التربية الفنية هي تربية تكاملية، تتطلب ثقافة فروعية متعددة، فوظيفة التعبير الفني هي تحقيق الانسجام الداخلي لدى الطفل، والتوازن في علاقاته مع الآخرين، وتنمية طاقاته الذاتية، والشعور، وحرية التفكير، والملاحظة، وأخذ المبادرة، والخلق والابتكار.
يتطلب هذا الأمر، من المعلم الإلمام بأساليب ونظريات التربية، والخبرة في مجالات علم النفس، وعلم الاجتماع، وعلم النفس الجمالي، أو ما يسمى بعلم نفس التربية الفنية، عدا الفلسفة وعلوم الإنسان الأخرى.
ولهذا، إذا لم يكن معلم التربية الفنية ملمًا بالنظريات التربوية الكلاسيكية والحديثة، والمقومات الأساسية للنفسية Psychisme بغية تطوير السلوك والتصرف عند تلامذته وتنمية ملكات التعبير النفسية والعقلية والروحية لديهم، فمن شأن عملية التربية أن تؤثر سلبًا على نفسية الطفل والراشد على حد سواء، بمركبات النقص، والإحباط، والإثباط في السنوات الخمس الأولى من عملية التربية، (وهذه المرحلة التي يكتشف فيها الطفل بعد انقضائها، الواقع، هي قوام Substratum الشخصية) طوال العمر. وليس الغرض من التربية الفنية خلق فنانين صغار - كما يرى فلاسفة التعليم التربوي - فهدف التربية ولا ريب كما ذكرنا تفتّح الشخصية وتكوين الذاتية، بغض النظر عن النتيجة العملية وفق القواعد المتبعة، والحيل والطرق المتخذة لتنمية الشعور بالكينونة.
وتعطينا ملاحظة نمو الطفل منذ الولادة، في مراحله الأولى حتى سن الخامسة - وهي مرحلة اكتشاف الواقع - بعض الأفكار عن ميوله للتعبير عن ذاته، وتتطور هذه الرغبة من البكاء والصراخ، واللمس، والبصر، والسمع، حتى التوصل إلى اللعب والتعبير الفني.
وفي الحقيقة إن التأكيد على حرية الطفل في إطار من التربية الديمقراطية التي تتموضع مع قدراته وحاجاته وتكوينه هي مسألة غاية في الأهمية لتكوّن الشخصية و«الذاتية»، إلا أن تربية الطفل «وفق الطبيعة» شيء وتربيته تربية «طبيعية» شيء آخر، وفي الحالة الأولى تعني التربية كونها على مقتضى طبائع النفس والجسد والعقل والأشياء بصفة عامة. أما في الحالة الثانية فتعني التربية ترك الطفل على حال الطبيعة الأولى، باعتبار أن الطبيعة الأولى خيِّرة بعكس الحضارة «المصطنعة» الفاسدة والمقيدة، كما يرى روسو؟! وكأن روسو في فلسفته التربوية يعامل الطفل باعتباره راشدًا، والحال، فإن الطفل ليس راشدًا والراشد ليس طفلاً. وإذا كان «كانط» قد لفت إلى ضرورة تعليم الطفل فكرة الواجب Impératif، أو اللزوم - لزوم ما يلزم وما لا يلزم - فإن برجسون اعتبر في كتابه المعروف «منبعا الأخلاق والدين» أن ثمة منبعين للأخلاق، الإلزام من جانب، والصبوة من جانب آخر، والجانب الأول نجده في المجتمعات «المغلقة» حيث يُربى الفرد على العادات والتقاليد والأوامر الاجتماعية المُلزمة، التي ينفذها حرصًا على الائتلاف و«التكيف» مع المجتمع، وهذه التربية من شأنها أن تولّد أخلاقًا سلبية، آلية، خانعة، أي اتباعية واحتذائية. أما المنبع الآخر للأخلاق فهو نتاج الطاقة الحيوية والانفعالية الكامنة في النفس الإنسانية. وفي طبيعة الإنسان - بنظر برجسون - أوجه ثلاثة،
1 - وجه متصل بالغريزة وحاجاتها المباشرة،
2- ووجه متصل بالمجتمع وأوامره وتقاليده،
3 - وجه متصل بالتطلع إلى القيم الإنسانية الكبرى.
والإنسان على الرغم من انطلاقه من واقع الغريزة، وحاجته إلى خبرة المجتمع، لا يكون إنسانًا حقًا إلا إذا علا فوق الغريزة وفوق المجتمع من خلال صبوته وتطلعه الطبيعي والأصيل، نحو القيم الإنسانية الكبرى، القادرة وحدها على توجيه الإنسان وجهة سديدة.
وعلى الرغم من أهمية النظرة البرجسونية في المجال التربوي البداغوجي، فإن الموقف الكانطي الداعي إلى تكوين «الأخلاقية» Moralitat على أساس فكرة الواجب المجرد، الحق - لذاته، والخير - لذاته، والجمال - لذاته لها مبرراتها عند الطفل والراشد على حد سواء، بغض النظر عن المعايير الاجتماعية السائدة. وقد بيّن ماكس فيبر دور البروتستانتية في تكوين الحداثة الرأسمالية، وفق معايير أخلاقية محض، تقوم على الواجب والالتزام الذاتي أي الإلزام Impératif القائم على الضمير الشخصي. هذا في حالة الراشد، أما في حالة الطفل، فقد أكد جان بياجيه على ضرورة التدخل المحدود في التربية، إذ إن التربية «الاجتماعية» هي التي تؤهل الطفل، ولا يوجد بناء على ذلك، شيء اسمه «تربية طبيعية» ذلك لأنه فور ذكر كلمة «تربية» فذلك يعني أن ثمة عاملاً خارجيًا «اجتماعيًا» يقوم بعملية التربية والتنشئة. ويرى بياجيه أن جهاز الطفل العصبي، والعقلي، والنفسي هو جهاز توارثي، وليس طبيعيًا بيولوجيًا محضا. فملكة التجريد والتأليف والتركيب ليست فطرية وطبيعية، وإنما تقوم على عوامل وراثية اجتماعية، كاللغة، والتربية، والأخلاق، والمنطق. ويتشكل العقل المنطقي بصورته الأولية، خلال النشاط الاجتماعي، بواسطة التربية والدليل على ذلك أن مفاهيم العدد، والمكان، والزمان، والحركة، والسرعة، وملكات التصور، والحكم، والقياس، والتعليل، والاستقراء والاستدلال، ليست فطرية، وإنما ثقافية واجتماعية، متوارثة، يحصل عليها الطفل بواسطة التربية. وهذه الملكات لا تتفتح لدى الفرد إلا في مرحلة البلوغ والرشد.
وهذا الأمر لا يمنع من بزوغ عبقريات، كموزارت الذي زاول العزف في سن السادسة، وأم كلثوم التي غنّت في طفولتها المبكرة، وباسكال الذي كتب «مقالة حول الأصوات» في سن الحادية عشرة، واكتشف الفرضية الثانية والثلاثين لأوقليدس. لكن حتى العبقرية، عينها تصقل بالتربية، والتعلّم والتدرب.
تزاوج العلوم
وعلم النفس التربوي يشتمل على علاقة شاملة بين التربية وعلوم الإنسان الأخرى، كعلم الاجتماع، والإناسة الإنتربولوجية، والتاريخ، وعلم الجمال وتاريخ الفن.. إلخ. ناهيك عن العلوم الصحيحة كالبيولوجيا والفيزيولوجيا.
والإنتربولوجيا المعاصرة لم تعد تعتبر الفطرة البشرية خيّرة كما تصور روسو، وها هو ذا رينيه جيرار يعتبر أن العنف كامن في الذات الإنسانية، وهو راديكالي، أصلي، أي متأصل فيها، وهذا يعود بنا إلى مفاهيم دينية كالخطيئة الأصلية، والنفس الأمارة بالسوء، على أساس علمي وعلماني حديث. والإنسان - بحسب جيرار - هو رغبة غير متحققة، أي غير مشبعة، وهذه الرغبة ذات طبيعة نزاعية Conflectuel، إذ يقوم النزاع بين الذات والذوات الأخرى على ما هو متفق وليس على ما هو مختلف، فالاختلاف يوحّد والاتفاق يفرّق. وهذا ما من شأنه أن يفسر دراما النزاع الإنساني إن بصورته الميتافيزيقية القائمة على «السقوط» - في العالم، والنزاع الأخوي Fratricide، أو في صورته الوجودية، القائمة على فكرة الانطراح في الوجود، حيث لا يختار الإنسان وجوده، وإنما يختار شكل وجوده وماهيته، بفعل التربية والتعليم والثقافة. من هنا أهمية الأخلاق والأديان وفلسفات التربية والتعليم والعلم والفن في التسامي والتعالي بالذات الإنسانية على شرطها الأصلي والتكويني الأنطولوجي.
وحتى في مجال علم النفس، عينه، يوجد ثمة علاقة بين علم النفس العام وعلومه المتعددة الأخرى، فعلم النفس يرتبط بالتحليل النفسي Psychanalyse، وهو العلم الذي يقوم على تحليل نظام النفسية Psychisme بغية تحليل الأغوار الكامنة، الواعية واللاواعية في الذات الإنسانية، لمعرفة المقومات النفسانية، لحالات الإزاحة والإحالة والتعويض للذات، والتكيف أو التمرد على «الواقع». ويربط أدلر علم النفس التحليلي بالتكوين الفردي - الاجتماعي للإنسان، لمعرفة شخصية الإنسان ومركبات نقصه وعقد العظمة، والدونية والعلوية فيه.
التفسير وليس التحليل
ومع أن علم النفس السلوكي Behaviorism لا يعترف إلا بمعطيات الوعي المباشرة، ويقوم على التفسير وليس على التحليل، وفق نظرية الارتكاس الشرطي، فإنه يفيد في التربية الابتدائية التي تقوم على إنماء الحوافز الحسية لدى الطفل بغية تحقيق استجابات معينة، تعتمد على ربط الصورة بالفكرة، والفكرة بالشيء، والذات بالموضوع. أما علم النفس الشكلي، أو الكلّي Gestalt، فهو يفيد في عملية التربية، كنظرية كلية، وظواهرية للنفسية. وهو يهتم بالفهم الكلي للظاهرة النفسية، كظاهرة، وليس في جزئياتها المباشرة. ويرى جاستون ميلاريه G. Milaret أن سيكولوجية التربية تشتمل على كل (كليّة) الظاهرات الفردية النفسية، والنفسية - الفيزيولوجية، والاجتماعية، التي تختص بالمؤسسات والطرائق والبنى النفسية، المتعلقة بعملية التربية والتعليم. ويدخل في هذه النظرة كل المقومات والمكونات النفسية Composantes Psychologique في الأوضاع التربوية Situations Educatives، كالعلاقات النفسية، والنفسية الاجتماعية، بين المعلمين والمتعلمين، في عملية نقل المضامين والمحتويات، والطرائق والتقنيات التربوية، ومناخ الصف العام، البيئة والمجتمع، أي جملة هذه العناصر مجتمعة ومنفردة في عملية الإعداد التربوي.
والحال هذه، إذا كان الغرض من علم النفس التربوي (والجمالي) ليس التعليم والتعلم الحصري فحسب، بالمعنى التكنوقراطي، فلا يتطلب تأهيلاً ثقافيًا (بداغوجيًا) للمعلم والمربي في إطار عملية التعليم.
والسؤال الآخر، المطروح، إذا كان المقصود من التربية الفنية والتعبير الفني هو خلق الشعور بالهوية والذاتية عند المتعلم، حتى لو لم يكن المقصود بالتربية الفنية خلق «فنانين صغار» وبغض النظر عن النتيجة. فهل يسوغ ذلك اعتبار المربين مجرد «مدرّسين» أو «مقرئين» (بالتعبير القروي) فقط، وعدم صلاحية دور المعلمين في تخريج فنانين كبار؟
لا يمكن تنمية شخصية الطفل (في عملية التعبير الفني الحر، لتحقيق الانسجام الداخلي عنده، والتوازن في نفسه وفي علاقته مع الآخرين) إلا بتنمية الحس التعبيري عنده، وتحقيق الاتزان الانفعالي بواسطة إنماء الشعور، وحرية التفكير، والمبادرة. الأمر الذي من شأنه أن يعزز السمو بالمستوى الفني والجمالي والروحي للذات الإنسانية.
وكذلك الأمر لا يمكن إعداد المربي إلا بربط الفن والتعبير الفني بفلسفة الفن (علم الجمال) لتنمية الحكم الجمالي عنده. والحُكم الجمالي هو أساس ومناط النظرة الجمالية الحديثة، منذ بروز النظرة النقدية الأسلوبية.
وكان أفلاطون قد حاول تعريف الجمال تعريفًا جامعًا - مانعًا دون تمييز بين مقومات الحكم الاستطيقي والحكم الأفهومي Conceptuel: أيكون الجمال هو «الممتع»، «الجيّد»، «المفيد»، أو «السامي» و«الطريف»؟ وألا يمكننا اعتبار «القوانين» و«الأنظمة» جميلة أيضًا، فنحن نقول إن العدالة جميلة، و«الديمقراطية جميلة»، و«الجمهورية جميلة»?، وإذا كانت بدايات مفهوم «الفن للفن» قد تبلورت مع أرسطو في التفريق بين الجمالية و«الأخلاقية»،في تشديده على المتعة كهدف للفن بذاته، وهي متعة عقلية وروحية «خالصة»، لكون الفن يتحلى بخاصية تفريجية وإسمائية Catharsis، فإن النظرية الأسلوبية Manierisme في العصور الوسيطة هي التي ستمهّد للفلسفة الجمالية الحديثة، التي تعتبر الشكل مقومًا للمضمون وليس العكس، والذي قام عليه الفن الحديث.
ومنذ مونتان Montaigne فصاعدًا لم يعد البحث عن «ماهية» الجمال وجوهره هو مناط وأساس الجمالية، بل صار التفاوت والاختلاف الذوقي هو المصدر الأساسي للحكم الجمالي.
وقد تأسست النظرية النقدية الحديثة على الفصل ما بين الحكم الأفهومي (العقلي والمنطقي الصرف) والحكم الاستطيقي (الذوقي)، وقد رأى كانط وجود علاقة اختلافية differenciel بين الذات المدركة Entendement والحاكمة الجمالية، ملكة الذوق أو الذائقة الجمالية، بنى على أساسها نظريته النقدية. ومنذ اكتشاف هذا البعد النقدي في الفن لم يعد بوسع فلسفة الفن ألا تقترن بالنشاطية الفنية. ونحن، مثلا لا يمكننا معرفة مغزى «الانطباعية» في الفن دون أن نعرف مغزى القيمة اللونية الحرة، والحدس، والعاطفة التي تضعها لمسة الفنان في اللوحة التشكيلية. ونحن لا نعرف معنى التكعيبية إذا لم نتعرف على الفلسفة الشكلانية Formalisme وتطوراتها، ولا السوريالية إذا لم نعرف الأساس الفلسفي - السيكولوجي لجدلية الوعي واللاوعي التي تحيل «اللاواقع» إلى شكل من أشكال الواقعية المطلقة (السوريالية).
ونحن لا نستطيع أن نستوعب التجريب الفني بصورة الغنائية والتعبيرية والمفاهيمية إذا لم نستوعب الفلسفة التفكيكية، التي تعتبر «القيمة» الفنية، فيما يتعدى كل قيمة قبلية سابقة على المغامرة الفنية المطلقة وإبداعاتها اللامتناهية.
ويتطلب كل هذا أن يستوعب المربي الفني، أستاذ الفنون، علاقة التربية بالجمال والفنون الجميلة.