مختارات من:

قراءة نقدية للحلم رائحة المطر

محمد علي شمس الدين

رغم أن وجود هذا هو ديونها الأول فإن الشاعرة السعودية تثبت قدرتها على إدارة القصيدة من البداية وحتى حروف النهاية.

تكتب أشجان محمد هنيدي "الشاعرة السعودية، ولادة جدة 1968" الشجن الشعري من أوّله في باكورتها الشعرية "للحلم رائحة المطر"، على البحر الكامل.

وهي في القصائد المميزة من هذه المجموعة التي تشكل جوهر القول الشعري للشاعرة، وعددها خمس من بين ثماني عشر متفاوتة المستوي، تظهر قدرة على التعامل مع التفاصيل والتصاريح الداخلية، ووصل الأجزاء، بما يشي بأن هذه الباكورة كانت مسبوقة بلا ريب، بتجربة شعرية بعيدة، حية، متدرجة إلى حد الوصول لهذا النضج البين في القصيدة التي تحمل المجموعة عنوانها "للحلم رائحة المطر" وهي الأولي، كما في "أناشيد لخيمة عبلة" "والصواع" و"دانة" و"عين اليقين"، و"جادك الجذب".

فمن خلال نفس غنائي طويل المدى، تستحوذ البنية الإيقاعية فيه على دفة القصيدة، وتقودها من ذكري لحنين لميناء لتشرد لرغبة لقهر لحب ليأس لأمل .. يظهر وكأن هذه البنية الإيقاعية بالذات "بما هي شكل وإيحاء / موسيقي وهندسة وشجن" هي التي تصنع النص الشعري، تؤسس له جسره الإيقاعي أو عموده الفقري، ومن ثم محموله من لحم ودم وعصب الكلمات والأحوال والرؤى. ومعني ذلك أن الشعر بالنسبة لأشجان موسيقى وهندسة أحوال شتي، فهي تستلقي دائما على سرير الإيقاع- تبدأ به وتتدرج بعده وتختم به، وترى المعاني والصور من خلاله ، تتداني وتتباعد وتتصادم وتتآخى وتتوارد فيها الكلمات تتصاحب أو تتساحب هكذا في رقرقة القصيدة، ولعل ما يبقي في النتيجة، هو ذكرى سرير الإيقاع، لمناداة عبرت أو غناء مر .. كمناداة صحراوية "الأ أيها الماء/ يا أيها الماء .. يا ماء / يا وهم .. كيف إليك الوصول؟ وكيف الوصول..؟" والمناداة هنا بمثابة صرخة صحراوية، مفتوحة في المدى الصحراوى، أو لها الصوت وآخرها الصدى الذي يكملها ولا يطويها، إذ حين تنتهي القصيدة وهي بعنوان "عين اليقين" يبدأ صداها بالامتداد في الخارج/ الداخل، كصدى لا ينقطع.

خصائص الأربيسك

هذه البنية الإيقاعية لقصيدة أشجان الهندي، هي عينها بنية ما شكلّ خصوصية الفن العربي الإسلامي وسر جماليته بامتياز. إن ثمة تتاليا وتوالياًء لا ينتهي "ويكاد أو يوشك لا يبدأ" لكثرة الصور والأصوات والمعاني المتشابهة فيما يشبه الأرابيسك في الزجرفة والرتوش العربية، فتتوالى صورة النبتة المجردة، مثلاً، أو الوردة أو ورقة العنب، على الجدار أو الإفريز أو العمارة، بصورة لا متناهية ذلك في الرقش العربي، وهي خاصية اللامتناهي في الجمالية العربية الإسلامية، وأساسها الصحراء ومداها، ولحمتها وسُداها التأمل والوجدان الروحى من خلال ذلك. وقد انعكست هذه الخاصية في الشعر كما في العمارة والرقش والرقص والموسيقي والغناء.

فكما في الشعر والعمارة، كذلك في موسيقى الوجد والدوران، وفي الغناء الذي يعيد ويستعيد كلمات وأدواراً هي مفاتيح للوجد، كتكرار "الله حي" مثلاً في الرقص المولوي وما أشبه ذلك، بحيث يصبح الامتداد أو الدوران أو اللانهائية، المحور الإيقاعي للحال العربي .. وهو حال الجمالية الإسلامية العربية، وفي هذه الحال تقع أشجان الهندي كمثل فراشة تقع في نار وجد القصيدة وشجنها.

لاشك في أن ثمة شيئا ما يقترب من بالفن من العبادة. ومثلما تندرج في دوران الراقص عناصر الحركة والصوت والكلمة، فيما يشبه عاصفة صغيرة "هي جسد الراقص" تدور على نفسها وتوشك أن تطير، كذلك تندرج في جسد القصيدة الأولى لأشجان الهندي عناصر الوزن والكلمات والصور والتضمينات، بما في ذلك استشارة الذاكرة، فتأتي "للحلم رائحة المطر" على صورة هذه العاصفة الصغيرة "الغزولة" التي أشرنا إليها في جسد الراقص المولوي. والقصيدة تبدأ بما يشبه استمرار ايقاع قديم كان قد بدأ "قبل القصيدة" في ذاكرة عريقة مفتوحة على معني الطرب: "قطعت غابات الحصار، وما انتهي حلمي القديمُ ولا صحت عيناي إلا كي تضم الغيم تفرشه على شرفتها / وتروح تمطره على جذب النيام.

"يا جارة الوادي طربت وعادني في الليل سيل من حمام/ متظاهراً بالصمت عاد/ فهل أطارحه الكلام؟".

أحلام قديمة

فهذا المطلع هنا هو "كسيل من حمام" يتدفق من مكان غامض في الذاكرة، من كوة الطّرب وهي كوة محفورة في الداخل، أكثر مما هي كوة فاغرة في الخارج، والمقطع يظهر على صورة استطراد لكلام سابق عليه مضمر، أو لحال متطاول يثيره أو يحركه "يا جارة الوادي طربت"، فالمعني "وهو تذكر وطرب" مندرج في الجملة بل متدافع فيها، إلا أنه يطوي هذا التضمين طياً لطيفاً، كما يطوي جميع الحركات الأخرى من "تقطيع غابات الحصار"، وصحوة العينين على الغيم على الشرفات على المطر على "جدب النيام" .. وكل ذلك يظهر بصورة استمرار لحلم قديم .. "وما انتهي حلمي القديم"، حلم يبين ويخفي مراوحاً بين الصمت "متظاهراً بالصمت" ورغبة الكلام.

هذا الاستطراد النغمي والشجني إذن، الذي هو افتتاح القصيدة، يحدد امتدادها وتفرعاتها، ويطوي في داخله طياً جميع عناصرها من جيرة الأحلام، والمطر المستبيح الغلالة، والريح.. الريح التي تنفث روحها على المرأة / الشاعرة، التي تقف في وسط هذا الانثيال الوجداني / الغنائي لتقول تضميناً " وأنا التي لم أدر ما .. حتى تحاشد بين غيم العين فيض من نشيد .."

فينصهر الوجد الذي تثيره قصيدة أحمد شوقي المعروفة "يا جارة الوادى طربت وعادني/ ما يشبه الأحلام من ذاكراك .. لم أدر ما طيب العناق على الهوى/ حتى ترفق ساعدي فطواك" .. ينصهر الوجد الشوقي "نسبة لشوقي" مع الوجد الوهابي "نسبة لمحمد عبدالوهاب مغني القصيدة"، في قبس الشرارة/ التلميح منهما معاً، ومن هذه الشرارة أورت أشجان الهندي قصيدتها.

ويظهر أنه ما أن قبست الشاغرة الجذوة المذكورة، حتى أشعلت بها ناراً جميلة .. أضاءت من حولها كل شيء .. "يا لون هذا الغيم كم بالباب من نور يضيء فلا يضيء/ وإلى مشارف ثوبك الليلي كم من ياسمينات قد تفيء؟ جد صب واهطل موسما قصصا أساطيرا تناقلها عصافير المسافات البعيدة يمتطيها هودج الأظعان يتلوها الرواة على مضاجع نارهم / . كيما يصير البن أحلى ويصير وجه القفر أحلى.. "

ذلك ما أشرنا إليه بالقول إن أشجان الهندي تجيد إدارة الشجن، من خلال إدارة الموسيقى والكتلة الشعرية والوصل والفصل، والقافية "وتلافيها أحياناً" واستخدم القوافي الداخلية، والرصف والإلحاح "جد صب واهطل موسماً قصصاً أساطيراً .."، كما تحسن إدارة النهاية، ففي قصيدة مفتوحة كالقصيدة التي نحن بصددها، سيكون ختم القصيدة صعباً، كمن يفتح مجرى من الريح أو مجري من الأحلام، ويتركه يتدفق بتلقائية تغري باللانهاية بعدم الانتهاء على غرار غناء لأم كلثوم على سبيل المثال وترجيع متطاول. إلا أن الشاعرة أجادت في إدارة النهاية أيضاً، مثلما فعلت في البداية، فتركتها مفتوحة على أصدائها في صدر المفني أو القارئ .. "الخوف غول حائم بالباب إن قطعت من أطرافه طرفا نما/ ليظل هدب العين يستجدي المضاجع حين أصرخ .. " يا جارة الوادي" دريت، فليتني، لم أدر ما .. ".

هذه القصيدة النموذجية لأشجان الهندي التي تفتح بها مجموعتها الشعرية، تشكل النص الشعري الأمثل لديها، وهي تستعيد عناصرها التي ذكرنا في سائر قصائد المجموعة، بنسب متفاوتة من الإحكام والدربة .. فهي في القصيدة التالية بعنوان "جادك الجدب"، وهو تضمن محور "لجادك الغيث"، تواصل الإغواء بالكلمات كما تمارس ما يشبه الغناء في الغناء، فتترك الجمل والكلمات تتناسل من بعضها تناسلاً شبيهاً بما يسمي في العزف بالارتجال مع الانتباه لأسرار صلات الحروف بعضها بالعض الآخر، والكلمات بالكلمات من مدّ وقطع أو انسياب إرزاء، والانتباء للطباق والجناس اللفظيين والمعنويين معاً، ولما للتكرار أو الإلحاح في وقته، من أثر في الحفر في الذات البشرية للفظ المكرر أو المعني المردد. وهكذا تقول: "نادمت قبلك يا زمان الوصل أحجاراً فجادت بالقرنفل والهوى/ وطويت أثمارا من العسل البهي وما غوي/ غيمي سوي ينبوعك المتبل بالشهوات". فثمة عطف لغوي وشعري بين "نادمت" و"طويت"، كما ثمة ما يشبه من عطف بين "الهوى" و"غوى"، وبين "البريّ" في قولها: "حلم تعلق يا زمان الوصل بالفجر النديّ وتارة علقته بالزنبق البريّ" .. وبين "كاشف" و"كشفت" في قولها: "كاشفته وكشفت عن ساق الكلام"، وبين "هممتُ وهمُّ" في قولها: وهممت بالنحل الضنين وهم بي فوريتُه"، كذلك في تلك المؤاخاة اللفظية بين "جدت" و"جادت" و"فاضت" في قوله: "ما جدت إذ جادت وفاضت بالغيوم عهودها"، والإلحاح في تكرار "للوصل" ثلاث مرات على التوالي "تهيأت للوصل أو للوصل أو للوصل .."، وفي تكرار "إذا انثني" مرتين على التوالى "ونسائم الليل" الحميم إذا انثني"، مما يوجد كما قلنا غناءً في الغناء، ويجعل الروح الشعرية سائرة ومنثالة إلى أبد الدهر.

تواشيح شعرية

وهذه العرب الغنائية وأمثالها في الديوان كثيرة، بل تكاد تشكل، إلى جانب التضمين، سمته الشعري، وجوهر القول فيه. فثمة استخدام لعبارة "ليل الليل"، ولعب على أوتاد الحروف "السين والدال" كما في قولها: "ملكاً فقدت؟ أم الأولى فقدوا/ غيث السماوات التي وعدوا؟ أبكيت ملكا أم طوال أسي/ يطوي أساه الموت والكمدُ" .. فالصوت الشعري هنا أو المقام الشعري مبني على حرفي السين والدال، وربما نجد شيئاً من التوشيح أو الترصيع، كما في قصيدة "شيد لخيمة عبلة"، فكأنما على عود، تستعيد الشاعرة ألحانا وتواشيح وقصائد وأغنيات من الماضي .. من ماض عربي، بلا ريب، قد يكون صحراوياً كاستعادة المقطع التالي: "هلا هلا هي/ نطوي الفلاطي" أو استعادة "سقط اللوى" أو "يا حادى العيس" أو استعادتها لقيس بن الملوح وبعض احواله في قصيدة "الصواع"، وقد تكون هذه الاستعادة أندلسية من خلال الموشح الذي يستعيد "زمان الوصل بالأندلس"، "وصل هو الرؤيا وأندلس تثني عودها"، وقد تكون الاستعادة مستلة من روح غناء شعبي أو أغنية شعبية، كما في قصيدة "دانة" حيث الجوهر الوجداني والإيقاعي للقصيدة، مبني على جمل غنائية لأغنية حجازية كتب كلماتها الشاعر الغنائي صالح جلال، وغناها الفنان الراحل فوزي محسون، ومطلعها: "ألا ليت الذين توسدوا الأنفاس ما عدلوا/ ولا ظلموا/ ولا وهبوا/ ولا بخلوا/ وليتك انت أخرهم/ "نستنا واحنا في جدة".." فهي تضمن القصيدة جملة "نستنا واحنا في جدة"، وجملا أخرى، مثل "وسبحانو" حيث تدمجها في السياق الشعري" .. وما وصلوا/ ولا كانوا/.. و"سبحانو" سياج الروح كيف يذيبه الأمل"، كذلك "حظنا تعبان" في سياق "وأقسم حظنا تعبان/ ,أعلم ان للشطآن/ رمالا دونها سقم" .. والترصع والتضمين في القصائد، يأتي في ذاكرة تراثية، صحراوية نجدية في الغالب، فالشاعرة تمتح من نبع عميق، وتديره بيسر، توشح أو ترصع عماراتها الشعرية بحجارة من الماضي، أو بقطع من الفسيفساء، تدرجها في هذه العمارة، وتصل من خلالها، الحنين بالحنين، كمن يرشق الريح بالريح .. في ما يشبه قصيدة حب طويلة بفصول، حيث الأنوثة لدى الشاعرة توحد بين الرجل والماء، وتستثير الرغبة والدماء في العروق، وتلتجئ إلى ألفاظ الخصب ومفردات الوصل، "فاضت، تحرض، تغري، نادمت، رغبة، ارتعاشات، الشهوات، الوصل، كاشفت ، كشف، هممت، هم، فض يلتق البحران ... إلخ" مما يجعل من ديوان أشجان هندي الأول، ديواناً يثير الانتباه، في الشعرية العربية الحديثة، الطالعة من الأصول، فهو ديوان ذو نكهة وهوية، في ركام الكلمات الممسوحة، والرؤى المستعارة.

محمد علي شمس الدين مجلة العربي مايو 1999

تقييم المقال: 1 ... 10

info@3rbi.info 2016