ربما كان من أهم دروس النكبة عدم وضوع الرؤية الاستراتيجية العربية، فالنظرة الشاملة إلى كل الظروف والعوامل التي أدت إلى تأسيس دولة إسرائيل منذ خمسين عاماً واستمرار احتلالها للأرض العربية طيلة هذه الفترة ، تؤكد أنها لم تتغير كثيراً عبراً مراحل الصراع، بل نجدها الظروف والعوامل ذاتها التي نواجهها اليوم والتي لم يتغير جوهرها وإنما الذي تغير هو الشكل وأساليب التعبير وطرق التطبيق، وإذا كان ذلك كله يرجع أساساً إلى دقة التخطيط الصهيوني الإسرائيلي الذي تم وفق أهداف ثابتة وبرنامج محكم الحلقات وتحالفات واضحة المصالحة والأبعاد، فإن الذي ساعد على ذلك أيضاً وبنسبة كبيرة هو استمرار غياب الرؤية الاستراتيجية العربية الواضحة، وما نتج عنه من ضياع الأهداف والتوجهات وتشتيت للقوى العربية في اتجاهات ثانوية . فلا الكفاح المسلح داخل الأراضي المحتلة أو خارجها قد حقق طموحاته، ولا الإجماع العربي المنشود والموقف الموحد الذي نصبوا إليه قد تحقق طوال سنوات الصراع تلك ، ولا الدخول في مشروعات التسوية واتفاقات السلام قد حقق كامل المصالح العربية، مما أدى إلى تراجع ثقل القوى العربية إقليميا ودولياً، وكان هذا كله تكريسا للخلل الواضح في طبيعة وأبعاد المعادلة الاستراتيجية لإدارة الصراع العربي- الإسرائيلي والتي استمرت عبر سنواته الخمسين.
حيث تتمثل هذه المعادلة في أن غياب الرؤية الاستراتيجية العربية الواضحة، إدى إلى فقدان الهدف وتشتت الجهود، فكانت الكثرة العددية العربية الهائلة غير مقترنة باستعداد وحشد عسكري كاف وفعال. وفي المقابل كان هناك وضوح للرؤية الاستراتيجية الصهيونية ، وإصرار إسرائيلي على تحقيق الأهداف الاستراتيجية المحددة، يواكبه استعداد وحشد عسكري كاف ومتفوق يعمل تحت قيادة موحدة ، ولذلك ظل الميزان الاستراتيجي في مصلحة إسرائيل . وبالرغم من ذلك يمكن القول بأن المشروع الصهيوني فشل في تحقيق غايته العليا، حتى الآن، حيث لم تحل بعد المسألة اليهودية لتصبح إسرائيل حصنا لكل يهود العالم ، وتجسيد حلم الأمة اليهودية الكبرى، كما لم تتمكن إسرائيل من إلغاء شعب فلسطين أو تطويع الإرادة العربية ولم تستطع إسرائيل أيضاً أن تصبح النموذج الإقليمي المصغر للقوة الامريكية في الشرق الاوسط. ولذلك فهي تسعى لأن تحقق جوهر إسرائيل الكبرى انطلاقا من المنطقة التي يمكن أن تتحكم بها اقتصاديا أو عسكريا بغض النظر عن المساحة التوراتية، ولذا فهي تحافظ بإصرار على وضوح رؤيتها الاستراتيجية وتحرص على ضمان استمرار الخلل في معادلة توازن القوى الشاملة لمصلحتها ، وامتلاك القدرة على التحكم بمسار التطور المستقبلي لخريطة المنطقة ، وهذا يتطلب منها امتلاك قوة عسكرية كبيرة والتركيز على المعايير الأمنية وفق منظورها التقليدي.
والحل يكمن في قيام العرب بنقد الذات والبحث عن أسباب غياب الرؤية الاستراتيجية الواضحة، منذ الهجرة اليهودية إلى أرض فلسطين وحتى قيام دولة إسرائيل. لذلك لم يكن أمام العرب طوال هذه العقود سوى البحث عن وسائل آليات لاستيعاب اللاجئين العرب ، وبدلا من دعم المقاومة العربية داخل الأراضي المحتلة لمنع استمرار الاستيطان اليهودي وتقويض الأمن الإسرائيلي، انقسم العرب على أنفسهم حول وسيلة المواجهة المثلى. وفي الوقت الذي أكدت فيه الانتفاضة الفلسطينية قدرتها على تقويض القوة العسكرية الإسرائيلية، وإجبار إسرائيل على تغيير أهدافها وآلياتها المرحلية، استمر الانقسام العربي حول الأيدولوجيات والصراعات الداخلية والانكفاء على المشاكل العربية نتيجة لضياع الرؤية الاستراتيجية، وتفاقمت الأوضاع مع وصول حكومة نتنياهو المتعنتة، إلى أن وصلت من التقهقر إلى حد جعل العرب أخيراً يتفقون حول ضرورة صياغة استراتيجية جديدة لمواجهة استراتيجية نتنياهو، التي تتلخص في خلق الأزمات وإغراق المنطقة في زخم لا ينتهي من الأحداث والتقلبات والتسويف في تنفيذ الالتزامات الإسرائيلية تجاه عملية السلام، مما تطلب ضرورة امتلاك العرب لرؤية استراتيجية عربية واضحة وعدم التسليم بأن ما يحدث هو حتمية تاريخية وقدر قد فرض عليهم .
ولن يستطيع العرب الاستفادة من أهم دروس النكبة والقضاء على " حتمية التاريخية " إلا إذا استطاعوا حسم الصراع القائم بين مفهوم الدولة القطرية ومتطلبات الأمة العربية، واتباع عدة مسارات استراتيجية تصوغ الرؤية الاستراتيجية الواضحة وفق قناعات تامة تشمل ما يلي:
- الكف عن لوم الآخرين والتنقيب في شئونهم الداخلية الخاصة، لتشخيص المشكلات القائمة بينهم ، سعيا لحل النزاعات والخلافات البينية والاتفاق على الحد الأدنى من المصالح الحيوية المشتركة وعلى آليات تنفيذها دون مهاترات أو تنصل من المسئولية.
- ضرورة امتلاك العرب للأسلحة المناسبة لإدارة الصراع والتي احتكرتها إسرائيل لمدة طويلة وهي العلم والتكنولوجيا والبحث والتطوير، ولذلك يجب أن يوظف العرب أموالهم لبناء العلم والتكنولوجيا العربية حتى تتوافر لهم القدرة على المواجهة والتغلب على الفجوة مع إسرائيل، وبهذا وحده يتم إثبات الذات العربية.
- ضرورة إقامة جبهة عربية موحدة تتناسى كل الخلافات وتعلو على كل الظروف والحساسيات وتنضج بالقدر الذي يتيح لها التضامن في مواجهة الموقف الإسرائيلي ، حتى تستطيع أن تفرض مصالحها في عالم لا يعترف بالتجزئة ولا يحترم مصالحها في عالم لا يعترف بالتجزئة ولا يحترم فلسطين والاعتراف بها حفاظا على جوهر الصراع وقضيته الأساسية.
- السعي الإعلامي النشط داخل الولايات المتحدة الأمريكية لإقناع الراي العام الأمريكي، بأن إسرائيل لم تعد الدولة الصغيرة الناشئة المحاطة بطوق عربي معاد يتحين الفرصة للقضاء عليها ، وهي الخدعة التي اعتمدت عليها إسرائيل لكسب التعاطف الأمريكي والدولي. وينبغي أن تركز الحملة الإعلامية العربية على ترسيخ حقيقة أن العرب أكثر حرصا على السلام من إسرائيل ، ولكنهم ينشدون السلام العادل والشامل الذي يحترم جميع حقوق الأطراف المعنية، ولن يتحقق هذا السلام إلا إذا أخذ في الاعتبار أمن كل دول المنطقة في معادلة سليمة واضحة المعالم.
- تنشيط الدبلوماسية العربية على المستوى الدولي، سواء في المنظمة العالمية أو على المستوى المجتمع الدولي، حيث ظهر جلياً أن الأمم المتحدة تعاملت مع قضايا الصراع من منطلق ردة الفعل على الأمر الواقع وعدم المصداقية في التنفيذ، كما ساهمت في إضفاء الشرعية الصلف الإسرائيلي واستمراره، ومن المفارقات أن الدول العربية لا تجد سبيلا في مواجهة الغطرسة الإسرائيلية سوى مناشدة الأمم المتحدة إنصافها ومطالبتها بتنفيذ مئات القرارات الصادرة عن الجمعية العامة ومجلس الأمن دون جدوى، وكل هذا يعكس إحدى النتائج التالية : إما أن الرأي العام العالمي يفهم ولكنه غير قادر على فرض قراراته على أطراف الصراع ، أو أن المجتمع الدولي يفهم ولكنه لا يريد أن يتدخل بصورة فعالة، ولذلك كله فإن الأمر يقتضي بناء دور عربي قوي وفعال لإقناع المجتمع الدولي بالتدخل قبل تشييع عميلة السلام لمثواها الأخير والعودة لمنطقة الصراع.
لاشك أن ما حدث خلال النكبة لم يكن قدراً محتوماً، ومن ثم فإن فرض الإرادة العربية وتحقيق المصالح الحيوية ليس مستحيلا أو ضربا من الخيال، بل هو عمل في متناول القائمين على القرار العربي، ينبغي عليهم إنجازه لحماية مستقبل الأمن العربي بعد استيعاب الدرس ووضوح الرؤية الاستراتيجية.