"الذي لا يعرف كيف يتعلم من دروس ثلاثة آلاف سنة الأخيرة يبقى في العتمة" هذه هي دعوة الأديب الألماني الشهير "جوته" للانفتاح على تاريخ الحضارة البشرية وتمثلها. جاءت كمقدمة لعصر التنوير الذي أحدث تلك النقلة الهائلة التي يعيشها الغرب الآن. فالأفكار لا تولد من فراغ، ولكنها حصيلة خبرة بشرية متراكمة. وهذا هوالهدف الذي سعت له تلك الرواية التي نتعرض لها اليوم.. "عالم صوفي" فهي ليست رواية عادية، ولكنها رواية عن تاريخ الفلسفة بشكل خاص وتاريخ الفكر الغربي بشكل عام. مؤلفها الكاتب النرويجي "جوستاين جاردر" يعمل مدرسا للفلسفة ولعل هذا كان دافعه الأول لتأليف هذه الرواية التي تحاول أن تستعرض كل تاريخ التفلسف منذ أن حاول البشر أن يجدوا تفسيرا لظواهر الكون بواسطة الأسطورة إلى ظهور الفلسفة وصراع الأفكار والأديان حتى عصرنا الحالي. ولعل الذين يشاركونني نفس المرحلة العمرية يتذكرون كتاب "مباهج الفلسفة" الذي كتبه "وول ديورانت" مؤلف "قصة الحضارة" الشهير. لقد حاول في هذا الكتاب - كما يحاول مؤلفنا النرويجي المعاصر - أن يقرب الأفكار الفلسفية المجردة والصعبة، بأسلوب سلس وجذاب، لعامة الناس وقد اتبع في الكتاب أسلوب المحاورة الذي كان أفلاطون هو أول من استخدمه منذ آلاف السنين. واختار مؤلف "عالم صوفي" نفس الأسلوب بطريقة متشابهة. وجوستاين جاردر ولد في عام 1952 وعمل أستاذا في الفلسفة وتاريخ الفكر قبل أن يتجه إلى التأليف الروائي. ولم تلفت أعماله الأولى الأنظار. ولكن روايته الثالثة "سر الصبر"لفتت إليه الأنظار ونال عنها جائزة النقد الكبرى. ولم تواته الشهرة العالمية إلا مع "عالم صوفي: فقد ترجم هذا الكتاب إلى حوالي 38 لغة منها العربية وأثار حماسا في كل مكان نشر فيه خاصة في ألمانيا التي يغلب على قرائها المزاج الفلسفي حيث تعدت المبيعات مليون نسخة.
"لقد حاول المؤلف أن يقدم مدخلا سهلا إلى الفلسفة، التي هي أم العلوم، يتوجه للجميع، ويقدم منهجا جديدا غير المناهج التقليدية، فهولا يقتفي خطى كبار الفلاسفة فقط، ولكنه يمزج ذلك بالتأثيرات الفلسفية في مجال الفن والعلم والأدب، أي أنه يتتبع التغيرات التي تحدثها الفلسفة في حياة الإنسان العادي، ليؤكد أنه ليس فكرا مقصورا على الصفوة فقط ولكنه أداة فكرية لفهم العالم الذي يحيط به.
حيرة الأسئلة
وبطلة الرواية "صوفي" طالبة في الرابعة عشرة من عمرها تعيش مع أمها وحدهما لأن أباها دائم السفر حتى أنه لا يكاد يوجد. ونمط الأمهات الوحيدات أصبح شائعا في المجتمعات الغربية. وتبدأ الرواية برسالتين بلا توقيع تتلقاهما صوفي، كلتاهما تحتوي على سؤال واحد شديد الإيجاز.. "من أنت؟.. ومن أين جاء العالم"، إنها أسئلة الدهشة الأولى التي واجهت الإنسان البدائي وهو يحاول استكشاف عالمه. وتفعل هذه الأسئلة فعلها في صوفي الصغيرة التي كانت تحسب أن كل الأجوبة موجودة في كتب المدرسة أو في التلفزيون.. ويبدأ سيل من الأسئلة واحدا تلو الآخر كلها تأتي من فيلسوف مجهول يغير اسمه ومكانه باستمرار.
ولا تكون عقدة الرواية بمثل هذه البساطة، ولكن المؤلف يحاول استخدام حيل روائية أكثر تعقيدا حين تتلقى صوفي، بالإضافة إلى رسائلها الفلسفية، بطاقات بريدية قادمة من لبنان. بطاقات يرسلها ميجور نرويجي يعمل في قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في الجنوب اللبناني يرسلها إلى ابنته "هيلدا" التي هي في عمر صوفي تقريبا. بل وتعاني نفس تجربتها بسبب غياب الأب. وتظل هذه البطاقات غامضة المصدر حتى ندرك - في منتصف الرواية تقريبا - أن عالم صوفي كله ما هوإلا جزء من رواية يكتبها الأب العامل في قوات حفظ السلام وتقرؤها الابنة. وهنا تتداخل الخيوط في الرواية التي تصبح رواية داخل رواية أو بالأحرى يختلط منطق الحلم بمنطق الواقع. ويتعرض الكاتب إلى عقيدة الرواية بطريقة غير مباشرة حين يشير إلى كلمات الحكيم الصيني القديم تشوانج تسي الذي عاش حوالي عام 350 قبل الميلاد "حلمت يوما بأنني فراشة. والآن لم أعد أعرف ما إذا كنت فراشة تحلم بأنها تشوانج - تسي، أم أن تشوانج - تسي الذي يحلم بأنه فراشة.." ومن الذي يتأتى له أن يعرف جوابا عن مثل هذا التساؤل..؟ الرواية إذن وبرغم هذا التعقيد البسيط رواية تقدم تاريخ الفلسفة وتطور الفكر البشري استجابة لمطلب "جوته" وعلينا أن نتبع هذه الرحلة التي نجح المؤلف في جعلها ممتعة بالفعل. فالرواية البسيطة بشخصياتها تمتلئ فجأة بالأفكار المتوهجة والأزمنة المتداخلة والتغيرات العظيمة، وتتحول تجربة الفتاة الصغيرة "صوفي" إلى تجربة كل البشر.
علم الدهشة
ولكن ما هي الفلسفة؟ الكتاب يحاول التصدي للإجابة عن هذا السؤال عبر استعراض مئات الأسئلة، وآلاف الإجابات الناقصة التي يكمل التاريخ حلقاتها واحدة تلو الأخرى. إنه علم التساؤل الدائم. فقد ولدت الفلسفة من خلال دهشة البشر. وعلى حد تعبير فيلسوف إغريقي عاش قبل ألف عام "إن كون الإنسان حيا هو شيء من الغرابة بحيث تظهر الأسئلة الفلسفية من تلقاء نفسها".
والأسئلة التي تطرحها الفلسفة تتعدى الحاجات الأولية للبشر. فالإنسان لا يحيا بالخبز وحده ولكنه يرغب في معرفة من هو ولماذا يعيش؟ وكيف خلق الكون؟ وهل ما وراء كل ما يحدث إرادة أم حس؟ وهل توجد حياة أخرى بعد الموت؟
في البداية حاول البشر الإجابة عن كل هذه الأسئلة من خلال الأسطورة. لقد وضعوا تصورا أسطوريا يتصل بالصراع بين الآلهة لتفسير كل الظواهر الطبيعية في الكون. وجاء الفلاسفة بأسلوب مغاير يحاول أن يتخلص من الأسطورة ويعيد الفكر إلى جهد العقل الإنساني.
وقد أطلق على فلاسفة الإغريق الأوائل "فلاسفة الطبيعة" لأنهم كانوا يهتمون بشكل أساسي بالطبيعة وظواهرها. وكان هدف فلسفتهم هو إيجاد القوانين الأبدية التي تحكم ظواهر الطبيعة دون اللجوء لتفسيرات أسطورية. وما وصلنا منهم قليل. ولكن الازدهار الحقيقي الذي شهده التفكير الفلسفي كان بلا شك على يد سقراط أوالمعلم الأول كما يطلق عليه.
لم يكتب سقراط سطرا واحدا. ومع ذلك فهو واحد من أكثر الذين أثروا في الفكر الأوربي. ويعود الفضل في معرفتنا بآرائه الفلسفية إلى تلميذه أفلاطون الذي كتب على لسانه العديد من الحوارات الفلسفية. لقد هبط سقراط بالفلسفة من الصفوة إلى عامة الناس في أسواق أثينا ولم يجعل من نفسه معلما لهم بقدر ما أخذ يحاورهم حتى يتبينوا الصواب من الخطأ. ويقال إن أمه كانت قابلة، لذلك فقد كان يقارن دائما بين الفلسفة وفن توليد النساء. فليست القابلة هي التي تضع المولود وإنما تساعده فقط على الخروج إلى الحياة. ومهمة الفيلسوف هي توليد الأفكار الصحيحة الراقدة في رحم العقول.
ويقول المؤرخين إن هناك شبها كبيرا بين سقراط والسيد المسيح. فقد اعتبرهما معاصروهما شخصيتين غامضتين. وكلاهما لم يترك أثرا مكتوبا على رسالته. وكانا خبيرين بفن الحوار بطريقة تجعل المحاور يقع تحت تأثيرهما، وكلاهما كان يحمل للناس شيئا كبيرا يتحدى النظم القائمة، وكذلك تتشابه محاكمتا سقراط والمسيح. كل منهما كان بإمكانه التنازل وطلب العفو. ولكنهما كانا يدركا أنهما مكلفان برسالة وأنهما سيخونان هذه الرسالة إذا لم يمضيا إلى النهاية.
إن تيار الدهشة لا يتوقف. ومع كل مرحلة من مراحل الحضارة تزداد حرقة الأسئلة.. وتزداد أيضا محاولات إعمال الفكر من أجل الوصول إلى الإجابة المثلى برغم أنه لا توجد إجابة مثلى. ينادي أفلاطون بالأفكار الكاملة التي تحلق فوق عالم الحواس. وجاء أرسطو ليقول إن الحواس هي ميزة الإنسان الكبيرة وأنها وسيلته الوحيدة للإدراك. وجاء الإسكندر الأكبر ليغزوالعالم ويجعل النمط الإغريقي يسوده فيما سمى بالهللينية. وفي ظل هذه الموجة العالمية من التفلسف خرج "الكلبيون" الذين يؤمنون بأن السعادة الحقيقية هي التوصل إلى الاستقلال عن أي عنصر خارج جسم الإنسان. وجاء "الأبيقوريون" ليؤكدوا أن الخير المطلق هو المتعة والشر المطلق هو الألم.
ولكن محاولات الإجابة عن كل هذه الأسئلة الكونية وصلت إلى ذروتها في محاولة التوحد مع روح الكون. وهي التجربة التي عرفتها معظم الحضارات بالتصوف. إنها محاولة لسد الفجوة التي تفصل الخالق عن المخلوق والانتماء إلى "أنا " أكثر تساعا وشمولا، يسميها بعضهم " الله" وبعضهم الآخر "روح العالم ". وبرغم اختلاف الحضارات فإن الوصف الذي يقدمه المتصوفة لتجربتهم هو دائما متشابه. في التصوف العربي المتأثر بالديانات التوحيدية الثلاث : اليهودية والمسيحية والإسلام، يشير الصوفي إلى أنه يخوض تجربة لقاء مع إله شخصي، ومع أن الله موجود في طبيعة وروح كل إنسان، إلا أنه يظل حائما فوق العالم. أما في التصوف الشرقي - أي في قلب الهندوسية والبوذية والثاوية - فمن الشائع الإشارة إلى أن المتصوف يدخل تجربة الذوبان الكلي مع الله. إنه يريد التخلي عن الأنا الذاتية من أجل الوصول إلى الأنا الحقيقية التي تشبه نارا غربية أبدية الاشتعال.
شهادة أم رثاء؟
تحتل الحضارة الإسلامية جزءا صغيرا من رحلة المؤلف خلف تطور الفكر الفلسفي في القرون الوسطى. ولكن علينا أن نعترف بأن كلماته القليلة قد اتصفت بموضوعية كبيرة. فهو يقول : "بعد وفاة محمد "صلى الله عليه وسلم" عام 632م انضوى الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تحت راية الإسلام لتتبعهما إسبانيا فيما بعد. وكان للإسلام أماكنه المقدسة. كمدن مكة، والمدينة المنورة، والقدس. ومن وجهة نظر تاريخية بحتة يبدومهما أن نسجل أن العرب ضموا المدينة الهللينية المهمة "الإسكندرية"، مما سمح لهم بالإطلاع على العلوم اليونانية. وطوال القرون الوسطى لعب العرب دورا مهيمنا في مجال الرياضيات، الكيمياء، علم الفلك، الطب والفلسفة وفي مجالات كثيرة. تفوقت الثقافة العربية على الثقافة المسيحية. فالكندي الذي عرف باسم فيلسوف العرب (توفى عام 870 م) كرس جهوده لتحقيق هدفين : أولهما : الإحاطة بكل ما قاله الأوائل. وثانيهما : إتمام ما لم يتمه الأوائل، ووضع كل ذلك باللغة العربية. وفي المغرب العربي ظهر ابن باجة بفلسفته الأخلاقية. تأثر به "ابن طفيل" الذي جاء بعده واشتهر كثيرا بكتابه "حي بن يقظان"،على أن أهم فلاسفة المغرب هو ابن رشد الذي درس فلسفة الشرق والفلسفة الإغريقية على السواء ودافع عن الفلاسفة في كتابه "تهافت التهافت" ردا على الغزالي في كتابه "تهافت الفلاسفة". وترجم ابن رشد إلى كل اللغات وترك الأثر الأكبر في الفلسفة الأوربية. أما علم الاجتماع فهو مدين أساسا للعرب، لأن مؤسسه هو الفيلسوف العربي "ابن خلدون" المعروف بمقدمته الشهيرة التي بنت عليها الحضارة الإنسانية كل مفاهيم وأسس علم الاجتماع الحديث".
هذه هي الكلمات التي ضمتها الرواية الكبيرة، التي تستعرض تاريخ الفلسفة والفكر. وهي كلمات تذكرنا بالمنزلة التي كان يحتلها الفكر العربي الإسلامي في العصور الوسطى والتي فقدتها حين فقدنا الحس الإبداعي للحضارة العربية. إن هذه الكلمات هي أشبه بالرثاء لهذا الدور الذي تسرب من بين أيدينا وجعلنا لا نحتل في تاريخ الفكر العالمي إلا سطورا قليلة وسط سفر ضخم.
من العقل إلى التجربة
إن جذوة التفكير العقلي لم تبق على حالتها، لقد تعرضت إلى خفوت شديد تحت وطأة سلطة الكنيسة في العصور الوسطى، ولكنها بقيت كامنة تحت رماد الأفكار السائدة حتى جاءت عصور النهضة كي تنفض ما عليها بفضل "ديكارت"، الذي كان أشبه ما يكون بسقراط. يؤمن بأن العقل هو سبيلنا للمعرفة، لذلك نفض كل ما على فكره من بقايا العصور الوسطى وبدأ رحلة طويلة عبر أوربا يتحدث إلى ناسها. لقد بدأ منهجه الفلسفي من نقطة الصفر ومن البحث عن إجابة لكل الأسئلة وحاول كذلك وضع منهج مترابط للتفكير الفلسفي شبيه بالمنهج الذي يسمح بفهم الظواهر الطبيعية. وهكذا فقد بدأ بتقسيم أي مسألة إلى مسائل أخرى صغيرة. ونبدأ بالأفكار البسيطة حتي نخضعها لقياس العقل وبعد ذلك نصل إلى الأفكار الأكثر تعقيدا حتى يمكن الخلوص إلى استنتاج فلسفي متكامل. وقال مقولته الشهيرة "أنا أفكر إذن أنا موجود"، وهي الأساس الذي وضعه لمنهجه الفلسفي والحياتي أيضا.
وقد وصلت فلسفة "ديكارت" الفرنسي إلى سبينوزا الهولندي الذي كان أكثر تطرفا من أستاذه فأنكر كل الحقائق التي جاءت في الكتاب المقدس وقد أثار هذا ضده الجميع وأنكر أهله. وقد قاتل سبينوزا كثيرا من أجل حرية التعبير والتسامح الديني، وعاش في أيامه الأخيرة منعزلا، مكرسا وقته للفلسفة، محاولا أن يكسب عيشه من صنع العدسات. ولكن الفلسفة اكتسبت في إنجلترا طابعا آخر، إنه الطابع التجريبي الذي وضعه الفلاسفة الثلاثة لوك وبركلي وهيوم. لقد اقترحوا إعادة النظر - مرة أخرى وليست أخيرة - في كل أفكار البشر للتأكد من كونها مبنية على التجربة. وكان أولهم "لوك" فيلسوفا ذا طابع اجتماعي، فهو أول من اهتم بالمساواة بين الجنسين، الرجل والمرأة، وكذلك يعود له الفضل على المستوى السياسي للفصل بين السلطات، السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية تفاديا للطغيان. فلكي نبني دولة الحق - برأي لوك - يجب أن يشرع ممثلوالشعب القوانين ويقوم الملك والحكومة بتطبيقها.
لقد قادت هذه الأفكار إلى واحد من أهم عصور البشرية ألا وهو"عصر التنوير" فبعد أن أرسى العلم التجريبي مبدأ كون الطبيعة تسير وفق قوانين محكمة أخذ الفلاسفة على عاتقهم مهمة إرساء قواعد الأخلاق والدين، وأصبح هدفهم "تنوير" طبقات الشعب الدنيا كشرط أساسي لبناء مجتمع أفضل، ولم يكن البؤس والاضطهاد بنظرهم إلا نتيجة الجهل والشعوذة المنتشرة بكثرة بين الناس.
الغرب في مواجهة العالم
ولكن يبقى مأخذي الرئيسي على تلك الرواية التي تحكي تطور الفكر الإنساني أنها تفعل ذلك من خلال منظور غربي. فالفلسفة قد بدأت على هضاب "الأكروبولس" في أثينا ولا تحاول أن تنظر أبعد من ذلك إلى الحضارات التي نشأت على ضفاف الأنهار العظمى في مصر وحوض الهند والصين. والمؤلف يتبنى دون أن يعي مقولة بعض المؤرخين أن تاريخ العالم هو تاريخ الحضارة الغربية. أما الحضارات الأخرى فهي الاستثناء، صعدت وازدهرت وهوت لفترات مؤقتة. أما الحضارة التي شهدت وجودا دائما برغم لحظات الانحطاط المؤقتة فهي الحضارة الغربية. وهو يعيد الاعتبار إلى العصور الوسطى التي سميت بعصور الظلام في هذه الحضارة، يبحث عن كل ما فيها من جوانب إيجابية دون أن يأبه بالنظر إلى الحضارات الأخرى التي كانت وقتها في أوج ازدهارها وأبقت مشعل الفكر الإنساني متقدا كالحضارة العربية مثلا. بل إنه يذكر هذه الحضارة عرضا تأكيدا لطابعها الاستثنائي ضمن المخطط العام لرؤيته الفكرية.
ويفرق الكاتب بين ثقافتين.. وبين نظريتين مختلفتين للعالم تبعا لكل ثقافة. الثقافة التي تستعمل اللغات الهندو- أوربية وهي اللغة الجذر لمعظم اللغات الأوربية. والثقافة السامية التي تعتبر الشعوب العربية جزءا منها.
فقبل أربعة آلاف عام هاجرت الأجناس الآرية من وسط آسيا إلى سهوب أوربا حاملين معهم لغاتهم وثقافاتهم، وهي ثقافة تتميز بالاعتقاد بتعدد الآلهة وبمفهوم للكون على أنه ساحة للصراع الدائم بين قوى الخير وقوى الشر مما جعلهم في سعي دائم لمحاولة معرفة مستقبل العالم، وكذلك بالمفهوم الدوري للتاريخ. أي أنهم كانوا يعيشون التاريخ في تجدد دائم، دورات متعاقبة كتعاقب الفصول في الطبيعة وهكذا لا يعرف التاريخ بداية ولا نهاية. بل إن هناك غالبا عوالم مختلفة تولد وتختفي في تعاقب أبدي للحياة والموت. في مقابل هذه تأتي ثقافة الساميين. جاء الساميون من الجزيرة العربية ولكنهم انتشروا في أصقاع كثيرة من الأرض، وانطلق التاريخ والديانات السامية الثلاث - اليهودية والمسيحية والإسلام - بعيدا جدا عن جذورها التاريخية بفضل انتشار الأديان.
وبعكس الهندو- أوربيين الذين كانوا يؤمنون بتعدد الآلهة، فقد آمن الساميون - ومنذ وقت مبكر - بالإله الواحد وهو ما يطلق عليه مصطلح "التوحيد". وكذلك امتلكوا رؤية خطية للتاريخ، بمعنى النظر إلى التاريخ كخط مستقيم لا بد أن يصل فيه إلى نهايته ويكون هذا هو يوم الحساب الأخير. والتاريخ موجود كي يحقق الله إرادته، وفي يوم القيامة بعد أن يحاسب الله البشر على كل أعمالهم تمحى شرور العالم.
ولا يحاول الكاتب أن يغرق كثيرا وراء تاريخ الأديان. وهو لا يتعرض لليهودية إلا لأنها مقدمة لا بد منها لظهور المسيحية، وهي الدين الذي أحدث انتشاره في أوربا دفعا كبيرا في التوجه الفلسفي. فهو يؤكد أن المسيح قد خطا الخطوة الأكثر خطرا نحو العقل البشري. فالدعوة إلى محبة لا حدود لها، وإلى غفران بلا نهاية هي دعوة محرجة لكل ما في داخل البشر من أثرة وتملك. وفي عالمنا المعاصر توجد دول قوية تصبح أكثر من محرجة عندما تواجه بمطالبات بسيطة، كالسلام والمحبة والغذاء للجميع والتسامح مع معارضي النظام.
الثلاثة الكبار
ويصل الكتاب الثلاثة الكبار الذين أحدثوا أكبر ثورة في الفكر الإنساني منذ اكتشاف النار، أو بالأحرى الثلاثة الذين تحدوا الغرور الساذج للإنسان وقلبوا كل المفاهيم القديمة التي كانت تجعل منه مركزا للكون. لقد أخرج هؤلاء الثلاثة من رحم كل الأفكار القديمة أفكارا أخرى جديدة وصادقة زلزلت كل المفاهيم المستقرة ووضعت القرن التاسع عشر على حافة الثورة العقلية الشاملة أولهم هو كارل ماركس الفيلسوف الألماني الذي وضع نظرية التطور التاريخي للإنسان، وتشارلز دارون العالم الإنجليزي الذي اكتشف نظرية النشوء والارتقاء، والطبيب النمساوي سيجموند فرويد ابتكر أسلوب التحليل النفسي وغاص في أغوار اللاوعي عند الإنسان. جعل الثلاثة من عصرهم علامة فارقة. فقد عاشوا في فترات زمنية متقاربة. والتقت طرقهم بشكل أو بآخر في مدينة لندن التي قدموا إليها للدراسة ومواصلة البحث. بل إن ماركس أراد أن يهدي دارون النسخة الإنجليزية من أعظم أعماله "رأس المال" ولكن دارون رفض هذا الشرف معتبرا أنه أكبر من قدره. ويمكن القول إن الثلاثة كانوا ينتمون إلى التيار "الطبيعي" الذي ساد من منتصف القرن التاسع عشر حتى هذا القرن. وهو التيار الذي لا يقبل أي حقيقة غير حقيقة الطبيعة والعالم المدرك. أي أن الباحث هنا يعتمد على ملاحظة الظواهر الطبيعية لا على الافتراضات المنطقية أو أي شكل من أشكال الوحي الإلهي. لقد أعطوا معاني جديدة لكلمات قديمة مثل البيئة، التاريخ، النشوء، النمو. فقد أشار ماركس إلى أن كل المذاهب الفكرية ما هي إلا نتاج للظروف المادية للمجتمع. وأوضح دارون أن الجنس البشري هو ارتقاء بيولوجي بطيء. وكشفت دراسات فرويد عن اللاوعي بأن تحركات الناس وتصرفاتهم في معظمها تنتج عن دوافع أو غرائز حيوانية. ولم يكن كارل ماركس فيلسوفا فقط، بل كان أيضا عالم اقتصاد واجتماع ومؤرخا وقد مزج هذه المعارف في بوتقة فكرية واحدة عندما أوجد "فلسفة الفعل" في مواجهة "فلسفة العقل" التقليدية معتبرا أن الفلاسفة كانوا يكتفون بتفسير العالم مع أن المطلوب هو تغييره. وهذه الجملة هي التي شكلت منعطفا أساسيا في تاريخ الفلسفة لأن هذا قاد للمرة الأولى إلى محاولة التطبيق العملي السياسي للفلسفة.
وقد أطلق ماركس مصطلح "البنية التحتية" على الظروف المادية، الاقتصادية، والاجتماعية، في حين أطلق مصطلح "البنية الفوقية" على نمط تفكير المجتمع ؛ مؤسساته السياسية، وقوانينه، ودينه، وفنونه، وأخلاقه، وفلسفته، وعلومه. لذلك فإن البنية التحتية أو الظروف المادية تحمل على كاهلا كل نتاج الفكر في المجتمع. والبنية الفوقية ليست إلا انعكاسا للظروف الإنتاجية والمادية للبنية التحتية. أي أن كل التحولات التاريخية منذ المتجمع العبودي في العصور القديمة حتى المجتمع الصناعي في عصرنا كلها تعود إلى التحولات التي تحدث في البنية التحتية. وكلها تتميز بالمواجهة بين طبقتين اجتماعيتين هما في العصور القديمة طبقة العبيد وطبقة الأحرار. وفي المجتمع الإقطاعي : الفلاحون والسادة. ومن ثم النبلاء والبرجوازيون أبناء الطبقة الوسطى. أما في زمن كارل ماركس فقد أصبح التعارض بين الرأسماليين والعمال أي البروليتاريا. فهناك من جهة من يمتلك وسائل الإنتاج مقابل الذين لا يمتلكونها. ولا يمكن أن تتخلى الطبقة المسيطرة عن سلطتها إلا بالثورة عليها ومن خلال ذلك تنشأ طبقة جديدة تخضع الجميع لسلطتها أو ما يسمى بديكتاتورية البروليتاريا، ولكن بعد فترة انتقالية ينشأ "مجتمع دون طبقات" ملغيا ديكتاتورية البروليتاريا. هذا المجتمع هو الشيوعية حيث تصبح وسائل الإنتاج ملك "الكل" ويتلقى كل واحد أجره حسب "حاجاته" ولا يعود هناك اغتراب.
كان هذا هو أعظم الأحلام الطوباوية في العالم. ولعل الذين آمنوا بالماركسية في لهفتهم لتفسيرها وتطبيقها لم يفطنوا إلى خطورة تركيز السلطة - أعني سلطة ملكية وسائل الإنتاج - في أيدي عدد محدود من الناس. فكل شيء - على حد تعبير مؤلف الكتاب - يتحول على يد البشر إلى مزيج من الخير والشر. وربما لم يفكر ماركس في أن الذين سوف يديرون الشيوعية من بعده هم أيضا بشر بكل ما في البشر من مساوئ. ولا يمكن أن نحمله مسئولية الأخطاء القاتلة التي ارتكبت باسمه بعد مائة سنة من وفاته.
من الحفريات إلى أغوار الوعي
أما تشارلز دارون الذي كان عالم أحياء وعالما طبيعيا. فقد كان أيضا هو العالم الحديث الذي تحدى كثيرا من المفاهيم العلمية القديمة التي كانت تدعمها الكنيسة الأوربية. عندما كان تلميذا بالمدرسة الثانوية وصفه مدير المدرسة بأنه "لاه وعابث بالأشياء ولا يقوم بأي عمل ذي نفع" فقد كان منذ صغره، مشغولا بمراقبة الحشرات وفحص الأزهار. ولكنه برغم ذلك اكتسب - وهو ما زال في الكلية - شهرته كعالم طبيعي.
في عام 1831 قام برحلة استكشاف على ظهر إحدى الناقلات البحرية إلى شواطئ أمريكا الجنوبية. وكان من المقرر أن تستغرق هذه الرحلة عامين ولكنها امتدت إلى خمسة أعوام لتتحول بذلك إلى واحدة من أهم الرحلات الاستكشافية في العصور الحديثة. وخلال هذه الرحلة وضع دارون التصور الأولي لما سيصبح بعد ذلك نظريته في النشوء والارتقاء.
لقد ارتكزت هذه النظرية على فكرتين رئيسيتين، أولاهما : أن كل الأشكال الحيوانية والنباتية الموجودة تنحدر من أشكال سابقة أكثر بدائية عن طريق النشوء والارتقاء البيولوجي. وثانيهما : أن هذا النشوء كان نتيجة الانتخاب الطبيعي، أو ما يطلق عليه "البقاء للأصلح".
لم تكن فكرة النشوء بالجديدة ولكن أحدا من العلماء الذين تبنوها لم يستطع أن يأتي بتفسير مقبول، لذلك لم تأخذها الكنيسة بجدية. وكان دارون رجلا حذرا. طرح العديد من الأسئلة قبل أن يجازف بالإجابة عنها. وهو بذلك قد استعمل منهج جميع الفلاسفة : من الضروري أن تسأل ولا مبرر للاستعجال في الإجابة.
آمن دارون بأن التغيرات الصغيرة التدريجية التي حدثت للكائنات المختلقة قد تؤدي إلى تغيرات كبرى إذا أعطيت الوقت الكافي، وقد برهن على ذلك بوجود العديد من الحفريات المختلفة لكائن واحد في طبقات مختلفة من الصخور. وكذلك ساعدته رحلته الطويلة على رؤية أفراد النوع الواحد من الحيوان ضمن نطاق المنطقة مع اختلاف طفيف في التفاصيل الدقيقة، وبما أن عمر الأرض يبلغ 4.6 بليون سنة تقريبا فعلينا أن نتخيل حجم التغيرات التي حدثت خلال هذه الفترة الطويلة
ويبقى سيجموند فرويد - الذي ولد عام 1586 - الذي تخصص في طب الأعصاب وقاده هذا التخصص إلى البحث في أعماق النفس البشرية، ويغطي مصطلح "التحليل النفسي" وصفا لهذه النفس ويقدم أيضا منهجا وطريقة لعلاج الآلام النفسية والعصبية. ويمكن القول بلا مبالغة إن فرويد هو أول من اكتشف الحياة الغرائزية للإنسان.
فهو ليس كائنا عقلانيا بحتا كما حاول الفلاسفة العقلانيون أن يقنعونا. فغالبا ما تحدد اندفاعات لا عقلانية ما نفكر به أو نحلم به أو نفعله. ويمكن أن تكون هذه الاندفاعات تعبيرا عن غرائز أو رغبات عميقة. فالرغبة الجنسية لدى الإنسان مثلا - على حد تعبير فرويد - لا تقل في أساسها عن الحاجة للرضاعة لدى الطفل.
ويطلق فرويد على "مبدأ الاندفاعات" و"الرغبة" تسمية الانفعال اللاواعي. ونحتفظ بهذا الانفعال في داخلنا منذ لحظة الميلاد حتى الموت. ولكننا نتعلم تدريجيا كيف نعتدل في رغباتنا ونتكيف مع قواعد العالم المحيط بنا. أي أننا نقوم ببناء "ذات" أخرى مهمتها كبت وتعديل وتأجيل هذه الرغبات وهي التي يمكن أن نطلق عليها الضمير.. أو الأنا العليا.
هذه بعض خلاصة الآراء والحوارات التي طرحها الكتاب، ولكن يبقى السؤال قبل أن نصل إلى كلمات النهاية.. لماذا حقق الكتاب هذه الشهرة وهذا الانتشار؟ هل يعود ذلك لطابعه التعليمي الذي يحاول أن يقدم مادة شديدة التجرد بتلك الحيوية والتدفق.. أي أن زبائنه الأساسيين كانوا من الطلبة؟.. أم يعود لرغبة الجميع في العودة للجذور الأولى للمعرفة الكلية بعد أن أنهكت عقولنا في تخصص التخصص؟ أم أن الكتاب دون أن يدري قدم طعما مختلفا للرواية بعيدا عن توابل الجنس والعنف التي تغمر عالمنا المعاصر؟! إنها كل هذه الأسباب مجتمعة.. فالأسئلة التي تطرحها صوفي" الصغيرة على نفسها هي نفس الأسئلة التي تؤرقنا، وبالتالي فإننا طوال صفحات الكتاب نتوحد معها، ونحن نسعى بحثا عن الأجوبة.