قد يستبِدُّ المالُ بصاحبِهِ فيحوّلُهُ إلى مستَبِدّ، وبدلاً من إنفاقه فيما ينفعُ الناس، يجعلُ منه سياطًا تكوي ظهورَهم ولو عن بُعدٍ عندما يصبحُ الإنفاقُ نوعًا من السفهِ جريًا وراءَ سرابِ السّمعةِ أو الألقابِ أو الوجاهةِ الاجتماعية، أو عندما يكونُ تطبيقًا حرفيًّا لأحدِ لوامعِ نزار قبّاني في رثائه عميد الأدبِ العربي طه حُسين (في قصيدته: حوارٌ ثوريٌّ مع طه حُسَين):
حبسوا الماءَ عن شفاهِ اليتامى
وأراقوهُ في شفاهِ الغواني
وما أكثرَ الأموالَ التي أريقت هباءً، وكانت تكفي لإطعام آلاف اليتامى، وعلاج آلاف المرضى، وإنشاءِ عشراتِ المشروعاتِ وقفًا على الخيرِ، وبناءِ المستشفيات ودور رعاية الأيتام، لكنّه المالُ عندما يستبِدُّ بصاحبهِ.
لم يعدمِ العربُ وجودَ الكثير من النماذج المضيئةِ التي سخّرت المالَ لخدمةِ المجتمع، وجعلته رافدَ خيرٍ في السّرِّ أو في العلن، وفي مجالِ الأدبِ والثقافةِ والعلومِ يأتي الدورُ الذي لعبته الدكتورة سعاد الصباح عندما سخّرت المالَ لخدمة فنّها الأوّل، الشعر، مضافًا إليه فنون اللغةِ العربيّةِ الأخرى، كعلامةٍ مضيئةٍ عمرُها الآنَ يقتربُ من ربعِ القرن، وإذا نظرنا إلى مُجمَلِ ما قدّمتْهُ مع زوجها الراحل الشيخ عبد الله المبارك الصباح نجدهُ يجاوزُ ما قدّمتْهُ دولٌ تدّعي تأثيرها في صفوة الجماهير على الخريطةِ العربيّة.
كانَ أوّلُ ما لفتَ انتباهنا في مصر، وأعني أدباء جيلي، هو «جوائزُ الدكتورة سعاد الصباح» التي تُمنحُ للأدباءِ العربِ الذينَ لم يتجاوزوا الخامسة والثلاثين من العمر، وقتها، في العام 1988م تحديدًا، لم نكن ملّمين تمامًا بكلّ المؤسسات الفردية التي تمارسُ دورًا إيجابيّا في خدمة الآداب والفنون، إذ لم نكن نعرفُ سوى ما تؤدّيه «الدولة» من خلالِ مؤسساتها، وكان النموذج الأمثل أمامنا هو الدورُ العظيم المستمر إلى الآن والذي تقومُ به هيئتا «الكتاب» و«قصور الثقافة» بمصر، أما الأقطار العربيّةُ الشقيقة فلم نكن متواصلين معها ومعظمها إلى الآن إلا من خلال الصحف والمجلات التي تأتينا أوائل الشهور الهجرية أو الميلادية أو على رؤوس الفصول الأربعة.
بعد التفاتنا إلى مهرجان الجوائز السنوية، جاءت النقلة الأخرى، الأكبر والأعمق أثرًا وتأثيرًا، عندما انتقلت دار سعاد الصباح إلى القاهرة، لتواصلَ دورها في ترويج الإبداع العربي والعالمي، وأصبح للدار حضورٌ طاغٍ في الشارع الأدبي، وحضورٌ أطغى في معرضِ القاهرةِ الدولي للكتابِ، ومن خلالها وضعنا أيدينا على مئاتِ الكتبِ لكبارِ مبدعينا وشبابهم على امتدادِ الوطن الكبير، ثمّ أضيفَ إليهم عددٌ آخر من شواهقِ الأعمالِ لبعض الأدباء العالميين من خلال الترجمة.
الجوائز
بدأت «جوائز الشيخ عبد الله المبارك والدكتورة سعاد الصباح للإبداع بين الشباب العربي» بتنفيذ منتدى الفكر العربي (عمّان)، والهيئة المصريّة العامة للكتاب (القاهرة)، ترتكزُ على دعامتين أساسيتين هما: الإبداع الفكري، والإبداع العلمي، وهما المجالان المفتوحان أمام كل الشباب العربي ممن لا يتجاوزون الخامسة والثلاثين من العمر، أما جائزة الإبداع الخاص فكانت مقصورة على «الإبداع الفلسطيني» إذ جاءت مسيرة الجوائز متوازية مع الانتفاضة الأولى للشعب الفلسطيني العظيم من خلال أطفاله وفتيانه فيما عرفناه بـ «انتفاضة أطفال الحجارة»، وجوائز الإبداع تضعُ في المقام الأوّل «تشجيع الإبداع الفكري بين الشباب العربي للإسهام في بعث اهتمام الأجيالِ الجديدة في إثراءِ مسيرة العربِ القوميّة»، وليس خافيًا على أحدٍ أن القضية الفلسطينية هي حجر الزاوية أو رمّانة ميزان القوميّة العربيّة. أما الأعمالُ التي تدورُ حولها الجوائز في الإبداع الفكري فهي دواوين الشعر والمجموعات القصصية والروايات والمسرحيّات والدراسات (خمسة مجالات)، وفي كلّ مجالٍ ثلاث جوائز، والجديد في الأمر هو أنّ الأديبَ يقدّم عمله غير متقيّد بموضوع (عدا الدراسات التي هي أيضا - في داخلها غير محددة بعنوانٍ واحد)، وهذا ما يعطي الفرصة كاملة من أجلِ إنتاج إبداع حرّ، حتى إن الجوائز لا تقتصر على الأعمال غير المنشورة، بل لا تمانع في كونها منشورة بشرط أن يكونَ ذلك في أحد العامين السابقين (على تاريخ التقدّم للجائزة)، ومنذ البداية جاءت قيمة الجائزة (الأولى) تفوقُ قيمة الجائزة التقديرية في مصر يومها، إذ تبلغ قيمة الجائزة الأولى ثلاثة آلاف دولار (والثانية ألفي دولار، والثالثة ألف دولار)، وجاءَ الحافزُ المعنوي الآخر، الذي يحملُ بمضمونه حافزا ماديّا أيضا، وهو طبعُ الأعمال الفائزة ونشرها على نطاق واسع من خلال دار سعاد الصباح والهيئة المصرية العامة للكتاب، أمّا «التحكيم» فيتصدّى له كبار مبدعي الوطن العربي ونقّاده، والجوائز «لا تعرفُ الرحمة»، وتكادُ تكونُ في مقدّمة الجوائز التي تذهبُ بالفعل إلى مَنْ يستحقّونها بلا أدنى مجاملة لمبدعٍ على حسابِ آخر، فالجميعُ في العروبة سواء، والفائز ليس سوى جزءٍ من كُلٍّ، وإذا كان ذلك كذلك فلندع المجاملات والانحيازات جانبًا، لتكون الكلمة الأولى والأخيرة للإبداع وليس لصاحبه.
أمّا جوائز الشيخ عبد الله المبارك للإبداع العلمي فتختلفُ إلى حدٍّ بعيدٍ عن «جوائز سعاد الصباح للإبداع الفكري»، فكثيرًا ما تأتي في خطوط وعناوين محددة في خمسة فروع أو مجالات في حقل البحثِ العلمي، فوقَ ذلك فهي تفرضُ عددًا من الشروط القاسية التي أطمعُ في أن تكونَ أساسًا لكلّ خطوة في مجالِ البحث، الشرطُ الأوّلُ: أن يكونَ الباحث من الحاصلين على دراساتٍ عليا فوق المستوى الجامعي الأوّل (أي أعلى من البكالوريوس) وهذا الشرط لا نجده في مجال الإبداع الفكري. الشرط الثاني هو أن تكونَ البحوث تطبيقية ونابعة من البيئة العربية ومشكلاتها، وهذا ليس شرطًا قاسيًا، لكنه المنطق والمطلوب، أمّا الشرط الأهم من وجهة نظرنا فهو أن تراعي الأعمالُ المقدّمةُ أصولَ النشر العلمية، وألا تكون رسائل للماجستير أو الدكتوراه ولكن في مستوى الماجستير والدكتوراه. هذا الشرط يضعنا أمام جوهر الجائزة، وهو أنها لا تُمنح لأي عابر سبيل يدبّجُ رؤيته في سيل من الكلمات السطحية المهترئة في جلسة على مقهى ثم يذهب لينال الجوائز والأوسمة، وما أيقظ شجوني في هذا الشرط اللافح هو ذكرياتي مع عشرات الرسائل التي طالعتها أو حضرتُ مناقشتها (ماجستير أو دكتوراه)، ومئات الأبحاث المقدّمة في المؤتمرات الأدبية والعلمية، ولا يخفى على القارئِ الفطن المتخصص أو العام ما يمرحُ في براح هذه الرسائل والأبحاث من السطحية وسوء المنهج والتغاضي عمّا تفرضه أصولُ البحث العلمي، كما أن الشطر الثاني من الشرط يضعنا أمام جدّية الموضوع وعدم الاستهانة به «... وألا تكون رسائل للماجستير أو الدكتوراه ولكن في مستوى الماجستير أو الدكتوراه»، ولهذا، قلنا إن الجوائز تذهب إلى مَنْ يستحقّونها بالفعل، وأنها لا تحسب حسابًا إلا للعمل، ومن هنا جاءت الأعمال الفائزة على مدار السباق تمثل إضافات مهمة، وتمنح الأمل في الأجيال المقبلة، وتبرزُ علاماتٍ أو إشاراتٍ قريبةً إلى حدّ كبير من الواقع الفعلي وما هو مأمول من الشباب العربيّ إذا وضعنا في الاعتبار عشرات الأعمال التي خرجت من السباق والتي كانت أيضا قريبة من مرمى الهدف، وأن الكثير منها يستحقّ الالتفاتَ والتقدير.
وعلى صعيدِ «جوائز الإبداع الفلسطيني» كمجال مغلقٍ على الخريطة الفلسطينية، فقد جاءت كتكريم لنضال الشعب الفلسطيني وتسليط الضوء على حقّه في استمرار هذا النضال ضد مغتصبي أرضه وحقوقه، وكما أشرنا إلى أن مسيرة الجوائز قد بدأت بالتوازي مع الانتفاضة الأولى، وكانت دورة العام 1990 معبّرة أصدق تعبير عن توجّهِ الجائزة، إذ تضمنت جوائز للطفولة لمن هم دون الخامسة عشرة (أي أطفال الحجارة) في الفنون التشكيلية (رسم أو نحت أو صلصال، أو أي مادة تشكيلية أخرى للتعبير عن روح الصمود والمقاومة)، والأناشيد (أحسن ثلاثة أناشيد تعبّر عن هُويّة الفلسطينيين وشجاعتهم وآمالهم)، والقصة القصيرة (أحسن ثلاث قصص أو حودايت تصوّر نضال أطفال الحجارة وبسالتهم في مواجهة العدو الصهيوني)، وكانت الجوائز بمعدل ثلاث جوائز في كلّ مجال (1000 - 500 - 250 دولارًا). وكان المغزى أعمق كثيرًا من كونها جوائز مادية، كان المضمونُ يحملُ رسالة إلى هؤلاءِ الأطفالِ وإلى عدوّهم في آنٍ معًا.
وقد توقّفتُ مع هذا الفاصل من جوائز الأطفال من أجل إعادة تدوير الرسالة التي تحملها، وترويجها مرّةً أخرى.. لعلها تصل إلى الكثيرين الذين يستهينون بقيم النضال والبطولة، أو يستهترون بانتفاضات الصغار عندما تتحوّل إلى أشواكٍ في مضاجع المعتدين.
كانت هناك أيضا جوائز للشبيبة لكنها ارتفعت إلى ألفي دولار للأولى وتناقصت إلى ألف وخمسمائة ثم ألف دولار، وكانت هناك جائزتان للمؤسسات الأهلية الفلسطينية المتميزة في المجالات الفكرية والعلمية في الأراضي المحتلة، الجائزة الأولى عشرة آلاف دولار، والثانية خمسة آلاف دولار.
أما العيد السنوي للفائزين فيأتي متزامنا مع معرض القاهرة الدولي للكتاب، وغالبا ما يكون في أخريات يناير، ويُستضاف كلّ الفائزين ومعظم المحكّمين بالقاهرة، ويتم توزيع الجوائز في حفل كبير بمعرض الكتاب (بأرض المعارض بمدينة نصر) أو بدار الأوبرا المصريّة.
دار سعاد الصباح للنشر
«نافذة للعرب على العالم، ونافذة للعالم على الأمة العربية».. هذا هو الوصف الأمثل لمشروع «دار سعاد الصباح للنشر»، التي قامت على نشر روائع التراث العربي والثقافة العربية المعاصرة، كذلك التجارب الإبداعية للشباب العربي من المحيط إلى الخليج، ثم الالتفات إلى اللغات الأخرى لترجمة روائع الثقافات الأخرى ونشرها، وبهذا مثّلت الدارُ إضافة مهمة لدور النشر الكبرى بالوطن العربي التي تقوم على نشر الإبداع الفكري والأدبي والعلمي في طبعات فاخرة ومميزة، وبأسعار قد لا تغطي ثمن الخامات التي دخلت في صنع المنتج (الكتاب)، وجاء التنوّع بكلّ وجوهه وأشكاله سمةً بارزة في منهج الدار، بمعنى أنها لا تتوقّف عند قطر معين، أو فنّ معين، أو جيل محدد، ولكن أصبحت بوتقة تجتمعُ فيها كلّ الفنون والأسماء والأجيال والأقطار العربيّة، مع عدم تجاهل خط الترجمة عن اللغات العالمية لفتح نافذة أمام القارئ العربي ليطلّ على الآخر ويراه في أرقى صوره الفكرية والإبداعية، فأعيدت طباعة سلاسل متعددة من «الأعمال الكاملة» لكبار شعراء العرب ونقادهم وروائييهم غير المتعاقدين مع دور أخرى، بالإضافة إلى الإبداعات الجديدة للكبار وللشباب، كذلك الدراسات بكلّ فروعها وميادينها، وصولاً إلى أدب السير الذاتية، كما لا ننسى إصدارها لأعداد مجلة «الرسالة» التي كانت إحدى منارات الثقافة في القرن العشرين، وكان للدكتورة سعاد الصباح الفضل في إعادتها إلى الوجود في أربعين مجلّدًا من خلال «دار صادر» ببيروت.
تكريم رواد الثقافة الأحياء
من عاداتنا المزمنة، نحن العربَ، ألا نعرف أقدار مبدعينا إلا بعد رحيلهم، فنتبارى في كتابة قصائد الرثاء ومقالات المديح، ولا مانع من اجترار الذكريات وخلطها بالكثير من الدموع من باب إكرام الراحل العظيم.
مبادرةٌ أخرى من مبادرات الدكتورة سعاد الصباح جاءت لكسر هذه العادة، إذ قررت تكريم رموز الثقافة العربية الأحياء للاعتراف بفضلهم وهم بيننا، وليشعروا بتقديرنا لما قدّموه للغتنا وتراثنا وحضارتنا، وكان من هؤلاء، على سبيل المثال، عبد العزيز حسين من الكويت، إبراهيم العُريّض من البحرين، نزار قباني من سوريّة، ثروت عكاشة من مصر، الأمير عبد الله الفيصل من السعودية، عبد الكريم غلاب من المغرب، وكلنا ندرك عمق الأثر النفسي على هؤلاء الكبار عندما يرون زرع أيديهم وقد أثمر في حدائق الأجيال.
وهكذا، وعلى هذه الأجنحة وبها.. تتواصل المسيرة، وفي كلّ يوم تضفي أبعادًا جديدة لوظيفة المال عندما يصبح وسيلة لترويج قيمة التنافس الشريف بين أبناء الأمة وتحفيزهم على الابتكار والإبداع ورفد نهر الحضارة بكل ما يصلنا بتراثنا ويدفعنا بقوة إلى المستقبل، ولتظلَّ علامة بارزة إلى جوار المبادرات العربيّة الأخرى الكثيرة، في الأدب والثقافة أو في الحقول الأخرى، التي تعطي المثل والقدوة من أجل بذلِ العمرِ والمال فيما ينفع الناس ويقوّي الإحساس بقيمة الوقت والإبداع والوطن.