مختارات من:

حبل الوداد

خليل الجيزاوي

تهز رأسك مُتعباً، حزيناً، تنفض عنها هذه الأفكار السيئة دفعةً واحدةً، تُدرك أن الولد خياله واسع مثلك؛ لذلك هو يقفز من اللحظة الآنية إلى فضاء الزمن، يتجول فيه، يسبح مع من يهوى، يُحب أن يستدعيه لزمنه الحالي، لكن حين تُمعن في كلام الولد، يتحول شكك إلى يقين؛ لأن كل ما يقوله، يتخيله، يحلم به، يتحول إلى إدراك حقيقي! هل ينقلك الولد إلى ماض جميل تُحبه، تهواه؟

كلما تنظر للولد، تتأمل تفاصيل ملامح وجهه، ترى الطفل الذي كنته، تتذكر كلام جدك:

إذا أردت أن ترى نفسك صغيراً، انظر إلى أقرب أولادك شبهاً لك!

تبتسم للتفاصيل الصغيرة المُتشابهة بينكما، تلحظ تصرفاته البريئة، تهمس لنفسك:

هل كنتُ بريئاً لهذه الدرجة!

لا تزال تقبض على مواقف، ذكريات كثيرة، تفاصيل محددة في تلافيف الذاكرة، تُطل على براءة سنوات الطفولة، أشجارها الخضراء تقف عليها عصافير الجنة، ترقبها، تُغرد معها عبر نافذة نور الصباح لاتزال تحيا، تعيش هذه التفاصيل، عبر تلك السنوات البعيدة/ القريبة، ترفض أن تُغادر أرضها، زمنها، على الرغم من اشتعال رأسك بالشيب المُبكر، تُردد لنفسك هامساً:

أنا الطفل الأشيب!

تطرب كثيراً، متى تسمع الآخرين وهم يؤكدون، أنك برئ، المدينة المتوحشة لم تنل منك، لم تلوثك بعد! أنك تعيش وسط أهل المدينة/ القاهرة الذين قست قلوبهم مثل الحجارة، بطيبة أولاد البلد، على الرغم من كثرة المؤامرات التي تحاك ضدك بليل أسود غشيم، بتدبير أولاد الأفاعي.

صوت جدك لا يزال يتردد داخلك:

ماء النهر طاهر دوماً؛ لأنه يغتسل من الأدران التي تُلقى فيه أولا بأول!

تبتسم للولد الذي يُشبهك كثيراً، تهمس مُؤكداً:

نعم التاريخ كائن حي، شجرة مورقة، أحداث تجري منذ زمن بعيد، لا تزال تجري في دمائنا، نتنفس رائحتها في لحظتنا الراهنة؛ لأنها تتكرر باستمرار!

هل دُهشت حقاً لكلام الولد؟

أبي... أبي لقد رأيت جدي!

مُندهشاً تتسع عيناك، الولد يُواصل كلامه فرحاً:

ضمني لحضنه قائلا: إنك تُشبهني كثيراً!

حطت طيور الجسد واهنةً، مزقت بالونة أحلامها سكين الولد، خيوط من عرق بارد، تسيل على الخدين،

خلف الأذنين، يدك تتشبث بيد الولد، تقعد به، تأخذه في حضنك، دقات القلب تتلاحق بسرعة، تضمه أكثر،

بما تبقى من عافية، هل أدركت وجعك؟ هل أحسست بالسكين البارد الذي استل روحك؟

خائفاً مفزوعاً تضم الولد، تُخفيه بذراعيك، تهمس بهلع:

ماذا تعني هذه الزيارة؟

يُفرفر الولد بين ذراعيك، يُواصل كلامه:

قال جدي: أعرف أن أباك مُغرم بالقصص، فهل قص عليكم قصة ذبح إسماعيل؟

إنها أول قصة تعلمها في المدرسة، في المساء قصها علينا، بتفاصيل مُدهشة، مُشوقة، كنا نتحلق راكية النار في ليلة شتوية باردة، نأكل حبات الجوافة، يتعارك أبوك على حبة الجوافة ذات القلب الأحمر!

مُندهشاً تهمس لنفسك: هل رأى الولد جده حقاً؟

لقد ذكر واقعة حقيقية، لم تُخبره بها من قبل! ماذا يحدث بالضبط؟

والدك مات في ديسمبر 1974، وقتها كنت بالصف الثاني الإعدادي، نحن الآن في ديسمبر 2006.

تضرب كفاً بكف! مُردداً:

هل رأى الولد جده حقاً؟ أم رآه في تفاصيل ملامحك؟

حين أكملت الأربعين، كان كل صاحب من أصحاب والدك، كلما يُقابلك عقب صلاة الجمعة بالجامع الكبير، في زياراتك المتباعدة لقريتك، يأخذك في حضنه باكياً، يقول بود، ومحبة، والدموع تملأ عينيه:

سبحان الله! لقد أصبحت تُشبه والدك تماماً!

يتأملك مرة أخرى، قائلا:

حتى تسريحة شعر أبيك الناعم للوراء!

بود زائد يمسك يدك، يجذبك إليه مُؤكداً:

نأكل لقمة مع بعضنا، أنت ابن الغالي!

تجد نفسك تتعلل بالسفر للقاهرة، الشغل، الأولاد، تُعقب مُؤكداً:

إن شاء الله الزيارة المقبلة يا عمي!

يحضنك مرة ثانية، وهو يبكي، تجد نفسك تبكي في حضنه مثل طفل صغير!

كان أبوك يعشق صيد السمك، كثيراً تراه يتردد على البحر الكبير، تجده ينصت لليمام، يُردد خلفه لحنه الحزين، تراه ينظر للبراح الواسع الأخضر، على مدد الشوف، وقد تعلق بالسحاب الأبيض، يضمك هامساً:

آه يا ولد! لو خلق الله لنا جناحين مثل الطيور!

تضم الولد لحضنك هامساً:

الآن أنت تُحلّق مع طيور، عصافير الجنة، ماذا تريد من الولد يا أبي؟

تتذكر كلام جدتك:

احذروا زيارة الميت لأولادكم!

خائفاً مرعوباً تضم الولد لصدرك، تُغمض عينيك خشية الآتي، تهم أن تسأل الولد:

هل أمسك جدك بيدك وهو يُغادر البيت؟

لكنك لم تستطع؛ لأن الولد تملص منك وفرّ من حضنك، وقف بعيداً يرقبك مُندهشاً، حائراً!

تنكفئ على نفسك مُحاسباً، مُعاتباً، لائماً، هامسًا:

ماذا أخذت من ضجيج العاصمة، الأضواء، بعض الشهرة، حرقة الدم في دوامة العمل التي لاتنتهي، كثرة الهواتف التي تُلح عليك بقضاء حوائج الناس. اخترت أن تعيش وحيداً وسط عشرة ملايين يسكنون القاهرة كغرباء، طلعت من الدنيا بابنتين وولد، ها هو والدك يزورك بعد اثنين وثلاثين عاماً، يقص على ولدك قصة إسماعيل!

لقد قصصت عليه مئات القصص التي تعلمتها في المدرسة، فلماذا اختار قصة الذبيح إسماعيل؟

يا لقسوة فرّ، كرّ السنين، الأحلام الخضراء طيبتها نيران الاحتراق بفقد الأحبة، براح سنوات الطفولة اختزلته الأيام في شقة مُضاءة بالنيون، لا تعرف الفرق بين ليل أو نهار، كثيراً ما يفاجئك الولد، أيام الأجازات، مُتسائلا: هل طلع الصباح؟

آه من عذابات الشوق، غياب الأحبة، لو كنا ندري بهذا الرحيل، الفقد المبكر، كنا تزودنا أكثر، ملأنا العينين، الصدر، بمحبتكم، فهل الشوق هو الذي دفعك يا أبي للزيارة؟

دامعاً تقف مُواجهاً بابه الحجري، تقبض على يد الولد، اليد الثانية تمسح غبار السفر المفاجئ، تُواجهه:

السلام عليك يا أبي في دار الحق!

أنت تعرف أني أحبك!

تشهد أنك ما غضبت مني يوماً!

يشهد أصحابك أني الابن البار بك؛ لأنك أستاذي الأول وصاحبي!

الجميع يحسدوننا على علاقتنا الحميمة! دائماً كنت أنا بيدك، في الجامع، الشارع، الأفراح، المآتم!

تماماً أفعل مع الولد ما تعلمته منك، الصحبة وحسن النصيحة!

هذا ولدي الوحيد، هو يُشبهك كثيراً!

إنه يحمل اسمك، أليس هذا دليلا على امتداد حبل الوداد بيننا!

عفواً يا أبي ها أنا أبادر بالزيارة! سأكررها كثيراً!

عفواً يا أبي من هذه اللحظة زيارتك لنا لم تعد تُسعدنا!

نعم أحبك، لكن حبي للولد أشد، هل تريد أن أكرهك؟

نعم يا أبي، كُف عن هذه الزيارة الـ.....!

حتى لا ينقطع حبل الوداد الذي يربطنا!.


أهم بتمزيقِ تلك القصيده
أودُّ لو أن القصيدةَ تمسي
هباءً ذَرَتْهُ أكفُّ الرياحْ
أودُّ لو أن القصيدةَ شيئًا
يموتُ ويطمرُ في قاعِ رمسٍ
و تضحكُ من حنقي يا حبيبي
و ثورةِ نفسي
و تمضي بمكرٍ لذيذٍ بريء
تؤكدُ لي أن أجمّلَ شعري
وألْطفَ شعري تلك القصيده

فدوى طوقان

خليل الجيزاوي مجلة العربي مايو 2007

تقييم المقال: 1 ... 10

info@3rbi.info 2016