عندما مات البردّوني قبل ثماني سنوات تقريبًا، كتبت مقالا لم أنع فيه الشاعر بقدر ما نعيت الكلاسيكية الشعرية في سمتها العربي ذي المعمار العمودي. قلت في ذلك المقال: «رحيل آخر الشعراء العرب الكلاسيكيين»، كان هذا هو أبرز تعليق، بتنويعات مختلفة، تداوله الكتّاب والصحفيون بعد رحيل الشاعر الكبير عبدالله البردّوني. وفي كثير من صيغه غير الموفقة بدا التعليق وكأنه مجرد عنوان خبر طال انتظاره من قبل هؤلاء الكتاب والصحفيين ليعلنوا عبر إعلانه المتوقع انتهاء تلك الحقبة الكلاسيكية العمودية في الشعر العربي كله . ربما عز عليهم أن ينتهي القرن العشرون وما زال في ذبالته بقية عمودية هادرة لم تستطع تلك الحداثة التي أطلت برأسها قبل منتصف هذا القرن بجرأة مشهودة وعبر نماذج متفاوتة لأسماء تنوعت واختلفت كثيرا لكنها اتفقت كثيرًا وأولاً أيضا. رحل البردّوني إذن، بعد أن شهد - ببصيرته، دون بصره - رحيل رفاقه البعيدين عن سدرة منتهاه - والقريبين له على مدى عموده الشعري وسني عمره - واحدًا واحدًا، حتى لم يبق منهم في خضم العقد الأخير من هذا القرن سوى عمر أبو ريشه، ومحمد مهدي الجواهري، لكن الأول رحل في بداية العقد شامخا بقصائده التي كان يستلها استلالاً من بين ثنايا السنين، والآخر رحل بعد منتصف العقد بقليل منتشيًا بزعامته، التي ما تخلى عنها وما تخلت عنه يومًا واحدًا طوال قرن حافل بالكثير من النضالات الشعرية وغير الشعرية . طبًعا، دع عنك سعيد عقل وسط هذه الحلقة المتسعة المحيطة بتقاليد القصيد الموروث، فالرجل، لمن ما زال يتذكره، يقف على محيط الحلقة دون أن يرى في خوض غمار ما يجري وسطها إلا شكلاً لموهبته الشعرية، وإطارًا لمضمون مستبعد قبل أن يكون بعيدًا . البردّوني آخر الكلاسيكيين أو العموديين إذن، بالرغم من أنه لم يكن كلاسيكيًا أو عموديًا، إلا إذا اعتبرنا أن الكلاسيكية أو العمودية هي محض الالتزام الشكلي بتلك القافية أو ذلك الوزن،ولم يكن للبردّوني من تلك الكلاسيكية ما فوقهما، ولا ما تحتهما، للدرجة التي كان فيها البردّوني يعد التزامه بهما دليلا على كلاسيكيته .
وُلد البردّوني مبصرًا عام 1929م في قرية يمنية تدعى البردّون، بتشديد الدال، وهو تشديد كان الشاعر حريصًا على تنبيه كل من يلفظه خطأ أمامه إليه، حرصه على ترسيخ هويته الشخصية والشعرية الخاصة. أصيب بالعمى بعد ذلك وهو في السادسة من عمره بسبب الجدري، لكن فقدانه لبصره لم يمنعه من الدراسة في مدارس ذمار لمدة عشر سنوات، قبل أن ينتقل إلى صنعاء حيث أكمل دراسته في دار العلوم وتخرج فيها عام 1953م . ثم عُين أستاذًا للآداب العربية في المدرسة ذاتها. وعمل أيضًا مسئولاً عن البرامج في الإذاعة اليمنية.
وقد أدخل السجن في عهد الإمام أحمد حميد الدين عام 1948 بسبب قصيدة له، وصور ذلك السجن في إحدى قصائده رابع أربعة في واحد حسب تعبيره، العمى والقيد والجرح والسجن . وبعد خروجه من السجن انتقل الى الجامع الكبير في مدينة صنعاء حيث درس على يد العلامة أحمد الكحلاني، والعلامة أحمد معياد، ثم انتقل إلى دار العلوم ومنها حصل على إجازة في العلوم الشرعية والتفوق اللغوي.
أعماله الشعرية كثيرة منها: من أرض بلقيس، في طريق الفجر، مدينة الغد، لعيني أم بلقيس،السفر إلى الأيام الخضر، وجوه دخانية في مرايا الليل، زمان بلا نوعية، ترجمة رملية لأعراس الغبار، كائنات الشوق الآخر، رواغ المصابيح، جواب العصور، رجعة الحكيم ابن زايد.
ومن دراساته: رحلة في الشعر اليمني قديمه وحديثه، قضايا يمنية، فنون الأدب الشعبي في اليمن، الثقافة الشعبية تجارب وأقاويل يمنية،الثقافة والثورة، من أول قصيدة إلى آخر طلقة، دراسة في شعر الزبيري وحياته، أشتات، اليمن الجمهوري .
وقد ترك وراءه عندما توفي في مثل هذا الشهر عام 1999م أعمالاً كثيرة لم تنشر لعل أهمها سيرته الذاتية، التي كان قد أشار في بعض مقابلاته الصحفية إلى أنه انتهى من كتابتها .
هنا، في هذا العدد من «العربي»، نختار بعضا من قصيده المنشور ختامًا مسكيًا لبعض صفحات العدد.