كان أنف فيروز.. مثل أنف كليوباترا عاملًا حاسمًا في حياتها الشخصية والعالمية وكذلك في فنها الذي سحر الناس.
كانت عملية التجميل التي خضعت لها فيروز على يد البروفسور داود في مستشفى «أوتيل ديو» ببيروت، بمنزلة المفترق الذي يصلح لتأريخ بداية نجاح فيروز في تحقيق ذاتها، واتخاذ القرارات الخاصة بها وبفنها بعيدًا عن سلطة العائلة وتدخلات عاصي ومنصور. ويستشهد الكاتب وائل سنو في دراسة له برأي كتبه رياض جركس في معرض تأريخه لحياة فيروز جاء فيه: «أصر الأستاذ على رفضه، وتمسّك التلميذ بموقفه. كانت المرة الأولى، التي تتخذ فيها موقفًا على هذه الدرجة من القوة. كان على الأستاذ (عاصي) أن يخضع في النهاية وأجريَت العملية. لقد استعادت (فيروز) من المطربة صباح بعضًا من أسلوبها وقرّرت أن تصبح أكثر أناقة».
هذا الكلام الذي يبدو أن فيه تحاملاً على زوج فيروز، الراحل الكبير عاصي الرحباني، قد لا يكون دقيقًا، لاسيما في التفاصيل. ربما أن عاصي خاف على زوجته من العملية، ومعروف خوف عائلة الرحباني الشديد من السفر والحروب وكل مستلزمات العمليات الجراحية. أما وأن زوجته أصرّت على ذلك، فمن الأرجح أن يكون قد وافق على الأمر من دون أن تكون هناك معركة «كسر عظم» معنوية بينهما، والدليل على هذا أن عاصي لازم فيروز كظلّها في المستشفى ونام عندها في الغرفة الليلتين اللتين أمضتهما هناك. فلو كانت الأمور على ما ذهب إليه القائلون إن العملية كانت تحديًا لاختار عاصي أن تنام شقيقته، أو شقيقة فيروز، المطربة هدى، عند زوجته في المستشفى. أكثر من هذا، أخبرتنا طبيبة كانت يومها طالبة عند البروفسور داود، وزميل له في مجال التجميل هو البروفسور مسعود، أن عاصي الرحباني كان يمضي الساعات في المستشفى ممسكًا بيد فيروز، مخففًا عنها، وربما عن نفسه أيضًا، هو الشديد الخوف كما قلنا!
وبصرف النظر عن حكاية الأنف تلك، فإن مسيرة فيروز الشخصية والفنية تحتاج إلى أكثر من وقفة، وفي أحيان كثيرة إلى أكثر من توضيح.
أسرة متواضعة
في البداية هي مولودة في عائلة متواضعة، والدها، وديع حداد، كان قد جاء في العام 1924 من الناصرة في فلسطين إلى بيروت، هربًا من بعض المشاكل المالية، التي عانى منها، وبدأ عمله في جريدة «لوجور» متقاضيًا أجرًا بسيطًا، واختار منطقة «زقاق البلاط»، أحد أحياء بيروت الشعبية، مقرًا لإقامته. وعندما تزوج من ليزا بستاني، كان مقيمًا في منزل متواضع حيث ولد أولاده الأربعة وهم: نهاد، جوزف، هدى وآمال.
ابنته البكر نهاد، التي أصبحت لاحقًا فيروز، أبصرت النور في الواحد والعشرين من شهر نوفمبر 1935، التي تذكّرت لاحقًا، أيام طفولتها، مؤكدة أنها كانت أيامًا سعيدة، «مع أن معطيات السعادة لم تكن دائمًا موجودة (...) فلقد كان منزلنا يتألف من غرفة واحدة، وكنا نتشارك مع الجيران في مطبخ مشترك»!
وتؤكد المعلومات أن مَن اكتشف موهبتها في البداية، كان الفنان محمد فليفل، في العام 1947، وليس الفنان حليم الرومي، كما هو شائع، وإن كان الرومي هو الذي قدّمها للإذاعة بعد أن استمع إليها تؤدي أغنيتين لفريد الأطرش. وعرض عليها راتبًا شهريًا بقيمة مائة ليرة لبنانية، فذُهلت نهاد، ابنة الرابعة عشرة تقريبًا، بهذه الثروة.
في البداية كانت تعرف باسم فني هو «بولا» أو «فتاة الجبل»، لكن الفنان حليم الرومي اقترح عليها أن تختار اسمًا من اثنين: شهرزاد أو فيروز. أكثر من هذا فإن الرومي هو الذي عرض عليها أن يقدمها للفنان عاصي الرحباني، لكنها تهيبت الأمر، كما يقول الرومي في مقابلة مع مجلة «المجلة» في العام 1981، فقالت إنها لا تحب أن ترى الرجل لأنها لا تستلطفه، فقلت لها أن تذهب لتستفيد من موسيقاه وليس لكي تتزوجه!
هكذا بدأت الرحلة التي ستحوّل الفن اللبناني، لا بل الفن العربي، تحويلاً جذريًا، لا يمكن لأحد إنكاره، ذلك أن الأخوين رحباني تحوّلا إلى مدرسة تركت بصماتها على الموسيقى والغناء العربيين، من خلال صوت فيروز الذي أطلق الأغنية اللبنانية الحقيقية، بعد محاولات خجولة، من خلال أغنية «عتاب» (1952).
زواج فيروز وعاصي حدث في العام 1953 لتتكرّس العائلة الرحبانية المميزة بأضلاعها الثلاثة: عاصي ومنصور، شعرًا وموسيقى، وفيروز غناء ساحرًا صنع كل هذا المجد على امتداد كل هذه العقود والأجيال!
كلام كثير قيل عن هذا الزواج الذي اعتبره البعض زواج مصلحة. لا بل إن هناك مَن زعم أن فيروز لم تكن تحب عاصي، بل هي وافقت على الزواج «لأن فيه مصلحتهما معًا». كما قالت إحدى صديقات فيروز، السيدة إقبال حمادة، في حديث صحفي. لكن مثل هذه المزاعم، قد لا تكون صحيحة، بدليل أن فيروز قالت أكثر من مرة، وفي أكثر من مناسبة: إن عاصي هو رجل حياتي، هو تاريخي وحاضري وهو مستقبلي!
بطبيعة الحال، كانت هناك بعض التوترات تسود العلاقة الزوجية، لكنها توترات من النوع المألوف في الحياة العادية، فما بالك في حياة فنانين لامعين ومبدعين مثل عاصي وفيروز؟
حتى الكلام الذي قيل عن تعرّض فيروز لضغوط وتضييق من قبل العائلة، فإن الرد عليه يكون دائمًا من الوقائع أولاً، ومن مصادر العائلة ثانيًا. فحريّة التصرف في الشئون الشخصية كانت متوافرة كما يعرف كل المحيطين بالعائلة. كذلك أكّد الراحل الكبير عاصي أن شقيقه منصور - أطال الله بعمره - هو الذي اقترح في العام 1963 أن تنعم فيروز باستقلال مالي أصبح واقعًا معمولاً به منذ ذلك الحين.
تشدد فني
أما بالنسبة إلى التشدد الرحباني، من الناحية الفنية، على فيروز، فمسألة مفهومة وقابلة للتفسير. فليس غريبًا على مبدع - كالأخوين رحباني - أن يظهر حرصًا شديدًا على كنز عمل على صقله وإبرازه طوال سنوات وسنوات، ومن الطبيعي أن يكون ضنينًا به ومستعدًا للدفاع عنه وحمايته تحت كل الظروف.
على هذا الصعيد، يروي الفنان الكبير يوسف شاهين في مقابلة معه نشرت في «ملحق النهار» في العام 1994، أنه خلال تصوير لقطة أغنية «تعا ولا تجي» في فيلم «بياع الخواتم» (1965)، تدخّل عاصي مؤنبًا فيروز على حركات قامت بها أمام الكاميرا، فما كان من شاهين إلا أن أبعد عاصي عن مكان التصوير، وعلّق على الأمر لاحقًا فقال: «ربما هم يفهمون أكثر مني في الموسيقى، لكن في مجال صناعة الأفلام، لا يمكن لأحد أن يتعامل مع نجومي بهذه الطريقة»!
حتى هنا فإن الحرص الفني على صورة فيروز، السفيرة العربية إلى النجوم، قد يفسّر تدخل الأخوين رحباني لإبقاء النجمة الكبيرة في الإطار الرفيع جدًا الذي صنعوه معًا هم الثلاثة: فيروز وعاصي ومنصور!
في هذا المنحنى نفسه يمكن تفسير إبعاد فيروز عن الغناء في المطاعم والحفلات الخاصة، ما أضفى هالة على الفنانة الكبيرة وجعل صورتها، في عيون المعجبين بها في كل العالم العربي، لا بل العالم الخارجي، تحاكي الحلم الجميل، لا بل الرائع. فهل يصح القول هنا إن الرحابنة قيّدوا حرية فيروز لأنهم لم يتركوها تغني في المطاعم وتحيي حفلات الأفراح والموالد؟!
والجدير ذكره هنا أن فيروز اخترقت هذه القاعدة، بموافقة الأخوين رحباني بالتأكيد، مرة واحدة في حياتها مع عاصي، وذلك عندما غنت أغنيتين في حفل زفاف صديقتها ناهدة فضل الدجاني، التي ظلت تعتز بذلك سنوات وسنوات وتفاخر به! أما إحياؤها لحفلات أمام شخصيات بارزة سياسيًا، عربيًا وعالميًا، فمسألة تستحق هي الأخرى الإعجاب، ولا يمكن أبدًا إنكار الدور الإيجابي الكبير الذي قام به الأخوان الرحباني في هذا المجال.
ففي العام 1965 مثلاً، رفضت فيروز أن تغني في حفل أقيم على شرف الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة، لمناسبة زيارته الشهيرة إلى بيروت. والسبب في هذا الرفض، كما يقول وائل سنّو، يعود إلى أن رئيس الجمهورية اللبنانية آنذاك، شارل حلو، كان قد اتفق مع الأخوين رحباني على أن يكون الحفل في كازينو لبنان، لكنه قبل الموعد بساعة واحدة، تم إبلاغ عاصي أنه جرى تغيير المكان، فرفض. أدت هذه الحادثة إلى إغضاب الرئيس بورقيبة فمنع طوال سنتين إذاعة أغنيات فيروز من راديو تونس، وذلك رغم أن الشعب التونسي هو من أشد المعجبين بالسيدة فيروز وبأغانيها.
لقد رفضت العائلة الرحبانية الغناء على غير مسرح كازينو لبنان. وتكررت الحادثة نفسها في العام 1967 عندما كانت فيروز في القاهرة، وصودف انعقاد مؤتمر قمة عربي، فطلب الرئيس اللبناني الراحل إلياس سركيس، من المطربة الكبيرة أن تحيي حفلة للملوك والرؤساء العرب في جامعة الدول العربية، فجاء الجواب بالرفض!
حتى في بداياتها نسبيًا، وتحديدًا في العام 1957، رفضت فيروز أن تغني في القصر الجمهوري في القنطاري، احتفالاً بزيارة شاه إيران الراحل، محمد رضا بهلوي لبيروت. ومع أن هذا الرفض أغضب الرئيس اللبناني كميل شمعون، لكن العلاقات بينه وبين العائلة الرحبانية استمرت جيدة جدًا!
الصورة.. الحلم
هذه الصورة.. الحلم التي رافقت فيروز طوال مسيرتها الفنية، رسخت مكانتها الخاصة جدًا في قلوب الناس، وهي مكانة لاتزال محفوظة حتى اليوم، رغم تغيّر الأجيال وتبدّل الأجيال الفنية.
ولاعجب والحالة هذه أن تكون فيروز، كما يؤكد وائل سنّو، أول مطربة عربية تظهر صورتها على شاشة التلفزيون السعودي، وذلك عندما أنشدت في العام 1966 لمكة المكرمة اللحن الذي يقول مطلعه: «غنيت مكة أهلها الصيدا / والعيد يملأ أضلعي عيدا».
وقد ظلت صورة «فيروز» البهية على تألقها في عيون جمهورها، حتى بعد غياب عاصي، وما أعقب ذلك الغياب من تساؤلات حول قدرة فيروز على الاستمرار الفني، لاسيما بعد انفصالها المكرّس فنيًا، عن العائلة.
والأمر الذي لابد من التأكيد عليه هنا أن تلك السيدة الكبيرة كانت وفيّة لاسمها ولمسيرتها المتألقة، من خلال التعاون مع العديد من الملحنين بعد غياب عاصي، ولاسيما مع فيلمون وهبي وابنها زياد الرحباني، وخصوصًا مع زكي ناصيف ورياض السنباطي، وإن كانت التجربة مع السنباطي قد تعثّرت لأسباب لم تعرف على حقيقتها حتى الآن!
والذين استمروا على وفائهم لفيروز، بعد غياب عاصي لمسوا قوة تلك السيدة العظيمة وقدرتها على ممارسة الخيارات الفنية، من خلال تجربتها مع ألحان ابنها زياد.
فمع أن الكثيرين من أساتذة التلحين والغناء والموسيقى في لبنان، ممن عايشوا فيروز، وجلهم تعاون معها، قد تحفّظوا عن تعاونها مع ألحان زياد، فإنها كانت واثقة من أن ألحان زياد الشاب ونفَسَه الجديد، لابد أن يوصلا فنّها إلى الأجيال الطالعة، كما أن ألحان والده وعمه منصور أوصلت فيروز إلى قلوب أجيال وأجيال متتالية. وبالفعل نجحت التجربة وأثبتت السيدة العظيمة أنها قادرة على الاستمرار، وعلى التجدد، وأن مسيرتها الفنية الطويلة، التي بدأت ذات مغامرة، قبل أكثر من نصف قرن، كانت مسيرة مباركة لم تزدها الشائعات والعواصف إلا رسوخًا فنيًا وتألقًا في العطاء.