هذا سؤال ينطوي على مضامين أخلاقية، ومثالية، وعملية نفعية أيضًا. وبعض هذه المضامين يحمل مغزى أخلاقيًا بالمعنى الإيجابي وبعضها يحمل مغزى سلبي المعنى أيضًا، ولكن السؤال يطرح نفسه بوصفه سؤالاً ضروريًا.
ثمة رأي ينطلق من وجهة نظر أخلاقية مثالية، يرى أن العلم الذي يبدد ظلمات الجهل، بفضل جهود العلماء، يقود بني الإنسان إلى حياة أكثر توازنًا وعدالة، ويوفر لهم من الوسائل ما يجعل هذه الحياة أكثر راحة ويجعلهم أكثر قدرة على التحكم في موارد الطبيعة والتغلب على تحدياتها. ومن هنا، فمن المفترض إذن، أن العلم يرشد الإنسان إلى المزيد من العدالة والطمأنينة في بنية المجتمعات البشرية بالشكل الذي يؤدي إلى حياة أفضل. بيد أن هذه النظرة المثالية الأخلاقية تتغافل عن الكثير من الحقائق وهي تصرّ على أن العلم لاينبغي أن يكون «سلعة» في سوق العرض والطلب لأنه حق للبشر جميعًا. وعلى الرغم من أن من ينتجون العلم فئة قليلة من البشر هم العلماء، فإنه ليس من حقهم التعامل مع «إنتاجهم» بوصفه سلعة للمنتجين يحق بيعه وفقًا لقوانين العرض والطلب.
وربما كانت هذه الرؤية الأخلاقية المثالية - وهي رؤية لا تستقيم الحياة الإنسانية من دونها على أي حال - وراء جعل التعليم، بوصفه الوسيلة الأولية والجوهرية لنشر العلم، حقًا من حقوق الإنسان في العالم الحديث. وإذ صار التعليم أحد موشرات التحضر والتقدم في عالم اليوم، فقد حرصت كل الدول المتقدمة على ضمان وصوله إلى كل الناس. والتعليم يتعامل مع حقائق العلم التي استقرت، بمعنى أنه يتعامل مع نتائج العلم وليس مع العلم نفسه الذي تتعامل معه مراكز البحوث والدراسات بغرض اكتشاف ما لايزال مجهولاً من حقائق الكون والحياة. وبذلك يكون التعليم بمنزلة تدريب أولي لابدّ أن يحصل عليه الإنسان، سواء اتخذ العلم معاشًا وسبيلاً أم مضى في طريق آخر من طرق الحياة. ومن ثم، لابد أن نُخرج التعليم من إطار السؤال المطروح عن إمكانية اعتبار العلم ذاته - وليس فقط مخرجاته - سلعة يمكن أن تكون قابلة للبيع والشراء.
من يمول العلم؟
بيد أن هذه الرؤية الأخلاقية المثالية تتجاهل الكثير من الحقائق الموضوعية. فإذا لم يكن العلم «سلعة» يتطلب إنتاجها نفقات وجهدًا فما طبيعته بالضبط؟ وهل يمكن للعلماء أن يقوموا بعملهم من دون تمويل؟ ومن الذي يموّل الأبحاث والدراسات التي تنتج العلم؟ ولمصلحة من يكون الناتج المباشر للعلم أو ناتجه غير المباشر؟ ومن المستفيد من التطبيقات التكنولوجية أو التجريبية للعلم؟ أوليست الجهات التي توفر للعلماء التفرغ لبحوثهم ودراساتهم بمنزلة «المشتري» لجهود العلماء ونتائجها أي «السلعة» التي ينتجونها؟
إن البحث العلمي يتطلب تمويلاً ورعاية بطبيعة الحال، كما أن عملية نشر نتائج البحث العلمي ذاتها عن طريق المدارس، والجامعات ووسائط النشر المتنوعة، ووسائل الإعلام، تتطلب تمويلاً. وقد مضى زمن العلماء المنقطعين في محراب العلم اعتمادًا على ثرواتهم الشخصية، إن وُجدت، أو رعاية أحد الحكام، أو الأثرياء. ومنذ القرن التاسع عشر الميلادي، عرفت الدنيا «العالم المحترف» الذي يعيش مما يدره عليه دخله من عمله في تخصصه.
ومن ناحية أخرى، كانت عمليات تمويل التعليم والبحث تتم من خلال الأوقاف في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية بالشكل الذي وفّر الكثير للعلماء والباحثين بحيث تميزوا بالجسارة والإبداع اللذين أنتجا هذا التراث العلمي المدهش. وفي عصرنا الحالي تقوم المؤسسات الأهلية والدول والمنظمات الدولية، بدرجات متفاوتة، بتمويل النشاط العلمي. وعلى الرغم من هذا، وربما بسبب هذا، يظل السؤال مطروحًا: هل العلم سلعة؟
أليس ما سبق دليلاً على أن العلم سلعة يبيعها «المنتج» - أي العلماء - لمن يطلبها، ولكن وفق أسلوب يختلف عن أساليب البيع والشراء المتعارف عليها في السلع العادية؟ إن نتائج «العلم»،ممثلة في التطبيقات التكنولوجية العسكرية والمدنية على السواء تدرّ أرباحًا طائلة.
هذه النتائج التي تتخذ على الدوام شكل السلعة هي «بضاعة» غير مباشرة يبيعها العلماء، بشكل غير مباشر أيضًا، في سوق الاستهلاك. وهو الأمر الذي يقودنا، مرة أخرى، إلى الجوانب العملية والبراجماتية في السؤال المطروح. ذلك أن العلم بحد ذاته يحتاج الآن - في ظل تعقيدات الحياة المعاصرة - إلى نفقات وتمويل، سواء في مرحلة البحث والدراسة، أو في مرحلة تطبيق النتائج التي توصل إليها البحث العلمي، وهو ما يحول العلم إلى سلعة غير مباشرة، أي أن نتائجه المتمثلة في الإنجازات والتطبيقات التكنولوجية والتي تباع باعتبارها سلعًا يمكن أن يكون مردودها جزءًا مهمًا من التمويل اللازم للبحث العلمي. بل إن الكتب التي تحمل الأفكار والاكتشافات التي يتوصل إليها العلماء تباع أيضًا، باعتبارها سلعة، وإن تكن سلعة من نوع خاص.
هل هو سلعة؟
وإذ كنا قد توصلنا في السطور السابقة إلى أن نتائج العلم، سواء كانت على شكل تطبيقات تكنولوجية، أو أدوات يستخدمها الناس في حياتهم اليومية، أو أسلحة تزود بها الجيوش وتستخدمها في حروبها، يمكن اعتبارها سلعًا على مستويات متفاوتة، وعلى درجات مختلفة من المباشرة أو عدم المباشرة، فإن السؤال لايزال مطروحًا حول العلم - بمعناه المجرد والبسيط - ولايزال ينتظر الإجابة. هل يمكن أن يكون «العلم» ذاته سلعة متداولة يمكن بيعها أو شراؤها؟
بقدر ما يبدو هذا السؤال بسيطًا ومباشرًا، بقدر ما نكتشف أن الإجابة صعبة ومركبة. إن أول ما يطرأ على الذهن - عندما يتم طرح هذا السؤال - صورة العلماء المهاجرين من بلادهم الفقيرة التي أنفقت من مواردها المحدودة على تعليمهم وتدريبهم، لكي يعملوا في بلاد غنية تأخذ علمهم في مقابل ما تقدمه لهم مما لم يجدوه في بلادهم الأصلية. أوليس هؤلاء نوعًا من باعة العلم الجائلين؟ أوليست «السلعة» التي يحملونها في أدمغتهم هي التي تفتح لهم أبواب العالم الغني؟
ورب قائل بأن العلم لا وطن له. ولكن ما يجري الآن من احتكار العالم الغني والدول المتقدمة للعلم، وحرصها على حجبه عن العالم الفقير، أو العالم النامي، أو العالم الثالث، أو الجنوب - أو ما شئت من تسميات - ما يجري الآن من احتكار العلم يكذب هذا القول الرومانسي الذي لا وجود له في عالم اليوم. والواقع أن العلم «المبيع» بهذه الطريقة - أو الذي يمكن بيعه لكل من يدفع الثمن في أي مكان - سلعة بكل ما تحمله هذه الكلمة من مضامين تجارية قد تبدو صادمة، وغير محترمة. ولكن ما يجب الانتباه إليه هو أننا نتحدث عن فروع العلم التي يمكن أن تكون لها نتائج تكنولوجية فقط.
إن تجربة وادي السيليكون في الولايات المتحدة الأمريكية، والتي تقوم ببساطة على اجتذاب كل العقول المتميزة للعمل في هذه المنطقة لمصلحة القوة الكبرى في عالم اليوم، تمثل الدليل الأكبر وليس الوحيد، على أن «أسلعة» العلم لا تصب في مصلحة الإنسانية كلها من ناحية، وتجافي الرسالة النبيلة المفترضة للعلم من ناحية أخرى. ومن هنا، فإن ضرورات السوق هي التي تتعامل مع فروع العلم التي يمكن تحويل تطبيقاتها إلى سلع حقيقية تباع وتشترى وتحقق مكاسب مالية ضخمة تزيد من سيطرة الشركات عابرة القارات والقوميات على السوق. وتسعى هذه إلى تحويل العالم إلى منطقة للنخبة يمكن اجتذاب كل العقول التي تحمل «السلعة» المطلوبة إليها، ومنطقة أخرى تعتمد على الأيدي الرخيصة تقام فيها المصانع لتكون قريبة من أسواق الاستهلاك المدني أو السلمي، أو مناطق أخرى لإشعال الحروب الصغيرة لتوزيع ما تنتجه المصانع العسكرية من سلاح. وفي الحالين يكون الناتج السلمي والعسكري بفضل العقول التي تحمل «السلعة» المطلوبة - العلم.
احتكار المعرفة
إن دعاوى «العولمة» لمصلحة الرأسمالية المتوحشة، عابرة القارات، والقوميات، والتي تبشر بعالم بلا جذور، أو تراث، أو هوية (لأن المبشرين بهذا يزعمون أن التراث أو الهوية تم اختراعهما مرة، فلماذا لا يتم اختراعهما مرات ومرات، كما يزعمون أن للإنسان جذورًا وأجنحة، وأنه يمكن أن يطير بالأجنحة إلى وطن جديد تكون له فيه جذور جديدة، وهو أمر يمكن - في زعمهم - أن يتكرر مرات ومرات). وهذه الدعاوى تجعلنا نشك كثيرًا في مقولة «أن العلم لا وطن له». إذ إن احتكار المعرفة العلمية لمصلحة القوى الكبرى والمجتمعات الغنية التي تحجبه عن الدول الأضعف والأكثر تخلفًا يجعل هذه المقولة نوعًا من اللغو الشرير في ثياب رومانسية. أليس العلم في هذه الحال سلعة قابلة للاحتكار من جانب القوى الكبرى؟
فهل يمكن أن نستمر في تصوير شرور أسلعة العلم دون أن نضع في اعتبارنا ما تفرضه الظروف التاريخية الموضوعية للعالم المعاصر الذي نحيا في رحابه من ضرورات؟ هل يمكن أن نستمر في التمسك بالصورة الرومانسية الأخلاقية للعلم والتي تكاد تقترب من تقديس العلم باعتباره وسيلة الإنسان لإعمار الكون ووسيلة لخلاص البشر من إسار الجهل واستبداد الطبيعة؟
وإذا كان السؤال المطروح يتعلق - حتى الآن - بفروع العلم يمكن تحويل منجزاتها إلى سلع أو بضائع ومنتجات يمكن التعامل معها بآليات السوق بشكل أو بآخر، فماذا عن فروع العلم النظرية التي تتناول ما اصطلح على تسميته البحوث والدراسات الإنسانية والاجتماعية؟
هناك حقيقة ساطعة مؤداها أن هذه الفروع من العلم لا تحقق نتائج مادية مباشرة مثل فروع العلم الفيزيقية والكيميائية والرياضية، ولكنها أيضًا لاتزدهر إلا في بيئة علمية مزدهرة بشكل عام. ومن ناحية أخرى، فإن هذه الفروع الإنسانية والاجتماعية لا يمكن استيراد فلسفاتها، أو منظورها، من مجتمع لآخر. صحيح أن العلماء المتخصصين في هذه الفروع يهاجرون، أيضًا، من المجتمعات الفقيرة إلى المجتمعات الغنية، ولكنهم يعملون وفق حاجات المجتمعات التي هاجروا إليها، ويستخدمون المنهج والأساليب البحثية التي رسخت في هذه المجتمعات. بيد أنهم أيضًا يبيعون «السلعة» التي تحملها عقولهم، وهكذا، فإن فروع العلم الإنسانية والاجتماعية، أيضًا، صارت سلعة متداولة، وإن كان ذلك بشكل غير مباشر، وأقل وضوحًا مما هو عليه الحال في فروع العلم الأخرى.
حساب المكسب والخسارة
إن القول بأن العلم سلعة ربما يكون صادمًا، ولكنه يجب أن يكون كاشفًا. ومن هنا يجب التعامل مع العلم على أساس واقعي وعملي، فإذا كان العلم سلعة - وهو كذلك في رأيي - فيجب حساب تكلفته وحساب عوائده، ومدى المكسب والخسارة المتحققة من ورائه. فلم يعد العلم مشروعًا فرديًا بأي حال من الأحوال، وإنما صار مشروعًا مجتمعيًا يسعى المجتمع من ورائه لتحقيق مكاسب مادية، وحضارية، ومعنوية. ومن هنا، فإن المجتمع الذي يعلم أبناءه يجب أن يستفيد من علمهم، لا يتركهم يهاجرون إلى بلاد تستفيد من العائد دون أن تتحمل شيئًا من نفقات التكلفة. كما أن منطق «أسلعة» العلم الذي فرض نفسه على العالم المعاصر يفرض على المجتمعات منطق «منافسة السوق» بالتالي، وهو ما يعني أن على كل جماعة بشرية أن تكون لها «سلعة» يمكن أن تدخل بها حلبة المنافسة (تأمل ما فعلته الهند في مجال الكمبيوتر، وما يجري من محاولات لمنع بعض البلاد من دخول حلبة المنافسة في المعرفة النووية).
إن القول بأن «العلم سلعة» ربما يكون طعنة قاتلة للرومانسية والنظرة الأخلاقية، ولكنه يدعونا إلى إعادة النظر في مسلمات ورثناها عن الماضي، فالواقع أن «العلم من أجل العلم» لم يوجد أبدًا في تاريخ البشرية، فقد كان هناك على الدوام هدف يسعى العلم وراءه من ناحية، كما أن العلم المجاني لم يوجد أبدًا في تاريخ المجتمعات الإنسانية من ناحية أخرى.
فقد كان العالم المنقطع للعلم، باستمرار، بحاجة إلى من يرعاه وينفق عليه. كما أن الاكتشافات العلمية كان لها مردودها وعائداتها باستمرار - بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر - وكانت كتابات العلماء وأبحاثهم (بل وكتابات المؤرخين وإبداعات الشعراء) تهدى غالبًا إلى الرعاة والحُماة من الملوك والأباطرة والسلاطين والأثرياء. ولكن هل نترك العلم «سلعة» قابلة للاحتكار في سوق العولمة؟.