مختارات من:

د. جابر عصفور ود. محمد بدوي

المحرر

قرأت «الأيام» فقررت أن أكون كطه حسين


* لا تناقض في موقف الناقد الذي يهتم بالبعد الجمالي والبعد الاجتماعي معا
* التاريخ لا يعود إلى الوراء بل يحمل في نهايته وعدًا ما

يعرف القرّاء جابر عصفور ناقدًا للشعر والنثر، وأستاذًا أكاديميًا متخصصًا في النظرية الأدبية في الموروث النقدي والبلاغي. وقد قاده العمل الطويل في المفاهيم والأفكار والمقولات إلى منطقة «الخطاب» الفكري المحتفل بقضايا من قبيل «التقدم» و«الحداثة»، و«معوقات التقدم» فضلاً عن قضايا «الأيديولوجيا» و«التأويل».

درس جابر عصفور الأدب العربي ودرّسه في كثير من الجامعات، جامعة القاهرة وجامعة وسكنسون وجامعة هارفارد في أمريكا، وجامعة الكويت في الكويت، وجامعة أوباسالا في السويد. وقدم عصفور للمكتبة العربية كتبًا ودراسات عن «الصورة الفنية» و«مفهوم الشعر» في التراث البلاغي والنقدي، كما انشغل طويلاً بقضايا قراءة التراث وتأويله وشروط القراءة ومعوقاتها.

أما دوره النقدي في ما يخص الإنتاج الثقافي العربي الحديث فتعبر عنه عشرات الدراسات ومئات المقالات التي كتبها في المجلات المتخصصة والعامة على السواء. وتكشف هذه الدراسات عن تبنٍ لموقف يحاول تطوير نفسه دائمًا في ما يخص قضايا الحداثة والتغيير وعلاقة الأدب بما يجري في الحياة العربية. وهكذا كتب عن الحداثة، وعبدالصبور، وأدونيس، وسعدي يوسف.. إلخ. كما كتب عن الرواية وتأسيسها، ثم تابع منجزات أعلامها، وفي ما يكتبه اليوم في أكثر من صحيفة ما ينبئ عن متابعة دقيقة لما يجري في مجالي الشعر والرواية.

أجرى الحوار محمد بدوي وهو ناقد وأكاديمي وكاتب درس في جامعة القاهرة، ويعمل فيها. كما درّس الأدب العربي في أكثر من جامعة، مثل: جامعة صنعاء، والجامعة الأمريكية بالقاهرة، وجامعة البحرين. وهو مهتم بقضايا الكتابة العربية المعاصرة، وقد كتب عن الرواية العربية المعاصرة والشعر الحديث. كما أنه يهتم بتحليل الخطاب عمومًا، وخصوصًا «الخطابات الثقافية». من أهم كتبه: «الرواية الحديثة في مصر»، و«بلاغة الكذب»، و«لعب الكتابة، لعب السياسة». وله كتاب تحت الطبع عن نجيب محفوظ يحمل اسم «مملكة الله».

وقد حرص المحاور أن يجعل حواره «وقفة تأملية» يسترجع فيها جابر عصفور أهم المحطات في رحلته الصعبة من مدينة المحلة إلى موقع الأستاذ الأكاديمي، والناقد الذي لم يفقد يومًا إيمانه بالكلمة، ودور المثقف، وضرورة تبني العقلانية. حضر جلسة الحوار المطولة، وشارك فيها الزميل الناقد د. حسين حمودة من جامعة القاهرة.

* نبدأ بالحديث عن المرحلة التي كنت تعد نفسك فيها في النقد الأدبي. كيف كنت تحلم بدور النقد، وكيف كنت تراه؟

- لا. دعني أعود إلى البداية، حين قرأت كتاب «الأيام» فتنني إلى أقصى حد، حتى أنه حدد لي مسار حياتي. «قرأت الأيام» فقررت أن أكون كطه حسين. وحين وجدت أنه يكتب الروايات بالإضافة إلى الدراسات، قلدته. كنت أكتب الشعر، وأحاول أن أكتب دراسات أيضًا. كان أولها عن شوقي، ولم يكن بحثًا بالمعنى الحقيقي، بل مجرد تلخيص لكتاب قرأته. ثم قرأت رواية فتحي غانم «الرجل الذي فقد ظله» وبدأت أكتب ملاحظاتي وأنا أتابع القراءة.

لكنني وجدت نفسي مندفعًا لكتابة الشعر، شأن أي شاب في سني. كنت مبهورًا بصلاح عبدالصبور، وكان معظم ما أكتبه تقليدًا له.

* لكن لم يلفتك أحد غير عبدالصبور؟

- لأنه كان نجم الشعر المصري بلا منافس.

* هل هذا تفسير كافٍ، أم أن هناك عناصر أخرى. مثلاً مفهوم الشاعر المفكر الذي دعا إليه عبدالصبور؟

- جائز، لكنه ليس السبب الأول. كان عبدالصبور نموذج الشاعر، والوحيد الذي تذاع قصائده في الإذاعة. أذكر في احتفال في دنشواي أذاعت آمال فهمي في البرنامج العام قصيدة «شنق زهران» هذا أولاً. ثم إن عبدالصبور يكتب شعرًا فيه قدر من التأملات الفكرية التي أميل إليها. لهذا لم أكن أكتب شعرًا عاطفيًا.

* ترى لماذا يكتب الشباب المصريون في هذه السن الشعر؟

- أولاً: الشعر هو النمط الثقافي الأكثر سيادة والأكثر جذبًا لاهتمام الشباب في ذلك الوقت، ثانيًا: صورة الشاعر لدى الشبان مازالت صورة محاطة بالغموض والسحر. الشعر فن العربية الأول، ويتم نشره في مؤسسات التعليم منذ البداية. لا تنس أننا كنا في هذه المرحلة في حالة حرب. كان الشعراء يلقون قصائدهم في الإذاعة وأحيانًا تتحول إلى أغانٍ مثل أغنية «دع سمائي فسمائي محرقة» التي غنتها فايدة كامل. كان الشعر أحد أسلحة المعركة التي كانت مصر تخوضها.

في فترة المرحلة الثانوية قرأت روايات كثيرة. ولحسن حظي كان لدينا في المحلة الكبرى رجل اسمه «عم كامل». كان يملك عربة صغيرة، يبيع عليها الكتب المستعملة ويؤجرها مقابل ثمن زهيد. كنت أقرأ كل ما ينشر آنذاك، الكتاب الفضي، والكتاب الذهبي، ومطبوعات لجنة النشر للجامعيين. وهكذا قرأت يوسف السباعي الذي استهوتني كتابته. وكنت أشعر بالتعاطف مع الأبطال الفقراء الذين يكملون تعليمهم ويغيرون حياتهم. أحببت عبدالحليم عبدالله والسباعي. ولا تنس أن بطل «رُدَّ قلبي» ابن أسرة فقيرة يصل من خلال التعليم. هذه القراءات دفعتني إلى كتابة أولية، محاولات يمكن أن تسميها لوحات قصصية.. أذكر كان لدينا دكان يقع في شارع سوق خضار، وكنت أكتب عن الناس فيه، أبناء السوق من الباعة والحمالين.

* كنت قرأت لوحات يحيى حقي؟

- لا، يحيى حقي جاء في مرحلة متأخرة. كنت لم ألتقِ بعد بواحد اسمه «نجيب محفوظ». وحين قرأت «زقاق المدق» و«خان الخليلي»، ثم «الثلاثية». كان محفوظ يمسك بعصا موسى التي أكلت ما قبلها. وبعد قراءته تغير كل شيء في وعيي، حصل تراتب للوعي الجمالي لديّ. هبط عبدالحليم عبدالله والسحار والسباعي، وتربع على القمة نجيب محفوظ، الذي جعلني بعد ذلك أستمتع بما يكتبه يوسف إدريس. لا أنسى حتى لحظتنا هذه المشهد الأساسي في قصة «أرخص ليالي»، الرجل الريفي الذي شرب شايًا، ولا يعرف كيف ينام، وفي النهاية لا يجد أمامه سوى زوجته. الغريب أنني اكتشفت هذا المعنى في أحد مونولوجات «مأساة الحلاج»:

أنا رجل من غمار الموالي
ولدت كآلاف من يولدون
بأيام آلاف هذا الوجود
لأن فقيرًا بذات مساء سعى نحو حضن فقيره
وأطفأ فيه مرارة أيامه القاسية

* لكن ألا يمكن ردّ المشهد برمته إلى الواقع الاجتماعي خاصة أن كليهما من ريف الشرقية؟

- طبعًا. كلا الأمرين محتمل، لكنني لاحظت تشابهًا في بعض قصائد صلاح عبدالصبور وقصص إدريس. «السيدة فيينا» مثلاً هي قصيدة «أغنية من فيينا» لعبدالصبور.

الجمعة المغلقة

* إذن ماذا عن «الجمعة المغلقة» فضاء المحلة و«أصدقاء المحلة»؟

- إلى أن دخلت الجامعة لم أكن عرفت أيّ واحد ممن صاروا أصدقائي بعد ذلك.

كنت أعرف بعض زملاء الثانوي ممن يحبون القراءة ولم يكملوا، لكن كان هناك أمين المكتبة الذي عرفني بجماعة أدبية في قصر الثقافة، تقيم ندوة في الأدب كل أسبوع. كان أعضاؤها نصر حامد أبو زيد الذي كان يكتب شعرًا بالعامية، وسعيد الكفراوي القاص، وشابا اسمه أحمد عسر رحمه الله، ورمضان جميل الذي كان يكتب قصصًا تشيكوفية، ومحمد صالح الشاعر، وأحمد الحوتي، وفريد أبو سعدة، بعد ذلك جاء شبان أصغر: المنسي قنديل، وجار النبي الحلو. كانت ميول نصر وسعيد إخوانية. وكنا نلتقي في شقة صغيرة خارج البلد، بالقرب من شركة للغزل والنسيج، وكان يؤجر الشقة زكريا التوابتي الذي كان يكتب القصة، وفاز بجائزة نادي القصة مرتين، لكنه كان إخوانيًا. ولذلك كنت مثل جبهة المعارضة. وفوجئنا باعتقاله، وقيل إن الشقة مقر سري للإخوان، ومخزن للأسلحة. ظل الأمن يراقبنا، وبسبب ذلك تأخر تعييني في الجامعة، حتى تأكد الأمن أنني لست إخوانيًا.

ولكن لماذا راقبني الأمن كل هذه المدة؟ عرفت الإجابة بعد ذلك بزمن طويل، حينما التقيت بالتوابتي بعد خمسة عشر عامًا في صنعاء. كان قد أصبح صاحب منصب مهم في المعاهد الدينية في صنعاء. بمساعدة الإخوان طبعًا. قال لي إنهم حين عذبوه قال لهم أي أسماء تخطر على باله. وكان أول اسم خطر له هو اسمي «قلت لنفسي جابر يساري كافر والخلاص منه نعمة».

* حين جئت من المحلة كيف كان فضاء القاهرة؟

- كان زميلي في الدفعة الشاعر حسن توفيق. وفي السنة الثالثة اختلفت مع شوقي ضيف على قراءة كلمة في إحدى سيفيات المتنبي. وكان ذلك في ما يرى شوقي ضيف وقاحة مني، إلى أن أصبح بيننا يوسف خليف واعتذرت له وقبل اعتذاري. وفي امتحان الشفوي قال لعبدالعزيز الأهواني: «إن جابر أحسن طالب في الدفعة».

كان الأهواني يقدر علم ضيف، لكنه يختلف معه. وكان يحاول أن يوسع آفاقنا بقدر ما يحتمل سننًا. وهو الذي أرسلني إلى «الجمعية الأدبية» التي كان من أعضائها: عبدالصبور، وعبدالرحمن فهمي، وعز الدين إسماعيل، وشكري عياد، وكان أنشط الأعضاء فاروق خورشيد، وكان مقر الجمعية في شارع قولة في حي عابدين.

كانوا تلاميذ أمين الخولي الذي فصل من الجامعة عام 1954 وتوفي 1965. ومن خلالهم عرفت قيمة الشيخ أمين الخولي باعتباره أستاذًا عظيمًا. وقرأت في هذه الفترة كتبه. أصبحت أحضر ندوات الجمعية. وكنت أميل إلى الفكر القومي ولذلك كانت تتوسط بين اليمين واليسار وأنا بطبعي ميّال إلى التوسط. في ندوات الجمعية حضرت وشاركت في ندوات كثيرة، أذكر منها ندوة عن كتاب محمد النويهي «قضية الشعر الجديد» وندوة عن كتاب «أسيبيوزا» لفؤاد زكريا، وسمعت فيها القسم الأول من «مأساة الحلاج» التي كان يخرجها للإذاعة بهاء طاهر. كما عرفت فيها أمل دنقل وعلقت على قصائد له، كنت أراقب كيف يتحدث النقاد الكبار وعلام يركزون في النصوص، وكيف يدخلون إليها. لكنني انقطعت فترة، حين اشتغلت بالماجستير ثم الدكتوراه.

أما في الجامعة فقد كانت السنة الرابعة فارقة في تكويني. انتقلنا من دراسة التراث إلى دراسة الأدب الحديث. ودرّس لي عبدالمحسن بدر وسهير القلماوي وشكري عياد. وكان عبدالمنعم تليمة مدرسًا شابًا تبنّى نظرية الانعكاس. وفي هذه السنة قرأت كتاب «الرؤية المسلحة» لستانلي هايمن الذي ترجمه إحسان عباس ومحمد يوسف نجم بعنوان: «النقد الأدبي ومدارسه الحديثة»، وكتاب ديفيد ديتشس «مناهج النقد الأدبي»، لنفس المترجمين. وبدأت أطلع على النقد الحديث.

سجلت للماجستير موضوعًا عن الإيقاع في الشعر الحديث، ثم تبين صعوبة تحقيق نتائج علمية موثوق بها، بسبب ضرورة دراسة الموسيقى، وعلم الأصوات، وضرورة وجود معامل صوتية مجهزة بأجهزة حديثة، فاخترت مع الدكتورة سهير القلماوي موضوع الصورة الفنية في شعر الإحياء، واكتشفت أنني في حاجة إلى تأصيل الموضوع فجعلته رسالتي للدكتوراه. لم تكن هناك بالعربية دراسات تشبع نهمي، سوى كتاب «الصورة الأدبية» لمصطفى ناصف. وبالرغم من أهميته شعرت بأنه لا يحقق لي حرية اختيار منهج دون غيره، فبدأت أتعلم الإنجليزية. كان عبدالمحسن بدر يقضي معي الساعات يشرح لي التراكيب الصعبة. بعد ذلك بقليل حصلت على منحة من الجامعة الأمريكية لتعلم الإنجليزية، التي أصبحت أقرأ بها ما أحتاج إليه من مراجع.

* حتى هذه اللحظة لم تكن قد تبلورت أي ملامح لمفهوم النقد والناقد؟

- كانت هذه الملامح قد بدأت. مثلاً أصبحت معاديًا للتعميمات. أصبحت مهتمًا بالتوفيق بين جماليات النص ومرجعه الاجتماعي. أركز على العلاقات الداخلية للنص وعلى دلالته الناتجة عن هذه العلاقات. وبدأت أركز على النقد التطبيقي. كتبت مقالاً عن الإيقاع في شعر صلاح عبدالصبور، ونشر في مجلة «المجلة» التي كان يحررها يحيى حقي. وقد حقق المقال نجاحًا، وبدأت أدعى للمشاركة في ندوات «البرنامج الثاني».

من الشعر إلى النقد

* بدأت بكتابة الشعر، ثم تحولت للتخصص الأكاديمي فيه؟

- كان الشعر صاعدًا مع صعود المشروع القومي. يمكن أن تقول إن الشاعر كان صورة أخرى من صور الزعيم. أحمد عبدالمعطي حجازي يهتف «أنا آخر فرسان الكلمة» بل إن مفرداته هي مفردات خطاب الزعيم. حتى عبدالصبور تقمص شخصية الحكيم في عنوان الديوان «أقول لكم». الأمر نفسه ستجده في شعر أدونيس الذي يبشر بالمخلص كما في قناع «مهيار الدمشقي». الشعر خطاب ينطوي على نوع من الحدية، بعيدًا عن المنطقة الرمادية، لذا كان صوت لحظة حدية هو لحظة المشروع القومي. وظلت هذه اللحظة سائدة حتى بعد هزيمة 1967، فظهر محمود درويش، وأمل دنقل. بعد ذلك فقد الشعر هذه اللحظة الحدية، وتخلى الشعراء المتأخرون عن مفهوم الشاعر الحكيم. أصبح الشاعر رجلاً صغيرًا، يسميه حسن طلب «الخازباز». ولم يعد للشعر تأثيره السابق.

* إذن تكوَّن مفهوم ما للنقد، أهم عناصره: الميل إلى الدراسة النصية، والخوف من التعميم، والحركة بين مفهوم أقرب إلى النقد الجديد مع العناية بالبعد الاجتماعي. أليس كذلك؟

- يمكن أن تقول إنها محاولة للتوفيق بين نقيضين لمحاولة الوصول إلى تركيب ثالث. كنت أقرأ في الاتجاهين، وفي الممارسة يحدث التوفيق على نحو عملي: لوكاش وإليوت معًا. وكنت أشعر أن هذا معه نصف الحق، وذلك معه النصف الآخر. وظلت المحاولة، محاولة التوفيق تلك مستمرة طويلا. أذكر أنني حين زرت أمريكا لأول مرة، كنت مازلت مشغولاً بالأمر. أدرس البنيويين الشكليين ولوسيان جولدمان في وقت واحد، وأحاول دمجهما معًا. وقد ضيّق هذا الانشغال من نظرتي للأمور حتى حُلت المشكلة.

بعد هزيمة 1967، ارتخت قبضة السلطة قليلاً، فسمحت بقدر من الحرية، مكَّن أدباء الستينيات من إنتاج كتابة نقدية شملت المجتمع والسلطة. وفي هذه الفترة ترجمت الكتب الماركسية الأكثر انفتاحًا مثل «ضرورة الفن» لإرنست فيشر و«ماركسية القرن العشرين». و«واقعية بلا ضفاف» لروجيه جارودي. وقد ساعد هذا كله على أن يغير النقاد الماركسيون رؤاهم ويطوروها. ثمة فارق كبير بين كتاب «في الثقافة المصرية» لمحمود أمين العالم، وكتابه عن نجيب محفوظ. في الأول دوجماطيقي وفي الثاني منفتح يحاول الاقتراب من البعد الجمالي. ظلت محاولة التوفيق بين الجمالي والاجتماعي قائمة حتى سافرت إلى جامعة وسكنسون عام 1977 وقرأت إدوارد سعيد. قرأت كتاب «الناقد والنص والعالم» ولم يكن «الاستشراق» صدر بعد. احتوى الكتاب في إحدى دراساته على موازنة بين فوكو ودريدا، مما أغراني بقراءة فوكو، وجعلني غير متحمس لدريدا، لذا أستطيع القول إن دريدا لم يمارس تأثيرًا كبيرًا عليّ، باستثناء عنصر واحد هو إطلاق سراح الدوال،لكنه ظل ضعيف التأثير عليّ فلسفيًا، فوكو حل المشكلة بالتركيز على خطاب القوة وآليات السلطة. وكان هذا يعني الكشف عن أبعاد أوسع للظاهرة في جوانبها المختلفة، إلى أن وصلت إلى ما يسمى بالنقد الثقافي الذي أرى أنه تجاوز هذه الثنائية، وأنه لا تناقض حين تهتم بالبعدين الجمالي والاجتماعي في آن، شريطة أن ترى ما تدرسه في سياق أكبر هو السياق الثقافي.
التراث والواقع المعاصر

* إذن، أنت مقتنع بالحل الذي صاغه ومارسه فوكو ثم إدوارد سعيد تقريبًا: إلغاء ثنائية الواقع/ النص والتعامل مع الواقع باعتباره نصًا. وسعيد يقول إن النص دنيوي، هل ترى أن نصوص التراث دنيوية، صنعت في العالم، وهل يمكن أن تفسرها في سياقها الدنيوي؟

- الآن طبعًا. لكن حين كنت أدرسها في الدكتوراه مثلاً لم يكن ذلك ممكنًا. لم أكن أملك الأدوات التي تفيد في هذا التحليل، لكنني كنت أعي أن هذه النصوص موجودة في عالم وهي استجابة له ورد فعل عليه، وغالبًا كنت ألغي القديم لمصلحة الجديد. بعد ذلك تغيّرت نظرتي، ورأيت أن قراءة التراث تفاعل بين دائرتي الزمن التراثي، والزمن المعاصر، وأن المنطقة التي تختلط فيها الدائرتان هي منطقة القراءة، ولذلك اقترحت مصطلح «الانقراء».

* هل يؤثر التراث في الواقع المعاصر، وكيف؟

- طبعًا. يؤثر بقوة، لأن الأفكار التراثية مؤثرة، ويزداد تأثيرها الآن بفعل الأدوات الأيديولوجية المعاصرة، سـواء كانت أدوات الدولة الأيديولوجية أو غيرها، مثل «الإخوان المسلمين» حيث يعاد بث هذه الأفكار لتصوغ الحاضر وتبرره.

من ناحية أخرى، يمكنك القول إن التراث ساحة لصراع التأويلات، وهنا ليس ثمة خطأ أو صواب، هناك إمكان للتأويل، لأن الانقراء هو أفق التوقعات. ولذلك لا يمكن أن نحصر احتمالات الفهم أو نقيدها. ما المعيار هنا؟ المعيار ليس الصحة والخطأ، بل الإمكان، وقد طوّعت فكرة لوسيان جولدمان القائلة بالإمكان الذي يجب ألا يقل عن 70% من الأدلة والقرائن النصية، ومن ثم يمكنه الصمود للاختبارات.

* مع وجود النص كجسم ينطوي على احتمالات دلالية، ألا يمكن تفجير تناقضاته وصدوعه بالمعنى الذي طوره دريدا؟

- طبعًا. لا أرفض دريدا بشكل كامل، وهذا يجعلني أؤكد مبدأ محددًا هو أنك عندما تعادي نظرية لا تكون رافضًا لها. بل ينطوي الرفض على قبول لعناصر منها. حين نواجه نصًا تراثيًا فنحن مع تفاعل بين زمنين تاريخيين. النص في تاريخيته الأولى مملوء بالثغرات، يقول ويصمت، بدءًا من لاوعي النص وانتهاء بصراعاته الذاتية بوصفه لغة تقوم على الاختلافات، كما يعلمنا دي سوسيير. ليس في النص نفسه اتساق. كما أنني أقرأ النص من موقع في الحاضر، ولذلك أحاول أن أنفي عن هذا التراث ما هو أيديولوجي أو وعي زائف تم نشره وبثه، حتى إن الناس يظنون أنه بديهي وواضح، لأن القراءة تؤثر في الواقع، وتصوغه. وأنا حين أقرأ من موقع مختلف مستندًا إلى عملية تراتب أتبنى العقلانية، ومن ثم أسهم كمثقف في الصراع الدائر بشأن التراث، وأنتصر للتعددية كمبدأ قرائي واجتماعي.

لأن الاقتصار على قراءة واحدة للتراث ينطوي على نفي للقراءات الأخرى التي تبدو تعبيرًا عن اختلافات في الماضي والحاضر. ومن هنا أدافع عن التعددية حرصًا على قيمة كامنة في كل قراءة مختلفة، أي أسقط تعددية الحاضر على الماضي، بحيث تقوي تعددية الحاضر، فيمكن بالتالي تغييره.

* بمناسبة تغيير الحاضر. هناك عبارة تتكرر في خطابك النقدي، وهي «الانتقال من الضرورة إلى الحرية», وهي كما نعلم عبارة واضحة المغزى، هل ترى أن التاريخ متجانس، مستقيم، وفي النهاية ينطوي على وعد ما؟

- طبعًا. قد لا يكون التاريخ خطًا صاعدًا متجانسًا لكن في آخر هذا الخط، تقوم تراكمات الماضي وخبراته، بدفعه إلى عدم تكرار نفسه، ومن ثم فالتاريخ لا يعود إلى الوراء، بل يحمل وعدًا ما.

* هذا الوعد، ما هو؟ أهو الاشتراكي، المجتمع المدني؟ أم ماذا؟

- بالنسبة لي، هذا الوعد يتمثل في نوع من الاشتراكية الديموقراطية، حيث ثمة قدر كبير من الحرية والديموقراطية، قدر كبير من الإنصاف، أي دولة رعاية، فيها نظام ضرائب صارم ومتصاعد يمكّنها من تقديم خدمات ورعاية اجتماعية للفقراء. لكن هذه الرعاية ليس ثمنها سلب الناس حرياتهم، بحيث تكون الديموقراطية والمواطنة، وانفصال السلطات، في أهمية العدالة الاجتماعية.

المحرر مجلة العربي يناير 2008

تقييم المقال: 1 ... 10

info@3rbi.info 2016