عرض: نسيم مجلي
يتميز هذا الكتاب بالعمق والشمول، ويستمد قيمته النقدية من ان مؤلفه، الدكتور رونالد جراى يعمل أستاذا للأدب بجامعة كمبريدج، وهو باحث متخصص في الأدب الألماني.
كتاب "فرانز كافكا" هذا يمثل حلقة مهمة في السلسلة النقدية التي قام بها الكاتب منها: حصن كافكا، وجوته الكيميائي، وبرخت، وقد قمت بترجمة هذا الكتاب الأخير إلى العربية عام 1972. والكتاب بمنزلة مقدمة نقدية للتعريف بحاية كافكا وأعماله ومشاكله النفسية من خلال عملية مسح شاملة ودقيقة لكل كتاباته وظروف عصره، وفي هذه الدراسة يربط الدكتور رونالد جراى بين الفكر النظري عند كافكا وعملية الإبداع، أي أنه لا يتناول "الأفكار" بمعزل عن "الكتابة" الإبداعية. ومن ثم نراه يخصص لكل رواية من رواياته المشهورة مثل "القلعة"، "المحاكمة"، "أمريكا" فصلا مستقلاً، بالإضافة إلى عدد من الفصول لدراسة قصصه القصيرة خاصة قصة "التحول" التي يزعم رونالد جرى أنها أكمل أعماله وأعظمها دقة وإحكاما حيث وجد فيها كافكا الشكل الذي يلائم حالته. ثم خصص فصلا لدراسة أسلوبه الأدبي وفصلا آخر لفكره الديني. ومما يزيد من أهمية هذا الكتاب بالنسبة لنا أن الدكتور رونالد جراي قد وضعه "لهؤلاء الذين يقرأون كافكا مترجماً على وجه الخصوص لأنهم يحتاجون إلى دليل حاذق وأمين لكي يعينهم على فهمه". ويتيح لهم فرصة لمعرفة صحيحة عن كافكا وتطوره الشخصي والفني.
الشهرة وسوء الفهم:
يؤكد الدكتور رونالد جراي جدارة كافكا كروائي وكاتب قصة أولا كل شيء لكنه يشير إلى أن اتساع شهرة كافكا كان مصحوبا منذ البداية بنوع من سوء الفهم. فهو يرى أن اسم كافكا أصبح كلمة دالة على فظائع القرن العشرين، إلا أنه لم يقدم في بادىء الأمر بهذا المفهوم. فالكلمة الأصلية التى كتبها صديقه "ماكس برود" في تعقيبه على رواية "القلعة" التي نشرت بعد وفاة كافكا، لم تعط مسألة الانتماء للعصر الاهتمام الأكبر، وقدمه يرود على أنه عبقرية دينية. وبنفس الطريقة قدمه مترجماه إدوين وفيللا موير Eduni and willa Muir على أنه جون بانيين Bunyan العصري. وفي زمن باتت فيه العقيدة الدينية مفتقدة أو معرضة لتغييرات جذرية، صار سحر هذا الكاتب عظيما.
لقد أخذت شهرته في الذيوع منذ الثلاثينيات ووصلت أوجها في الستينات ورأى بعض كبار الأدباء من أمثال أودن وكلوديل وتوماس مان أن كافكا يرتفع إلى مستوى دانتي وشكسبير وجوته وراسيين، ووصفه توماس مان بأنه الضاحك الباكي في الأدب الألماني.
أما أندريه جيد فعلى الرغم من أنه لم يعبر عن رأيه بعبارات محددة فانه كتب في مفكرته سنة 1940 عن الأثر الذي تركته رواية "المحاكمة" في نفسه، ونتيجة لذلك فانه قام بإعدادها للمسرح بعد ذلك. إن قائمة الكتابات النقدية التي نشرت عنه سنة 1961 تقع في 400 صفحة تقريبا وتحتوي بنوداً من كل قارة. وتدل على أن كافكا لم يعد مقروءاً فقط بل صار مبجلاً أيضا.
غير إن القدر الأعظم من هذا الأدب التابع، لم يهتم بكتاباته اطلاقا، وإنما وجه جل همه إما إلى تفسير رسالته إلى الإنسانية، أو إلى الخلافات التي نشأت حول قيمته كمرشد ديني، أكثر من الاهتمام بقيمة رواياته وقصصه. وهذا يرجع في جزء منه إلى أسباب تاريخية. فلم يقبل كافكا في حياته إن ينشر إلا ست مجلدات صغيرة تقل في مجملها عن حجم رواية قصيرة. ورغم أن الكتب التي نشرت بعد موته في نسة 1924 كانت في طريقها إلى الانتشار في العشر سنوات التالية، لكن استيلاء النازيين على السلطة في 1933 قضى على فرصتها في الذيوع، وبمجيء عام 1939 وقعت كل من النمسا وتشيكو سلوفاكيا في قبضة الرقابة النازية، بحيث لم يعد ممكنا فتح كتبه وقراءتها إلا في الدول الأجنبية، واستمر الوضع إلى ما بعد 1945 حين بدأ المتحدثون بالألمانية من الجيل الجديد يسمعون عنه. وفيما يخص المانيا، فإن شهرة كافكا العظيمة قد بدأت من خلال تقارير الأجانب الذين كانوا يهتمون بأفكاره أكثر من اهتمامهم بلغته.
لكن ماكس برود كان يؤكد على الدوام أن اللغة لا تقل أهمية عن الأفكار وإن كانت الأفكار في حد ذاتها شيئا مهما. وفي سبيل تصحيح زاوية النظر إلى أعمال كافكا، يتناول الدكتور رونالد جراي الترجمات الإنجليزية بالمناقشة ويستشهد بفقرات كثيرة ثم يقوم بإعادة ترجمة هذه الفقرات ولنأخذ مثلا مما يقوله:
"إن القارىء لترجمة موير سوف يجد بينها وبين ترجمتي اختلافا في اثني عشرة موضعا: عن طريق إطالة الوقفات، وربط العبارات المنفصلة وحذف الضمير الشخصي المتكرر فإنها قد أضافت إلى الأصل نوعاً من التماسك ليس موجوداً فيه. إن كافكا لم يكن يكتب شعراً مثل جون دون لكن صفة البرود الخاصة بلغته الألمانية كان لابد أن تتخلل عمله هنا، أيا كان الشكل الذي يكتب فيه. وإذا شئنا التعرف على ما يتميز به أسلوب الكتابة عند كافكا، فأمامنا الكثير الذي يمكن عمله، وبدون هذا فإن افكاره الدينية أو افكاره الأخرى لن يكون لها أهمية كبيرة. لأن كافكا قد صنع شهرته الخاصة كروائي وكاتب قصة قصيرة أولاً وقبل كل شيء".
ثم يشير رونالد جراي إلى أن الخاصية الحقيقية كافكا يمكن التعرف عليها جيداً عن طريق المقارنة بينه وبين مقلديه من أمثال البير كامى في (الطاعون والغريب) أو جرهام جرين في (وزارة الخوف) أو ركس وارنر في (المطار) أو سوزان سونتاج في (حكاية صندوق الموت) أو هيمان كوزاك في (مدينة وراء النهر) أو الياس كانيتي في (التعمية) حيث أخذ هؤلاء الروائيون تيمات Themes كافكا، أو اسلوبه المفترض فقط. أما وليم سانسوم فقد أخذ يحاكيه بصورة تلقي كثيراً من الضوء على هذا الأمر، لأنه لم يأخذ فقط موضوعات كافكا، بل أخذ في تقليد أسلوبه إلى درجة تدعو للسخرية، فقصص سانسوم المبكرة مثل "التيه" أو "المفتش" ليست قصصاً نموذجية ولا هي من أفضل أعماله، وإنما هي في الأغلب، معارضات أدبية مبكرة، بل تمرينات في الكتابة على أسلوب كافكا، وباعتبار أنها نسخة منقولة عن احدى التحف الفنية، فإنها قد نقشت ألوانها بحرفية شديدة، مما يكشف حقيقة الأصل الذي تفرعت عنه.
فقصة "التيه" لسانسوم بنيت على رواية "القلعة" في موضوعها وعلى "مستعمرة العقاب" في أسلوب عرضها. وكما هو الحال في "مستعمرة العقاب" نجد أحد الرحالة يحوم حول مكان غامض، هو التيه هنا، أما في قصة كافكا فهو مكان خاص بتنفيذ حكم الاعدام، وكما في "القلعة" نجد معاني اضافية ترمز بشكل عام إلى الحياة وطريق الإنسان فيها. لقد رسم المشهد الأول في "التيه" على نمط المشهد الأول في "القلعة" بدقة شديدة فالتيه شأنه شأن القلعة يقع على تل منخض تحته عدد من المنازل، يعطي من الدلائل ما هو أكبر من حجمه. وبعد عرض المشهدين يستنتج الدكتور رونالد جراي أن كافكا كان "معروفا بحرصه الشديد على استبعاد أي شيء يخرج عن محيط التجربة الشخصية لشخصياته، ولا يتجاوز الحدود في هذه الناحية رغم أن قصصه تحمل في طياتها تضمنيات كثيرة جداً للمعانى. كما يحرص على وضع القارىء في مربع التجارب الخاص به حين يخاطبه "إذا كنت لا تعرف أنها قلعة فسوف تحسبها مدينة صغيرة" حتى يعريه بالمشاركة في الفكرة. ومن هذا تتكشف لنا سمة أخرى هامة في أعمال كافكا وهي (الاندماج والانفصال)".
فقد رأي عدد كبير من القراء أن للقلعة عند كافكا مغزى دينيا، انها ترمز إلى الله أو ترمز إلى مستودع معرفة كالكأس المقدسة، ومقارنتها ببرج الكنيسة يستدعي الخيال لكي يجرى في هذا الاتجاه. لكن كافكا كان حريصا على ألا يترك مجالاً لهذه التفسيرات. فبرج الكنيسة في موطنه له شكل واضح "محدد" يرتبط بخلفية ثقيلة من التقاليد، يذكرنا بأنه بناء أرضي دنيوي ليس له صفة الشمول أو العمومية.
كافكا وادجار ألان بو:
"مستعمرة العقاب" التي كتبها كافكا بعد الحرب العالمية الأولى، وهي من أكثر قصصه إثارة للفزع. إنها قصة آلة بشعة صممت لتعذيب المحكوم عليهم، وهي في نفس الوقت ذاته تصوير مجازى للحالة الروحية التي كان يعيشها أولئك الذين أرغموا على معاناة الكروب والأهوال بدرجة لا توصف من جراء بعض التصرفات الهوجاء غير المفهومة بالنسبة لهم. ويرجح رونالد جراي أن تكون قصة "الحفرة والبندول" لادجار ألان بو هي أحد مصادر هذه القصة.
قصة بو يحكيها سجين سابق من ضحايا محاكم التفتيش الأسبانية، كان قد حكم عليه بالموت البطىء يوضعه في زنزانة بأحد سجون مدينة توليدو فيفقد وعيه بمجرد سماع النطق بالحكم. وحين يفيق يجبد نفسه في ظلام دامس مثل ظلام القبر وأمامه صورة بندول ضخم يتأرجح بسرعة ويقترب منه شيئا فشيئا.
ومن المقارنة بين كتابات بو النثرية وكتابات كافكا يكشف مستر جراي أن نثر بو يتسم بلهجة رنانة والحاح سريع، كما يحوي قدراً من الميلودراما أي المبالغة التي تبين أن بو لم يكن واثقا من قدرته على حمل القارىء معه، رغم أن الموقف كان سيئا بحيث لم يكن يحتاج إلى تلوين الصوت، أو إلى الايحاءات الأخرى عن السرعة الخيالية في أرجحة البندول وهذا يتمشى مع بقية القصة، لأن السجين يتخلص من البندول بتشيجع الفئران على أن تقرض بأسنانها الأربطة التي كانت تقيده "ليفاجأ بأن جدران الزنزانة قد اشتدت حرارتها حتى بلغت الاحمرار، وأنها تسير نحوه. لكنه ينجو في النهاية بمساعدة القوات الفرنسية التي نجحت لحسن الحظ في احتلال المدينة في هذه اللحظة بالذات وقررت أن تعرف مالدي يجرى تحت الأرض. ان بو poe يعمل على ترويع القارىء حتى يقشعر بدنه، بدلا من خلق تجربة ذات معنى جاد.
وعلى النقيض من هذا نجد كافكا في غاية الجدية. فالآلة في قصته يمكن تشغيلها لتنقش على جسد السجين إحدى الوصايا التي خالفها بسبب غفلته، وفي النهاية تقتله وتقذف بجثته في خندق. ليس في هذا الحادثة شيء من العاطفية اطلاقا، فالضابط المسئول عن الآلة يشرح لأحد الباحثين العابرين جهاز الإعدام وكأنه يبيع سيارة. ولا يبالي أبداً بعذابات المحكوم عليه.
مع هذا فان رونالد جراي يرى أن تجربة الحياة كنوع من العذاب لا يجب أن تستبعد في حد ذاتها كشيء غير صحي، بل ربما تكون هي الطريق الوحيد إلى الصحة. هناك قصة لتولستوي اسمها "موت ايفان الليتشي". تشبه إلى حد كبير رواية كافكا "المحاكمة" وقصة "مستعمرة العقاب" في بعض الجوانب. انها قصة حاكم يصاب في منتصف عمره بمرض مفاجيء يقعده عن الحركة، شأنه شأن جوزيف كيه الذي قبض عليه فجأة بتهمة غير محدودة: عشوائية الهجوم هي مثار الاهتمام في كل حالة، إذ تؤدي بايفان الليتشي إلى الاحساس بأنه يحاكم أمام محكمة حقيقية وأن عدالة الله قد صارت موضع شك بسبب المعاملة الظالمة التي يتعرض لها. يحاول تولستوي أن يستميل القارىء للدخول في التجربة حين يكشف حقيقة الأمر ببساطة وهو أن كل رجل وكل امرأة يعيش في هذا العالم دون أن يدري أن الموت قادم، وأنه يأتى في أي لحظة، وأن كل إنسان يشعر أنه مستثنى أخلاقيا وحقيقيا من القانون الكوني الذي يقرر مصير الجنس البشري. كان ايفان الليتشي يعيش حياة لاهية، وفجأة يواجه باهانة لا تحتمل تسيء إلى سمعته. ومن ثم يحس فجأة بالألم، دون سبب واضح على الاطلاق، تماما مثل جوزيف كيه، حين يفاجئه التهديد بتهمة أخلاقية غير محددة تعرض حياته للانقراض. وهو برىء طبعا، ولا شيء يمكن أن يقنعه بعكس ذلك. قرب النهاية يصاب الروسي بحالة انهيار، ويستمر في الصراخ لمدة ثلاث أيام متواصلة ولا يستطيع إنسان أن يسمعه من خلال الأبواب المغلقة دون أن يصيبه الفزع. ان اللحظة الأخيرة تذكرنا بإدجار ألان بو وكافكا بغير الميلودراما عند أحدهم أو هبوط الإيقاع عند الآخر.
تختلف شخصية تولستوي عن شخصية كافكا في هذه الناحية. فهو لايزال رافضا، سوف يبقى ابداً رافضا لقبول المعاناة: فالعذاب شيء بذيء وسوف يبقى هذا الرأي صحيحا في نظره حتى النهاية، بينما يكتب كافكا وكأن العذاب شيء مرغوب فيه بل أن الاختلاف الأهم نجده في الفقرة التالية، وهو ان الليتشي يشعر بالإشفاق، وهو عاطفة يكاد لا يعرفها أحد من شخصيات كافكا، الذين يظلون منشغلين انشغالا مسبقا بمعاناتهم الشديدة، أو غير مكترثين بها ومتجاوزين لها.
ولعل أهم الاختلافات هو ما يحدث لايفان الليتشي في اللحظة الأخيرة قبل أن يموت. إذ يكف عن الخوف، وينصرف عن الاهتمام بآلامه، ويغمره شعور غريب هو مزيج من الفرح والأسى. أما جوزيف كيه عند كافكا فلا يشعر أبداً بعاطفة الشفقة ولا بأي قدرة على التحرر من اعتقاده بأنه كائن منحط وعلى هذا يعقب رونالد جراي قائلا:
"من الممكن ان يحدث الشيء الصحيح في قصة تولستوي، حتى في اخر لحظة، فهل يمكن أن يحدث نفس الشيء عند كافكا؟ وإذا لم يكن الأمر كذلك، فهل هو حقيقة أكثر مأساوية من تولستوي أم أنه فقد الاحساس المأساة عن طريق الإيهام بأنه يتجاوزها؟"
وينتهي رونالد جراي إلى أن كافكا يمثل نموذجا متطرفا للكاتب الذي أسلم نفسه لكل القوى القادرة على تدمير الإنسان، دون أي محاولة من جانبه لإعاقة طريقها بالوعي وهو الوسيلة التي يلجأ إليها معظم الناس، كما فعل إيفان الليتشي لانتزاع انفسنا من وهم الرؤي غير المقبولة. مع ذلك، فإننا قد نخطيء، إذا حاولنا أن نحاكم كافكا خارج المحكمة على أساس اعتراضنا على هزيمة أبطاله. إذا كانت المقارنة بينه وبين سانسوم وبو لن تظهر شيئا آخر فانها سوف تظهر بجلاء أن كافكا كان فنانا شديد الوساوس بدرجة تجعل الصعب على أي أحد أن يتحداه إلا في المجال الذي اختاره لنشاطه، وهو فن كتابة الرواية والقصة. ان قيمته الباقية سوف توجد في أي عمل ينبثق من هذه الأمانة الأساسية. لكن رؤية العمل الفني ككل تعني أن نضع في اعتبارنا ما هو أكبر من عدة فقرات فردية. ان إعطاء صورة كاملة، يتطلب دراسة انماطا لقصصه ورواياته بل ان نمط حياة كافكا كلها ككاتب لابد من البحث عنه.
وعلى هذا يقول رونالد جراي:
عاش كافكا حياته في تعاسة بالغة إلى درجة تجعلها عسيرة على الفهم الا بجهد جهيد في اعمال الخيال والتعاطف. لأنه لا يكتب فيما نتوقعه من خبرات عامة يألفها القارىء فعلا: فمعظم المواقف في قصصه تبتعد كثيرا عن مجال التصديق بحيث لا يفلح معها الا ثقته الكاملة في التغلب على شكوك الآخرين. أما الصعوبة الأخرى التي تواجه أولئك الذين عاشوا حياة أقل انقباضا هي أن كافكا يبدو في أغلب الأحوال غير ضائق بتعاسته، بمعني مؤكد أنه يريدها فعلا أن تستمر، وأن يسميها (مازوكية) ثم يتركها عند ذلك كأنما يريد أن يتملص بكلمة لم يتضح معناها الحقيقي بعد أن الوضع هنا ينطوي على مسائل دنية وفلسفية بالإضافة إلى أمور شخصية بحته، وبعضها يعكس، ولو بصورة مشوهة، مسائل ذات اهتمام إنساني عام.
تأثيرات كافكا
من المفيد حقا وإلى حد ما، أن نعرف أن كافكا قد تأثر تأثيرا حقيقيا بالأماكن والأزمة التي عاش فيها. وهذا أمر يصعب تحديده طالما أن هناك آخرين كانوا فيما يختص بالمكان والزمان في مواقف مشابهة تماما ولم يكتبوا مثلما كتب. ربما كان لحياته العملية في مجال الخدمة المدنية بالنمسا دور في تكوين أسلوبه المجرد من العاطفة، لكن كانت هناك عوامل أخرى عامة تحدث أثرها الفعال. فقد ولد في براغ وشب فيها في وقت كانت امبراطورية النمسا والمجر، والتي كانت بوهيميا جزءاً منها، على وشك التقسيم بحسب القوميات الداخلة فيها. كان القوميون التشيك يضغطون بقوة للاستقلال عن فينا، وكانت هناك تيارات انفصالية قادرة على اثارة الزعزعة والقلق في نفوس الأفراد أضف إلى ذلك أن كافكا لم يكن ينتمى تحديدا إلى الطبقة المتوسطة ذات السطوة والنفوذ التي كانت تتكون من المتكلمين بالألمانية في براغ. وبحكم كونه يهوديا أرسله أبوه، تاجر التحف والخردوات الثري، إلى مدرسة ألمانية، وإلى الجامعة الألمانية ببراغ، لكي يعده إعدادا كافيا يضمن له القبول في الحياة الاجتماعية وظل كافكا التشيكي الأصل يتكلم الألمانية في مدينة كان الناطقون بالألمانية فيها يشكلون أقلية ضيلة، فبقي منعزلا أو على الأقل منفصلاً عن التشيك بأنه ألماني، وعن الألمان بأنه يهودي، وعن اليهود الأصوليين بعقليته المستقلة، وعن أسرته بسبب عدواة أبيه المستحكمة له. كل ذلك جعل له وضعاً شاقا في الحياة. لكن كان هناك كتاب اخرون من اليهود مثل فرانز فرفيل Werfel وماكس برود صديق كافكا، لم يتطرق إلى أي منهما الإحساس بوطأة وضعه على هذا النحو الحاد المفزع. وربما كان ريلكه، وقد ولد في براغ أيضا، هو الوحيد الذي أحس إحساسا مشابها، مع أنه لم يكن يهوديا ولا ينبغي هنا استبعاد أثر العوامل الاجتماعية والتاريخية. لكن يبدو أن اليأس كان قد أخذ طريقه إلى نفس كافكا قبل أي عوامل خارجية.
أما بخصوص ما كان يقرأه كافكا أو كان يكتبه. فالتراث اليهودي المسيحي يأتي في مقدمة ذلك. فهو يقرأ الانجيل والتلمود وكبر كجارد كما يقرأ نيتشه. وكان لسفر أيوب سحره الخاص عنده. فكتب عن سقوط آدم وحواء، وعن الجحيم والفردوس، ولم يكتب عن العدم. كان لديه نفور شديد من الديانات الشرقية التي تدعو إلى الفناء الذاتي. لقد كان مهتما بالمسرح البيديتش. وكان أصدقاؤه غالبا من اليهود مثل ماكس برود وفرانز فرفيل وكان يتعاطف مع القضية الصهيونية لكنه لم يدخل إلي محفل أو كنيسة للصلاة. كتب في يومياته بأنه يشعر وهو بين اليهود وكأنه سلالة منقرضة. وكان يستطيع التعبير عن ازدراءه الحقيقي لليهود عموما، ربما كان لتعليمه بالمدارس الحكومية، والألمانية بصفة خاصة في براغ علاقة بهذا الأمر، فليس بين رواياته رواية تتناول الشخصية اليهودية تناولا صريحا. (وان كانت قصة "جوزفين المغنية" تفسر على هذا النحو) وحين يأتي ذكر العلاقة الدينية لأي شخص فهو مسيحي لا يهودي. فالأب في قصة "التحول" وجوزيف كيه في "المحاكمة" يصلبان نفسيهما. ومن الواضح ان مشهد الكاتدرائية في الرواية الأخيرة هو بناية مسيحية. كيه في "القلعة" يفكر في القلعة في علاقتها بالكنيسة في وطنه وليس بالمعبد اليهودي. لعل ذلك كله كان محاولة من كافكا لربط أعماله بالتقاليد الأوربية العامة بدلا من ربطها بالتقليد اليهودي الأقل تمثيلا، لكن أعمال كافكا تتلون بالاختيار، أيا كان التفسير لما تنطوي عليه من شكوك. أنه لم يعط ولاءه النهائي أبداً لأي من اليهودية أو المسيحية.
وهنا يقول رونالد جراي:
إن الشيء الواضح في كافكا، وفي أفكاره الدينية وكذلك في علاقته بأبيه، هو ازدواجيته فهو يبدأ إحدى يومياته بكلمات تقول "اللهم ارحمني فاني خاطىء في كل ركن من أركان حياتي" ثم ينتقل إلى استهجان هذا الدعاء على اعتبار أنه حب للذات يدعو للسخرية، لكنه يعود ويدافع عنه، دفاعا دون حماس، على أساس أن كل كائن حي يجب أن يحب ذاته، وإلى الحد الذي لا يدعو للسخرية في خلفية هذا تكمن الفكرة المتواترة التي تقول بأن العالم المخلوق كله لا يستحق البقاء، وأن الفناء الكامل للذات هو الشيء الوحيد المبرر، وهي فكرة تقترب جداً من البوذية. في ضوء هذه الملابسات يجد الإنسان نفسه في حيرة أحيانا. هل يقرأه في ضوء التناقض التقليدي عند هيجل وكير كجارد واللاهوتيين الرومانسيين الألمان، ومفاده أنه حيث يضعف الإيمان، يتعاظم الولاء لله وتتزايد فرص الحصول على الخلاص. أم أنه كان يقصد إلى الحديث بغير تناقض، في بساطة كأحد الملحدين?!