مختارات من:

شروخ في المرايا

أبو المعاطي أبو النجا

قراءة نقدية في رواية
تأليف: الدكتور عبدالكريم غلاب


ومع أننا نسينا تلك الصدمة فإن المرآة سوف تبقى تذكرنا بأنها ذلك الوسيط الذي لا غنى عنه لرؤية شيء مهم فينا، ربما يكون أكثر الأشياء تعبيرا عنا، وعن حقيقتنا، وحين تكون هناك "شروخ في هذه المرآة" فمن الطبيعي أن تأتي الصورة مشوشة، وألا يكون ما نراه هو صورة وجهنا الحقيقي، أو وجه الحقيقة كما هي، ولعل هذا العنوان بما يحمل من طاقة رمزية تستدرجنا إلى سؤال بديهي عن هذه "المرايا" وعما نود أن نراه على سطوحها اللامعة المصقولة، وعن الشروخ التي فيها، هل هي شروخ طارئة أو هي جزء من طبيعتها؟ ثم ألا يوقع هذا العنوان ذاته بطاقته الرمزية في روعنا بأن هناك مرايا نقية صافية يمكن أن تعكس لنا حقائق الأشياء، وما يعنيه ذلك من أن هناك حقيقة واحدة، قد لا نختلف حولها لو أتيح لنا جميعا أن ننظر في هذا النوع من المرايا؟

سيرة حياة أم سيرة عقل؟

ربما يكون العنوان قد ورطنا في هذا النوع من التساؤلات ولن ينقذنا من الورطة سوى الدخول في عالم الرواية ذاتها، التي تأتي على لسان الراوي، الذي يتحدث في كل فصولها مرات إلى نفسه، ومرات إلى أصدقائه، ومرات إلى شخصيات نسائية يقع في حبها لأوقات تطول أو تقصر، ومرات إلى شخصيات هامشية عابرة ولكنها تمثل نماذج من الشخصيات المهمشة في مجتمعه، ووجود الراوي بهذه المثابة كشخصية محورية في كل الفصول تتفاعل مع بقية الشخصيات العابرة التي تظهر في أماكن مختلفة من مدينته، هذا الوجود لهذه الشخصية المحورية، بهذه الكيفية يكاد يجعل الرواية نوعا من السيرة الذاتية للراوي، ولكن طبيعة التجارب والأحداث والشخصيات والعلاقات التي يتوقف أمامها الراوي، هي التي تجزم بأننا لسنا بإزاء سيرة حياة تبدأ بالميلاد، وتحرص على تسجيل المواقف في سياق زمانها ومكانها، وتنتهي قبيل النهاية، بل نحن أمام سيرة حياة عقل، أضناه البحث عن الحقيقة، وسيرة حياة قلب يحاول الإمساك بما هو جوهري في العواطف الإنسانية، وفي مقدمتها الحب الذي تفجره المرأة ذات العينين الخضراوين مرة والمرأة ذات العينين السوداوين مرة أخرى.

أحداث الرواية إذن هي التي سوف تفصح عن نوع الحقائق التي يسعى الراوي إلى استجلاء صورتها في المرايا وسوف نكتشف منذ الفصلين الأول والثاني في الرواية مهاد الحيرة التي تهز عقل الراوي ووجدانه حول معنى الحرية والمسئولية بالنسبة للإنسان الفرد الذي يأتي إلى الحياة في لحظة ومكان لا يختارهما، فيجد نفسه في بيئة تبدو محايدة ولكنها تصوغ له حدود ما يستطيع أن يعرف، وما يستطيع أن يفعل، قد يجد نفسه دون إرادة ينتمي إلى سفح المجتمع أو قمته، فيشقى أو يسعد بشروط القمة أو السفح، فما معنى وما حدود الحرية والمسئولية بالنسبة له؟ ويستمع الراوي أحيانا من أصدقائه وأحيانا من صوته الداخلي، "أنه - مع النظرة الفاحصة - لا فارق جوهريا بين حظوظ أهل القمة يشقون بما لا يشقي به أهل السفح، كما أن أهل السفح يجدون السعادة في أشياء لا يسعد بها أهل القمة؟ وفي هذا نوع من العدالة الخفية التي قد يقنع بها البعض"، ولكن الراوي يجد في هذا النوع من التفكير مجرد حيلة شريرة يسعى بها أهل القمة لتبرير سكوتهم على وضع بائس لا يريدون أن يخوضوا مغامرة تغييره مادام بؤسه لا يمس حياتهم.

بهذه الروح الناقدة المتمردة يبدأ الراوي رحلة البحث عن الحقيقة في بهو المرايا الممتد طوال روايته، ربما لهذا السبب الكامن، وربما بلا أسباب قبل اختيار أبيه له بأن يلتحق بكلية الحقوق، لقد عانى أبوه مرة من مرارة الظلم، من اغتصاب الحق وضياع الحقيقة وحلم بأن يكون ابنه واحدا ممن يكتشفون الحقيقة ويدافعون عنها، كانت كلية الحقوق هي المرآة التي وقف أمامها لتكون دليله إلى الحقيقة، ولكنه بعد أن يتخرج في الكلية، ويتدرب في مكتب أحد كبار المحامين يكون قراره الحاسم هو ترك المكتب وترك المهنة كلها، فما درسه في الكلية، وما عاشه في المكتب وفي المحاكم وفي واقع الحياة، شيء يختلف تماما عن كل ما حلم به أبوه، وعن كل ما تمناه هو، إن مهنة المحاماة مثل أي مهنة، مجرد وسيلة لكسب العيش، والمحامي يتقاضى أتعابه سواء حكم القاضي بالبراءة أم بالإعدام؟ أما مسألة الحقيقة، فتلك قصة أخرى، إن على من يعنيه أمر الحقيقة أن يبحث عنها بأظافره حيث يمكن أن تكون، ودون حساب للأرباح والخسائر، ففي الوقت الذي نعمل فيه حسابا للأرباح والخسائر تكون الحياة نفسها، وليست الحقيقة فقط قد أفلتت من بين أصابعنا.

ومن هنا يفترق طريق الراوي عن طريق زميلته في الكلية ذات العينين الخضراوين التي حلم يوما بأن يواصل معها رحلة الحياة، كانت تواصل طريقها في الدراسات العليا وكانت ترى أن هذا الطريق المأهول الذي حفر مجراه منذ سنين في الجامعة أو المحاكم، والذي يقود السائرين فيه إلى قمة الدرجات العلمية أو قمة الوظائف العليا في المجتمع هو الذي يمكن أن يوصل إلى حقيقة يقبل بها أكثر الناس في زمن بعينه ومكان بعينه، الراوي إذن يبحث عن حقيقة أو عن حقائق تتجاوز ما تقنع به ذات العينين الخضراوين، وما قد يقنع به أبوه وأمه، ومع تعدد المرايا التي يقف أمامها نكاد نتلمس أبعاد ما يبحث عنه، أبعاد شخصيته التي تتكشف أمام أعيننا خلال الرحلة المضنية في بهو المرايا بل ونتعرف جذور ذلك الحس النقدي المتمرد الذي يرفض السير في الطرق المألوفة، ولو كانت مفروشة بالأمن والحب!

بداية الرحلة

إنه يقف أمام مرآة باعتبارها مكانا يمكن أن تكون الحقيقة ثاوية فيه، بين أوراقها الصفراء أو البيضاء، ولكن صديقه الذي يمده بهذه الكتب يروي له الوجه الآخر لصناعة الكتب، بل لصناعة الكاتب، بل وصناعة القارئ نفسه! ثم يطول به الوقوف أمام مرايا الدين، حيث يتجلى الدين في أكثر من مرآة، ومع الحس النقدي المتمرد تسقط الحدود الفاصلة بين الأديان في أكثر من مرآة، ويكاد يبصر والسيجارة تكاد تحرق أصابعه المعنى العميق في الديانة الهندوسية يخاطب الوقيدة الثالثة : "أنت القداسة نفسها، ستعبرين في لحظة مقدسة عن الحقيقة التي شقي الإنسان في البحث عنها منذ كان ولم يدركها، كل شيء إلى رماد، ومع ذلك نتعلق بالشيء نحتفل، نصارع من أجله، وهو سوف يستحيل إلى رماد، الهندوسي هو الذي أدرك الحقيقة فحول الإنسان إلى رماد تذروه الرياح، أو يختلط بماء النهر المقدس"!

من يدري فقد تزهر بخصوبته الأزاهير والورد، ولكن النار في مرآة صديقه الواعظ في مسجد المدينة كان لها دور آخر، يقول الراوي بحسه النقدي الساخر عن صديقه الواعظ : "شدني إليه وهو يعدد أنواع المنحرفين الذين ستلتهمهم النار حتى ظننت أنه جرد رضوان حارس الجنة من مهمته ليشتكي البطالة ككل الناس والملائكة الطيبين" ولكنه لا يلبث أن يلتقي صديقا آخر لا منتم ولكن له طريقته الخاصة في التدين ربما على طريقة رابعة العدوية، فهو يؤكد "لا أعبدالله طمعا في جنته ولا خوفا من ناره فإذا سأله الراوي كيف تعبر عن صلتك به وأنت لا تلتزم بالشعائر؟ يقول : "صلتي به سلوك، إيمان، حب، لا أريه في وجها كريها، ولا لسانا منافقا ولا يدا آثمة". وحين بتوقف الراوي أمام مرآة "الأيديولوجيا" متمثلة في صديق يساري تعود أن يمتح من آخر كتاب صدر عن هذه الأيديولوجيا، لا نكاد نشعر من خلال الحس النقدي الساخر للراوي أننا بعدنا كثيرا عن مرايا الدين كما تعكس صور العديد من المتدينين، كل ما تغير هو أن الجنة الموعودة هذه المرة سوف تكون على الأرض، أما الجميع فهم يبحثون عن نوع شارد من اليقين، عن نوع هارب من العدالة.

رحلة دائرية أم تطورية؟

لعل الرحلة في بهو المرايا مع الراوي هي التي تبتعث في نفس القارئ هذا السؤال: ألا يبحث الراوي نفسه من خلال حسه النقدي المتمرد عن نوع من اليقين؟ عن حرية تتخطى حدود الضرورة، حرية لا يضحى بها من أجل العدالة، وعدالة لا تدوسها سنابك الحرية؟ وأخلاق لا تحتاج لحراستها إلى سلطة الجند؟ ومن يرسم الحدود والخرائط لمثل هذه المملكة الموعودة؟ وهل تدخر لنا بقية المرايا في بقية الرحلة تخوم هذه المملكة الموعودة؟

لا يبدو أن الراوي يدخر لنا مثل هذا الوعد، فمع أن المرايا القادمة تكاد توحي لنا برحلة تطورية نتوقع خلالها أن تقل الشروخ وأن تصفو الصورة التي تنعكس في المرايا حيث ينتقل الراوي من مرايا الأيديولوجيا إلى مرايا العلم والسياسة والإعلام الذي يعتمد أحداث أدوات العلم ثم التصوف الذي يلجأ إليه الراوي هذه المرة هربا من نمطية العلم والإعلام، مع كل ذلك فإن الحس النقدي المتمرد والساخر يظل هو سيد هذه الرحلة ودليلها إلى الشروخ التي تضرب في كل المرايا، فحين يتوقف الراوي أمام مرآة العلم التي تقوده إليها هذه المرة ذات العينين السوداوين فإنه يكتشف المفارقة النابعة من الميل الإنساني إلى صناعة الأسطورة فمع أننا لجأنا إلى العلم لينقذنا من أساطير الماضي فإن الحاجات الإنسانية المتجددة هي التي تجعلنا ننسج أساطير جديدة من خلال العلم ذاته حول الحاضر وحول المستقبل، وأيضا يكتشف الحس النقدي أن الإعلام في هذا العصر يلعب دور العجل الذهبي المعبود في العصور القديمة، نصنعه ثم نصدقه ثم نعبده!

وحين يتوقف الراوي أمام مرآة التصوف التي لجأ إليها هذه المرة مزودا بالعلم وهاربا منه في الوقت ذاته حاملا شعارا كان يسخر في الماضي من قائله "كم من حاجات قضيناها بتركها" باحثا عن قوة جديدة يمنحها الاستغناء، كما تمنحها الشفافية، فإن الحس النقدي المتمرد عن الراوي هو الذي يفضح صاحبه حين يكتشف أنه يتطلع إلى استخدام ما يمنحه التصوف من شفافية لاكتشاف الحقيقة فيما يتصل برغبات عاطفية مقموعة في داخله منذ علاقته القديمة بذات العينين الخضراوين، ويبدو المشهد هنا وكأن العلم في داخل الراوي هو الذي يثأر هذه المرة لنفسه، على أن الحس النقدي للراوي يصل إلى ذرى عالية من السخرية الشفيفة حين يتوقف مرة أمام أسوار المدينة ومرة أمام مقابرها، ومن هنا تأخذ الرحلة طابع الدائرة، فأمام مرآة السياسة التي ترمز إليها أسوار المدينة ومظاهرات الطلاب في الماضي والحاضر، يضع مرآة الطبيعة المتمثلة في مقابر المدينة ونهر أبي الرقراق .. الثابت أمام المتحول.

ماذا تعني أسوار المدينة وحدود الوطن أمام مجرى النهر من البر إلى البحر؟ أمام الرياح العاصفة، وفيضان نهر جارف، وهجرات البشر عبر التاريخ من الصحراء إلى الوادي؟ عن أي منطقة في عقل الراوي كان يعبر ذلك الحكيم الذي قال: "ما ترك من الحمق شيئا من أراد أن يظهر في الأرض غير ما أظهره الله!"

وكيف تحول اليأس في عقل الراوي إلى هذه السخرية المريرة التي لا تخلو من عذوبة حين وقف أمام المقابر : "في المقابر وحدها لا يستطيع الإنسان أن يمارس متعة السير دون هدف".

ملاحظة عابرة

ولن نشمر هنا عن ساعد الجد لنناقش التقنية التي اختارها الكاتب لبناء روايته، وكيف أن التنقل بين المرايا، وبالتالي بين القضايا، كان يبدو أحيانا وكأنه يفتقر إلى التلقائية والحيوية، بل وكأنه يخضع لمنطق العد والإحصاء، وأن صوت القضايا ونبض الفكر كان يعلو أحيانا على أصوات الحياة، ونبضات الشخصيات الإنسانية، حتى أننا لم نكن نجد الفرصة لكي نعرف نوع الملابس التي ترتديها أي شخصية ولا طريقة حديثها، كل هذه أمور لم يفعلها الكاتب ربما لأنه أراد أن يركز جهده فيما يعنيه وهو الآن ما يعنينا فلنتصرف إليه، إلى السؤال الأخير حيث يلوح أن الجميع هنا في هذه المقبرة قد حققوا أخيرا أهدافهم !

لماذا كل هذه الشروخ .. كل هذا الأسى؟

أهو عيب في المرآة .. أو في المنهج أو في الأدوات كما يقولون؟ أم هو فساد ضارب بجذور عنيفة في أرض الواقع، في نفوس الناس أو في حياتهم؟ أم هي نزوات الحس النقدي المتمرد الذي لا يصبر على رؤية دبيب التطور لما فيه من بطء قاتل أحيانا، ولأنه لا يظهر بوضوح ولا يمضي بسرعة إلا فيما هو بعيد عن الضمير الإنساني والقيم الإنسانية العليا؟ .. أم أن المرايا المشروخة هي الوعي الإنساني المحدود بطبعه، القاصر بحكم إمكاناته الطبيعية، والعاجز بالرغم من كل ما حققه من علم - أمام ما في الكون من مجهولات تزداد كأنما بتزايد المعرفة وأن المأساة الحقة تأتي من رغبة الإنسان العارمة في احتواء ما لا يمكن احتواؤه .. والإمساك بما لا يمكن الإمساك به والإحاطة بما يفوق حدود وعي الفرد في حدود عمره القصير، وتأتي أيضا من رغبة الإنسان التي هي في تخطي حدود الزمن الذي يقف الموت عند حدوده؟! ومن هنا فإن أصدق ما يوصف به العمل الجميل أنه مرثية شعرية لمأساة الإنسان بين طموح حاجاته وقصور قدراته، وهو موضوع قديم ولكنه من المحتم أن يكتبه كل أديب بطريقته في كل عصر!

أبو المعاطي أبو النجا مجلة العربي اكتوبر 1996

تقييم المقال: 1 ... 10

info@3rbi.info 2016