج بين الوجدان الجمعي والوجدان الفردي في الوقت نفسه . فهناك الحبيبة ذات العينين الخضراوين . وهناك الوطن الأخضر . والصلة بين الاثنين صلة تدني بالطرفين إلى حال من الاتحاد ، فالحبيبة هي بعض ما يدفع الشاعر المقاتل إلى الدفاع عن الوطن والتضحية من أجله وانتصار الوطن هو ما يعيد الشاعر إلى الحبيبة ليلقي على مسمعها قصائد شوق بعيد المدى.
الواجب والعاطفة
ويستبدل الشاعر بالفكرة الروماتيكية عن الاستشهاد في سبيل الحبيبة الاستشهاد في سبيل الوطن ، فالواجب قبل العاطفة ، لكن بما لا يقضي على العاطفة وينقلها من الدائرة الصغرى إلى الدائرة الكبرى .
وطبعا يمكن أن نلمح قلق الصياغة في هذا الموضوع أو ذاك ، أو ما يجر إليه حرص التقفية ، أو اتباع المعجم الشعري الشائع ، والصورة الشعرية الذائعة في سنوات ما بعد حرب السويس ، ولكن المقطوعة مع ذلك كله تؤكد حضورا شعريا واعدا لشاب صغير السن يعرف كيف يروض الوزن والقافية ويصهر العام القالب العمودي بأنفاسه الرومانتيكية التي تمزج بين العام والخاص صانعة بداية الالتزام السياسي الذي سار فيه الشاب نفسه بعد نضجه.
لكن من هي تلك الفتاة التي تقبس القصيدة النصر من بسمة تشع الهدى على شفتيها ؟ إن عينيها خضراوان كغصن السلام الذي يرى فيه الشاعر موعد العودة إلى الحبيبة . هاتان العينان الخضراوان قد تكون صاحبتهما فتاة فعلية انجذب إليها أمل دنقل في شبابه الباكر ، ورأى فيها فتاة أحلامه لكنها سرعان ما تحولت إلى رمز لموطنه الجنوب واقترنت بمعاني الطهر والبراءة وإمكانات الخصب التي توحي بها العينان الخضراوان . ولذلك رسخت هاتان العينان في قرارة الوجدان الشعري لأمل الذي كتب عنها ثلاث قصائد على الأقل في ثلاث سنوات متتابعة . هي " إلى ذات العيون الخضر " التي كتبها في الثالث من أغسطس سنة 1960 في مدينة القاهرة والعينان الخضراوان التي كتبها في الأسكندرية في الخامس عشر من أكتوبر 1961 .
ويبدو أن هاتين العينين الخضراوين ظلتا تناوشان الشاعر في أمل إلى أن ذابت ذكرياتها في زحام القاهرة التي وصفها أحمد عبد المعطي حجازي الذي أصبح صديقه ومعلمه بأنها مدينة بلا قلب .