الدعاية والإقناع أثناء أزمة السويس
المؤلف: توني شو
انقضت هذا العام أربعون سنة على أزمة قناة السويس، التي بدأت بتأميم الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصرالقناة أثناء خطاب ألقاه في الإسكندرية في 26 يوليو 1956، وتطورت خلال أشهر الصيف من نزاع على قضية محلية ذات طابع قانوني بين مصر وشركة قناة السويس إلى تواطؤ بريطاني - فرنسي - إسرائيلي لإعادة احتلال القناة والإطاحة بعبدالناصر، وإلى صراع دولي في أوج الحرب الباردة هدد - في أحلك مراحل العدوان الثلاثي على مصر - بكارثة دولية. ولكنه أسفر - تحت الضغط الأمريكي والسوفييتي - عن انسحاب قوى العدوان الثلاثي من مصر قبل نهاية العام، ومهد الطريق أمام استقالة رئيس الوزراء البريطاني في مطلع العام التالي 1957.
وقد صدر أخيرا عدد من الكتب في بريطانيا عن الموضوع يكشف عن هشاشة الإمبراطورية البريطانية في تلك الحقبة، ويربط كل منها بطريقته الخاصة دور بريطانيا الشائن في الأزمة بتدهور النفوذ البريطاني في الشرق الأوسط، وبالتالي إفساح المجال أمام النفوذ الأمريكي للهيمنة على الإقليم. فقد كان الصراع على النفوذ في الشرق الأوسط محتدما منذ منتصف الأربعينيات بين بريطانيا والولايات المتحدة، ولكن تحت السطح في أغلب الأحيان. وجاء العدوان الثلاثي ليفتح الأبواب على مصاريعها أمام مناطق نفوذ أمريكية وأخرى سوفييتية، وبالتالي إلى تطور صراع شرس بين العقيدتين الرأسمالية والشيوعية - استمر حتى انهيار الإمبراطورية السوفييتية في بداية السبعينيات - أبرز أهمية إسرائيل كقلعة للغرب أمام التغلغل الشيوعي في الإقليم وأداة لتحجيم طاقات الأمة العربية، ومن هذا المنطلق يمكن ربط جميع الأحداث الجسام في الشرق الأوسط خلال السنوات الأربعين الماضية، مباشرة أو بشكل غير مباشر، بمضاعفات العدوان الثلاثي على مصر. فقد كسر الغزو الإسرائيلي لسيناء بموجب خطة "كاديش" بمساعدة عسكرية مباشرة من فرنسا، حاجز الخوف الإسرائيلي، ومكنها منذ ذلك التاريخ من ممارسة عقيدتها العسكرية الباطشة التي وضعها دافيد بن جوريون.
الجدل القومي
هناك اتفاق عام بين المؤرخين وعلماء الاتصال على حد سواء على أن وسائل الإعلام البريطانية لعبت دورا حيويا في الجدل القومي والدولي الذي دار حول سياسات حكومة إيدن إبان أزمة السويس. وقيل تصريحا أو تلميحا إن أزمة السويس عكست بوضوح سلطة الصحافة البريطانية ومسئوليتها. قيل إنه بالرغم من الضغوط الأخلاقية والسياسية العظيمة التي تعرضت لها لكي تلتزم بالخط الحكومي، تشبثت الصحافة بشجاعة بالدور الذي رسمه لها توماس ماكولي (مؤرخ وقانوني وسياسي بريطاني بارز في القرن التاسع عشر) في تعريفه للسلطة الرابعة في الدولة، وقامت بواجبها كرقيب على الحكومة وتلمست هواجس الشعب وشكوكه، وعكست بالتالي توجهات الرأي العام البريطاني بدقة.
غير أن كتاب توني شو يركز على إبراز سذاجة هذا الاعتقاد، وخطل الرأي القائل إن وسائل الإعلام البريطانية عكست بإخلاص التفكير الشعبي إبان أزمة السويس. فقد كانت الصحافة أعنف في توجهاتها من الرأي العام وأكثر تأييدا للحرب وبخاصة في الأيام الأولى من العدوان على مصر. فقد بينت استطلاعات الرأي وقتئذ أن أقلية من الناس أيدت موقف إيدن، بينما أيدت أغلبية الصحف البريطانية الحرب.
ويحاول المؤلف أن يدحض أيضا الاعتقاد بأن سياسة إيدن في العلاقات العامة - إذا كانت لديه أي سياسة على الإطلاق - كانت كارثة تامة. فقد كانت القناعة السائدة بين المؤرخين أن إيدن كان يجل تماما قوة العلاقات العامة وأهميتها.ونتيجة لهذه السذاجة وقصر النظر خسرت بريطانيا حرب السويس، ليس في جبهة القتال، ولكن على جبهة المعلومات. ولكن المؤلف يجادل بأن إيدن حقق - بالرغم من الخلل الواضح في سياسته الدعائية ومن أن تعامله مع وسائل الإعلام لم يكن احترافيا نسبيا - قدرا عظيما من النجاح باستغلال العلاقة الحميمة القائمة بين الحكومة و "فليت ستريت" شارع الصحافة البريطاني وقتئذ، للتأثير في توجهات الصحف واستغلالها بشكل غير سوي لخدمة أهداف الحكومة. فقد اعتزم إيدن من البداية حمل الصحافة والإذاعة على التصرف بموجب تفسيراته لـ"المصلحة القومية".
كان جمال عبدالناصر مدركا لقوة الدعاية وأهميتها، وسرعان ما أصبح أحد أمهر الدعائيين في الشرق الأوسط في الخمسينيات، الأمر الذي جعل حتى البريطانيين يكنون له احتراما حاقدا، ولكنه عميق لموهبته في الدعاية وقدرته على الاستحواذ على مشاعر الجماهير العربية. فقد أسفرت العلاقة التكافلية بين ظاهرتي حدوث ثورة في وسائل الإعلام المسموعة "الراديو" بعد الحرب العالمية الثانية وظهور القومية العربية الثورية في الإقليم، عن ازدهار دعائي كان له تأثير مباشر في سياسات الشرق الأوسط ومجتمعه. وكان عبدالناصر أول من أمسك بزمام الدعاية الإذاعية بإنشاء إذاعة "صوت العرب" سنة 1953 بمساعدة من وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية كما يقول المؤلف.
جذور الأزمة
تعود جذور أزمة السويس، أو الطلقات الأولى في معركتها بتعبير المؤلف، إلى تطور قدرات مصر الدعائية في العالم العربي التي استهدفت الغرب عموما والنفوذ البريطاني بشكل خاص. فقد أفشلت الدعاية المصرية جهود بريطانيا لتوسيع حلف بغداد بضم الأردن إليه. وزعزعت بالتالي النفوذ البريطاني في الإقليم. وكان إيدن ووزير خارجيته سلوين لويد قد تدخلا أكثر من مرة أواخر عام 1955 ومطلع 1956 لإقناع عبدالناصر بوقف نشاط مصر الإذاعي.ولم تفلح أجهزة الدعاية البريطانية في الشرق الأوسط (القسم العربي في هيئة الإذاعة البريطانية ومحطة الشرق الأدنى تذيع من قبرص) إلا في زيادة المرارة في العلاقات الأنجلو / مصرية.
رد إيدن بحظر بيع الأسلحة لمصر في الوقت الذي كانت فرنسا تسلح فيه إسرائيل، فاتجه عبدالناصر إلى الاتحاد السوفييتي وحصل في صيف 1955 على صفقة أسلحة عن طريق تشيكوسلوفاكيا مقابل القطن المصري. أحدثت صفقة الأسلحة التشيكية فزعا في الدوائر الغربية. وأصبحت بريطانيا ترى في عبدالناصر متآمرا يفتح الباب أمام التغلغل الشيوعي في الشرق الأوسط، حتى أن إيدن أخذ يفكر في التخلص منه بالبحث عن منافس ولكن السفير البريطاني في القاهرة همفري تريفيليان رد على إيدن بقوله أن لا منافس لعبدالناصر في مصر ولا بديل له.
الخوف من تغلغل الشيوعية في الشرق الأوسط جعل الولايات المتحدة وبريطانيا تقبلان بتمويل مشروع سد أسوان. الذي كان وقتئذ أكبر مشروع هندسي في العالم. ولكنهما عادتا وسحبتا عرضيهما. وليس من الواضح ما إذا كان تراجع الغرب نتج عن شكوكه في مستقبل مصر الاقتصادي وقدرتها على سداد ديونها، أم أنه كان عقابا لعبدالناصر على استمرار حملاته الدعائية ضد الغرب، ولمغازلته الشيوعيين في موسكو وبكين. ولم يكن لدى بريطانيا شك فيمن يقف فعلا وراء طرد الجنرال سيرجون جلوب باشا (ابو حنيك) قائد الفيلق الأردني الذي كانت تموله بريطانيا والذي كان ركيزة لنفوذها في الإقليم لعقود طويلة. لم يعثر جمال عبدالناصر على بديل لتمويل إنشاء سد أسوان العالي، الذي كان سيزيد رقعة مصر الزراعية بـ 850 ألف هكتار ويولد مقادير هائلة من الطاقة الكهربائية لمشاريع التصنيع، سوى عائدات قناة السويس. وفي 26 يوليو 1956 أعلن جمال عبدالناصر في خطاب جماهيري في الإسكندرية، اعتبره خبراء الدعاية البريطانيون قمة إبداعه الدعائي، عن تأميم القناة.
كان تأميم القناة لطمة قوية أطارت إيدن، ودفعته إلى قناعة بأن عبدالناصر عدو لدود بحجم موسوليني وهتلر "هدفه أن يصبح قيصر البقعة الممتدة من الأطلسي إلى الخليج، وركلنا خارج المنطقة بأسرها". وأصبح موقف خليفة تشرشل من جمال عبدالناصر:"إما هو أو نحن" و"لا يمكن أن يفلت دون عقاب" وأنه عقبه في سيبل تنفيذ السياسة البريطانية في الشرق الأوسط، ولذا ينبغي تنحيته.
كانت سياسة إيدن تعتمد على تمويه أهداف حكومته تماما، وترك لوسائل الإعلام مهمة إهاجة الرأي العام من أجل استعمال القوة ضد مصر، بينما تلتزم الحكومة ظاهريا بهدفها المعلن وهو العمل فقط من أجل استعادة السيطرة الدولية على القناة. فلو انكشفت أهدافه الحقيقية لأصيب قطاع واسع من الشعب، الذي اعتبره دائما غير السوي وغير المشروع في وسائل الإعلام بما في ظل ذلك استعمال أساليب ميكيافللية تتسم بالمكر والنفاق.
دور الصحافة البريطانية
كانت الصحافة البريطانية أداة حيوية، وإن لم تكن الوحيدة، التي استغلتها الحكومة البريطانية للاتصال بالرأي العام إبان أزمة السويس. فقد كان الإقبال على قراءة الصحف في منتصف الخمسينيات في أوجه.
لذا قامت حكومة إيدن بجهود مركزة للسيطرة على الصحافة - وجهود موازية للسيطرة على هيئة الإذاعة البريطانية وبخاصة القسم العربي - إبان أزمة السويس، أقوى بكثير مما اعتقده مؤرخو تلك الحقبة، بهدف خلق أجواء محبذة للحرب. فقد أملت الحكومة في أنها ستستطيع تبرير إجراء عسكري ضد مصر إذا ما بدا أن الرأي العام البريطاني يطالب بذلك في نظام ديمقراطي يتعين فيه على الحكومة الانصياع للرأي العام الذي تعكس الصحافة "الحرة" و"المستقلة" توجهاته.
ولكن إيدن اعتبر أفشل رؤساء الوزراء، من جورج لويد حتى جيمس كالاهان، في التعامل مع وسائل الإعلامية وإدارتها. هذا التقويم يركز على فشله أثناء حياته العملية بأسرها في تطوير قاعدة صحفية ثابتة في فليت ستريت، ناهيك عن أصدقاء، يمكن أن يعتمد عليهم.
ولذا كان من المنطقي أن يحاول السير انتوني إيدن تأمين اتصالات مع الصحافة عن طريق تعيين وليام كلارك، المراسل الدبلوماسي للأوبزرفر سكرتيرا صحفيا له. ولكن الخلاف سرعان ما دب بين الرجلين بسبب تدخل إيدن المتكرر في عمل كلارك واختلاف الرؤية بينهما في معالجة القضايا الصحفية. كان أسلوب إيدن في محاولة استغلال الصحف ساذجا وفجا في نظر وليام كلارك، ويمكن أن يكون خطيرا وذا نتائج عكسية، من ذلك أنه كان يستدعي رئيس تحرير الصحيفة التي تهاجمه لتوبيخه في وجه معارضة قوية من كلارك.
وعندما طالبته ال "ديلي ميل" في أكتوبر 1955 بإجراء تعديل وزاري على سبيل المثال، وصفها بالنازية، كما كتب جيمس مارجاتش مراسل ال "صنداي تايمز" في اللوبي البرلماني وقتئذ قائلا إن النقد الصحفي انهمر على رئيس الوزراء في يناير 1956 من كل الاتجاهات، بتهمة الارتباك والافتقار إلى الحزم. لم تكن هناك مؤامرة صحفية لإسقاط إيدن. ولكن كانت هناك توقعات أكبر من خليفة ونستون تشرشل وخيبة أمل واسعة لافتقاره إلى الثقة بالنفس في الشئون المحلية، كما يذكر مارجاتش.
أما وليام كلارك فكان أسلوبه في استغلال الصحفيين يعتمد على إطلاع نخبة من الصحفيين المتخصصين الأعضاء في اللوبي البرلماني على التطورات الحقيقية، شريطة ألا يعزى تسريب هذه الأخبار إليه. وأصبح اللوبي قناة اتصال الحكومة الرئيسية بالجمهور خلال الأزمة. ويقول كلارك إنه إذا توافرت للحكومة المهارات الضرورية، فإن نظام اللوبي يمثل أنفع أداة لتحديد طابع التقارير السياسية ولهجتها في بريطانيا. لأنه يمكن الحكومة من تسريب معلومات أو الإيحاء بأخبار دون أن تتحمل مسئوليتها أمام الرأي العام. وإذا أخذنا الطابع السري لاستراتيجية الحكومة حيال أزمة السويس، كان هذا النظام السري لبذر المعلومات هو ما يحتاج إليه إيدن.
غداة الإعلان عن تأميم قناة السويس أجمعت الصحف البريطانية - على اختلاف اتجاهاتها وولاءاتها الحزبية - على اتخاذ موقف معاد من عبدالناصر. فقد طالبت ال "ديلي ميل" بإعادة احتلال القناة عل الفور. ولكن إيدن أيقن أن أي عملية عسكرية ستحتاج إلى أسابيع من الاستعدادات، إضافة إلى إدراكه ضعف موقف حكومته القانوني ضد عبدالناصر ولذا سعى إلى وضع برنامج عمل للصحافة يبقى على الرأي العام مهتاجا في صالح الحرب دون أن تعزي إليه أو إلى حكومته دوافع هذا الاهتياج.
ولم يضيع إيدن وقتا طويلا. فقد استدعى إيفاراك ماكدونالد محرر الشئون الخارجية في صحيفة التايمز ونائب رئيس تحريرها للاجتماع به بعد ظهر 27 يوليو - أي غداة الإعلان عن تأميم القناة - فيما كان أول اتصال سري في سلسلة من الاتصالات مع عدد كبير من كبار الصحفيين استمرت طوال مدة أزمة السويس. وأصبح ماكدونالد يشكل من خلال "التايمز"، حجر الزاوية في سياسة إيدن لتجنيد الصحافة خلال الأزمة. فقد كان ماكدونالد في قلب الدائرة السياسية لمجموعة الصحفيين الدبلوماسيين في فليت ستريت، التي كانت ذراع وزارة الخارجية للدعاية، وهي المجموعة الوحيدة التي حاول إيدن على مر السنين التقرب إليها.
عندما اجتمع إيدن بماكدونالد حاول إقناعه بخطورة إجراء عبدالناصر وبحق الحكومة في استعمال القوة، فقد أراد أن تنعكس أفكاره في الافتتاحيات التي يكتبها ماكدونالد في "التايمز" دون أن تعزي إليه. بهدف تحريك حمى الحرب في البلاد. ولكنه خشية إخافة ماكدونالد فإن إيدن لم يخبره في هذا اللقاء عن مخطط غزو مصر للإحاطة بعبدالناصر.
لم يكن موقف التايمز من تأميم القناة بأي حال تصالحيا. ولكن بعد اجتماع ماكدونالد بإيدن اتخذت الصحيفة خطا متشددا معاديا لعبدالناصر محبذا استعمال القوة. وقد حملت الافتتاحيات التي كتبها ماكدونالد أو وليام هايلي رئيس تحرير "التايمز" شبها ملحوظا لما قاله إيدن لماكدونالد في أول لقاء بينهما بعد الأزمة، ليس في لهجتها العامة فحسب، ولكن حتى في التعبيرات التي استعملها إيدن.
الرقابة الذاتية
وقد اختارت الحكومة "الرقابة الذاتية" التي تفرضها وسائل الإعلام على نفسها بموجب نظام يعرف بـ "إشعارات - دي" D_ Notices تمنع محرري وسائل الإعلام من الترويج لأي خبر يتعلق بمسائل أمنية أو دفاعية تمس المصلحة القومية. ومما أغرى إيدن بالموافقة على هذا النظام سريته. بمعنى أنه يحظر على المحرر التلميح بأن المادة التي يقدمها كانت عرضة للمراقبة الذاتية. ثم إن النظام غير قسري ويمكن وصفه بأنه طوعي تماما. ولكن هذا تجاوز مزر الحقيقة، لأن من يرفض الالتزام به يعرض نفسه للعقاب بموجب قانون الأسرار الرسمية.
"إشعار - دي" الأول منع الصحف من التعليق على هدف الاستعدادات العسكرية. وفي 10 أغسطس شدد وولتر مونكتون وزير الدفاع على أهمية تقليل الصحف من أهمية استيلاء الحكومة على سفن تجارية. هذا الخبر ليس عسكريا ولا يعرض حياة أي جندي للخطر ولكنه يكشف عن نية الحكومة شن حملة كبيرة ضد مصر. لقد أصبحت الصحف البريطانية أكثر من راغبة في مراقبة نفسها. وحتى غالبية الصحف المعارضة لسياسة الحكومة أصبحت تتجنب أي نقد محدد لحجم التحركات العسكرية. وهكذا أسهمت الصحف البريطانية، كما يقول المؤلف، في حجب الصور الحقيقية عن الشعب الذي تجري الاستعدادات للحرب باسمه. الاستثناء الوحيد كان صحيفة مانشستر جارديان التي أشارت علانية إلى ورطة المحررين الذين أدركوا أنهم أصبحوا يساهمون في حجب سياسة الحكومة عن الشعب. غير أن "إشعارات - دي" لم تمنع نصف الصحف القومية "هيرالد، كرونيكال، مانشستر جارديان والأوبزرفر" من اتخاذ مواقف ضد الحرب محبذة عرض القضية برمتها على الأمم المتحدة.
عكست قرارات مؤتمر لندن للدول البحرية نجاحا أكيدا للحكومة البريطانية. فقد قرب المؤتمر بين الموقفين الأمريكي من ناحية والأنجلو - فرنسي من ناحية أخرى. وطالب مصر بالموافقة على إدارة القناة من قبل مجلس إدارة دولي، وأكد أنه لا يجوز إغلاق القناة لأسباب سياسية في وجه أي دولة تريد استعمالها. وقد صممت النقطة الأخيرة لرفع الحظر المصري عن استعمال إسرائيل لقناة السويس، في مسعى لتشويه سمعة عبدالناصر في العالم العربي.
ولكن جمال عبدالناصر رفض قرارات المؤتمر التي حملها إليه وفد الدول البحرية برئاسة روبرت منزيس رئيس وزراء استراليا. كانت القضية ستعرض عندئذ صوريا على مجلس الأمن توطئه لتوفير "الشرعية الدولية" للغزو الأنجلو / فرنسي. وفي 28 أغسطس حددت "لجنة مصر" السادس والعشرين من سبتمبر موعدا للبدء في تنفيذ عملية "ماسكتير" وهو الاسم الذي أطلق على خطة الغزو الأنجلو / فرنسي.
وكان جون فوستر دالاس وزير الخارجية الأمريكي قد حذر إيدن من أن مصر تسبق بريطانيا في الحرب الدعائية، وأن الزعيم البريطاني لا يستطيع ضمان تأييد الشعب البريطاني في حالة وقوع حرب. حفز هذا القول إيدن على وضع ضغط أعظم على الرأي العام المحلي من خلال وسائل الإعلام لضمان دعم ثابت للإجراء العسكري. كانت "التايمز" هي التي قادت الهجوم في افتتاحية مثيرة للجدل كتبها وليام هايلي رئيس التحرير بعنوان "نادي الهاربين". كان المقال - الذي أعرب فيه الكاتب عن خشيته من أن يوضع نزاع قناة السويس على الرف - هجوما مركزا على البريطانيين الذين يتشككون في سياسة إيدن، وبخاصة في حقه في استعمال الخيار العسكري.وقد أشعل مقال "نادي الهاربين"شرارة جدل حام في فليت ستريت ما لبث أن تحول إلى عداوة وازدراء. وبالرغم من أن "التايمز" لا تستطيع أن تدعي أنها نجحت في تغيير وجهة نظر أي صحيفة أخرى، فإن التأثير الإجمالي لتلك الحرب الصحفية هو إعادة قضية قناة السويس مجددا إلى قمة اهتمامات فليت ستريت. وهذا بالتحديد ما ابتغاه انتوني إيدن
بداية الحرب
في هذه المرحلة بدأ الدعم الشعبي لإجراء عسكري يتضاءل، بينما استمر قطاع كبير من الصحف يتخذ موقفا متشدد أكثر من غالبية الرأي العام. ولكن إيدن لم يستطع عمل شيء لتليين صحف العمال التي استمرت تدعم بقوة التسوية عن طريق التفاوض. ولعل أكثر ما أزعج رئيس الوزراء في هذه المرحلة إحساسه بوجود تضامن غير اعتيادي بين صحف المعارضة. فقد أقدمت "الديلي ميرور" على سبيل المثال على خطوة استثنائية بنقل مقاطع من افتتاحيات "الأوبزرفر" و"المانشستر جارديان" و"النيو كرونيكال" لدعم جهدها في معارضة الحرب. ويقول المؤلف إنه لا تتوافر أي دلالة على وجود تنسيق بين محرري هذه الصحف. وربما عكس مثل هذا التكتيك خشية الصحف منفردة من أن تتهم بالمطالبة بـ "استرضاء" ناصر، في الوقت الذي كان شبح نيفيل تشيمبرلين رئيس وزراء بريطانيا في الثلاثينيات الذي استرضى هتلر بغض الطرف عن مطامحه التوسعية هيمن على "فليت ستريت" بقدر هيمنته على البرلمان و"داوننج ستريت".
في مثل هذه الأجواء القاتمة كان وصول الجنرال الفرنسي شاليه نائب رئيس أركان سلاح الطيران الفرنسي إلى "تشيكرز" المقر الريفي لرئيس الوزراء البريطاني في 14 أكتوبر، مخرجا هبط على إيدن من السماء سينقذه من ورطته الدبلوماسية. فقد خشيت فرنسا أن يكون حماس إيدن للإطاحة بعبدالناصر أخذ يفتر، فتوصلت إلى فكرة التآمر مع تل أبيب لغزو سيناء حتى القناة، وخلق وضع يهدد الممر المائي الحيوي. وسيكون هذا التهديد مبررا كافيا للتدخل الأنجلو - فرنسي لإنقاذ القناة.
اقتنع إيدن على الفور بالمؤامرة الثلاثية. فهي من ناحية ستشوه ناصر وستحول دون تسريح الاحتياط البريطاني المحتشد في قبرص، ومن ناحية أخرى ستحول دون غزو إسرائيل للأردن التي ترتبط مع بريطانيا بمعاهدة دفاع. فقد اتسعت في هذه المرحلة صدامات الحدود بين إسرائيل والأردن ووصل التوتر مداه عندما دخلت القوات الإسرائيلية بلدة قلقيلية على الضفة الغربية في العاشر من أكتوبر 1956. وزاد هذه التوتر من قلق الحكومة البريطانية التي كانت تخشى أن تجد نفسها بموجب المعاهدة في حرب ضد إسرائيل وليس ضد عبدالناصر.
في 24 أكتوبر تم في موقع خارج باريس التوقيع رسميا على الخطة السرية، التي تحدد التاسع والعشرين من الشهر ذاته موعدا لبدء الاكتساح الإسرائيلي لسيناء. وكان مفتاح المؤامرة الثلاثية عسكريا وسياسيا، وعلى صعيد العلاقات العامة، هو السرية والمفاجأة. ولذا أحجمت الحكومة عن الاتصال بأصدقائها في "فليت ستريت"، لأنها كانت تدرك أن افتضاح أبعاد المؤامرة كان سيدمر حياة إيدن السياسية. ولكنها عملت على تسريب أخبار مضخمة للصحف عن عمليات الفدائيين المصريين داخل الأراضي الإسرائيلية، لإعداد الرأي العام البريطاني للتعاطف مع أي هجوم إسرائيلي انتقامي متوقع ضد مصر.
الاستثناء الوحيد كان إيفاراك ماكدونالد نائب رئيس تحرير "التايمز". إذ يبدو أن أنتوني إيدن أصبح يعتبر التايمز في هذه المرحلة أداة في يده أكثر منها صحيفة مستقلة. فقد أطلعه إيدن على خطة العدوان الثلاثي بالتفصيل في نفس اليوم الذي أطلع فيه مجلس الوزراء على الخطة. ولكن "خبطة صحفية" بهذا الحجم تأتيه جاهزة على طبق، كانت عبئا ثقيلا على كاهل ماكدونالد. فأي تسريب للخبر كان سيعني كارثة لبريطانيا. روع ماكدونالد ما كان يخطط له رئيس الوزراء، ولم يطلع عليه أحدا سوى رئيسه هايلي.
وفي الثلاثين من أكتوبر أعلن إيدن في البرلمان أنه سلم السفيرين المصري والإسرائيلي إنذارين بسحب قواتهما مسافة عشرة أميال عن ضفتي القناة لكي يتاح للقوات الأنجلو / فرنسية النزول لحماية الممر المائي الحيوي. ومن المفارقات المضحكة التي تعكس مضاعفات تقاعس الحكومة عن وضع سياسة دعائية منسقة في تلك المرحلة من أزمة السويس، أنه بينما كان إيدن يلقي خطابه في مجلس العموم، كان ناطق باسم وزارة الخارجية البريطانية يخبر الصحفيين أن سياسة بريطانيا حيال الغزو الإسرائيلي لسيناء، هي وضع الإعلان الثلاثي، الذي ألزمت الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا بموجبه أنفسها سنة 1950 بالتدخل في صالح أي طرف من أطراف النزاع العربي - الإسرائيلي يتعرض لهجوم، موضع التنفيذ. وما فهمه الصحفيون المذهولون من هذا التخبط أن الحكومة البريطانية تفكر في التدخل لصالح مصر. وقد دفع العدوان الثلاثي على مصر أنتوني ناتنج وزير الدولة في وزارة الخارجية إلى الاستقالة في الثاني من نوفمبر الأمر الذي سبب إحراجا قويا لإيدن ودفعه إلى مزيد من التخبط. اتصل بسكرتيره الصحفي وليام كلارك وطلب إليه أن يخبر الصحافة بـ "أن استقالة ناتنج لم تكن عن مبدأ ولكن لأنه كان خاضعا لعشيقته الأمريكية. على أي حال لم يكن طبيعيا هذه الأيام". إلا أن كلارك رفض تنفيذ طلب إيدن.
ولكن إيدن إذا كان تعلم شيئا من تعامله مع الصحافة خلال أزمة السويس، فهو خوف السلطة الرابعة الدائم من خيانة جنود الأمة أو التخلي عنهم وهم في سبيل التضحية بأنفسهم في الدفاع عن المصالح الوطنية، أو إعطاء انطباع بالتخلي عنهم. وقد مكن هذا الأمر الحكومة من إرخاء ستارة دخان على استعداداتها العسكرية خلال شهور الصيف، وأتاح لها استغلال الصحافة والتلاعب بها عشية العدوان. فقد أخبر الصحفيون أن إنزال المظليين في منطقة السويس سيتم فجر اليوم التالي الأول من نوفمبر. والحقيقة أن الإنزال بموجب خطة "ماسكتير المعدلة" كان مقررا بعد ذلك بخمسة أيام. يستخلص المؤلف تفسيرين مقبولين لهذا التضليل المعتمد، إما أن يكون ذلك جزءا من الحرب النفسية ضد مصر، وهي جزء أساسي من خطة "ماسكتير المعدلة" أو أنها خدعة لحمل الصحافة البريطانية على مختلف مشاربها، على دعم المقاتلين، وبالتالي الإجراء الحكومي.
ولكن "الديلي ميل" التي خرجت في الأول من نوفمبر بعنوان عريض "بريطانيا في حرب" عادت في اليوم التالي واعتذرت لقرائها. أما "الديلي إكسبريس" التي وصفت يوم 31 أكتوبر فكرة الفصل بين القوات المصرية والإسرائيلية في منطقة السويس بأنها فكرة غبية، عادت في السابع من نوفمبر ووصفت التدخل صراحة بأنه احتلال. وبغض النظر عن الدافع الحقيقي، يقول المؤلف إن ما حدث كشف عن محاولة فاضحة لتلاعب الحكومة بالصحافة من منعطف حرج.
استمر نصف الصحف البريطانية القومية الأكثر نفوذا وتوزيعا يؤيد سياسات إيدن بعد بدء العمليات العسكرية. ولكن النصف الآخر حمل عليه حملة شعواء مطالبا بـ "تخليص الحكومة من زعيمها والأمة من إذلالها" كما كتبت "الكرونيكال".
استمر العدوان الثلاثي أكثر قليلا من أسبوع، بدأت الأعمال العسكرية بغزو إسرائيل لسيناء في 29 أكتوبر في ما أسموه عملية "كاديش" بمساعدة قوية من فرنسا. في 31 أكتوبر بدأت الغارات الجوية الأنجلو - فرنسية على مصر. في 5 نوفمبر أنزل المظليون الأنجلو - فرنسيون في بورسعيد. وفي اليوم التالي أنزلت القوات المحمولة بحرا. في نفس اليوم أي السادس من نوفمبر قبلت الحكومتان البريطانية والفرنسية عند منتصف الليل قرار الأمم المتحدة بوقف إطلاق النار. وفي ديسمبر انسحبت قوات العدوان الثلاثي نهائيا من مصر. " ولم يخف الفرنسيون حجم المساعدات التي قدموها لإسرائيل في عملية "كاديش" فقد استعملت أسراب فرنسية تحمل شارات الحلفاء، المطارات الإسرائيلية وشاركت في الطلعات ضد المواقع المصرية في سيناء. وقصفت بارجة فرنسية بلدة رفح في قطاع غزة في دعم مباشر للعمليات الإسرائيلية. ولم تشترك الصحافة البريطانية في تغطية الحرب. فقد مرت ثلاثة أشهر دون أن تمنح الحكومة حوالي ثلاثين صحفيا رغبوا في مرافقة الحملة العسكرية التصاريح الضرورية. الصحفيان الوحيدان اللذان اختارهما الجيش لتغطية الحرب كانا دونلد أدجار من "الديلي اكسبريس" البريطانية، وهانسون بولدوين من "نيويورك تايمز" الأمريكية. ولكنهما بقيا على بارجة حربية خارج بور سعيد يرقبان المعارك من بعيد. أما بقية الصحفيين فقد ظلوا في قبرص. وكان بيتر وود من "الديلي ميرور"، الصحفي الوحيد الذي نجح في الهبوط إلى بور سعيد. فقد تمكن بلباقته من إقناع المظليين باصطحابه، ولكنه عندما هبط في مظلة واقية كسر كاحله وانتهى أمره كمراسل حربي. ولم تتوافر بالتالي للصحف البريطانية أو غيرها تغطية مباشرة لسير العمليات العسكرية. وتعين عليها أن تعتمد اعتمادا شبه كامل على ما توفره من معلومات.
كان قبول بريطانيا وفرنسا وقف إطلاق النار تحت تهديد الأمم المتحدة بفرض عقوبات اقتصادية عليهما، قبل أن تحتل قوات العدوان سوى ثلث القنال، وقبل أن يتحقق الهدف الخفي للحملة وهو الإطاحة بعبدالناصر، بمنزلة لطمة أفقدت إيدن وأعوانه صوابهم
ولهذا قامت "التايمز" بكل ما طلب منها. وطمست حتى الأدلة القوية التي حصل عليها مراسلها الدبلوماسي اليكساندر رانديل عن وجود تواطؤ، وبدأت منذ السابع من نوفمبر في نشر سلسلة مقالات تدعو إلى إنهاء الأزمة وعودة بريطانيا إلى حياتها الطبيعية، وإلى التمعن بصبر في ما حدث عوض البحث عن كبش فداء. كانت "التايمز" تريد من الشعب أن ينسى وأن يغفر لإيدن.
وكانت الصحف اليمنية ناولت تهمة التواطؤ، ولكن لتفندها وتنفيها. وبالقضاء على هذه التهمة ودفنها اختفى أي دور ذي معنى للصحافة في أعقاب أزمة السويس. كان على الحكومة أن تستسلم للمرة الثانية لمطالب الأمم المتحدة وتسحب قواتها من مصر. ولكن حتى صحف المعارضة لم تر في ذلك دليلا على إفلاس الحكومة الأخلاقي بشأن كل سياساتها المتصلة بالقناة، وفرصة للتشكيك في حقها في الاستمرار. ولكن ذلك لم يكن كافيا لإنقاذ إيدن. فقد أصبح في نظر المحافظين كبش الفداء الواضح لأنه أصر على أن يجعل النزاع مع عبدالناصر شخصيا وأراد بصبيانية أن يثبت فحولته حيال الزعيم المصري. في أواخر نوفمبر ذهب أنوتي إيدن إلى جامايكا للاستجمام بدعوى المرض. ولكن صديقه وحليفه اللورد بيفربروك الذي كان موجودا هناك لم يكلف نفسه عناء زيارته. فقد عزز ذهابه إلى جامايكا الشائعات بأنه ضعيف متخاذل يهرب من مواجهة واقع بريطانيا الجديد، وأفسح بذلك المجال أمام منافسيه السياسيين في حزب المحافظين - وبخاصة هارولد مكميلان - الذين أصبحوا يرون فيه عقبة في طريق عودة الحياة السياسية الطبيعية إلى بريطانيا واستعادة العلاقات مع واشنطن، لتعزيز مراكزهم أثناء غيابه.
عاد إيدن إلى بريطانيا في منتصف ديسمبر. وكان وقتئذ قد خسر السلطة عمليا في الحقيقة. فقد أكدت عدة أحداث محرجة في البرلمان بعدئذ أن يفتقر إلى التأييد الحزبي. وقد أقنعه ذلك مع استمرار تدهور صحته بالاستقالة في 9 يناير. ولم تبد الصحافة في "فليت ستريت" دهشة أو أسفا لذلك. فقد كان دورها في إسقاطه هامشيا.