مختارات من:

طرائف عربية

المحرر

في حضرة أحمد أمين

بسمة مضيئة في بيت كريم


رحم الله أحمد أمين، كبير المقام، المؤرخ، أستاذنا، وأحد المكتشفين العظام لجوهر الإسلام، وصاحب الأعمدة المضيئة، ومنارات المعرفة التي لا تفنى: "فجر الإسلام" و"ضحى الإسلام " و "ظهر الإسلام".

أمضى حياته باحثا ومدققا، وكاشفا عن وعي حقيقي بهذا الدين عبر رحلة من الجهد والفناء الكامل في العلم الذي كان عبيرا في بيته يعيش به محتفيا بأهله حيث تربطه بهم صلة المودة والمعرفة، عباس العقاد، طه حسين، محمود تيمور، أحمد لطفي السيد، ابن خلدون والجاحظ والغزالي وابن رشد.

تتكرر الأسماء بالبيت الكريم بصدى جليل وتستمد حياتها من ذلك الاحترام المبجل، حتى أن زوجته- رحمها الله- دائما ما كان يغيظيها الأمر فتهتف به قائلة:

إما أن تقول لي من هو ابن عبد ربه هذا وإلا لا تأتي بسيرته إطلاقا.

وكان يبتسم لها في مودة. عاد مرة من الخارج فسأل أم البنين.

- ألم يتصل أحد بي اليوم؟

أجابته:

- اتصل بك ابن خلدون مرتين.

- هل ترك رسالة؟

- نعم، يقول إنه قد بدأ يتململ في قبره من كثرة تناولك سيرته بالحديث.

يبتسم الكريم وقد امتلأ صدره بالرضا والمحبة لأهل بيته الكرام.

أكبر من عميد وأصغر من أستاذ


رفض مجلس كلية الآداب منح أحمد أمين الدكتوراة على مجمل ما كتبه في التاريخ الإسلامي بسبب أبعد ما يكون عن العلم.

ينهض أصحاب الضمائر من رجالات مصر من رؤساء أحزاب ووزراء وأهل علم وأدب وصحفيين ويجتمعون وهم من لا يجتمع على أمر _ محتفلين بأحمد أمين رافعين قيمته فوق كل درجة علمية، مشتركين في إلقاء خطب الإشادة بالرجل، مناصرين له.

ويستقيل أحمد أمين من عمادة كلية الآداب احتجاجاً على نقل أستاذ دون استئذانه، وعندما يسأله صحفي عن شعوره بسبب ترك العمادة، يقول قولته للتاريخ:

- أنا أكبر من عميد وأصغر من أستاذ.

رحم الله أحمد أمين، وعطر ذكراه، أحد الأدباء الكبار الذين علّمونا معنى الحرية والعدل وشجاعة قول الحق في مواجهة كل أشكال المظالم.

يدان تلتقيان


كانت العلاقة بين أحمد أمين وطه حسين من العلاقات التي تدعو للدهشة، وأيضاً للتفكير، الرجلان قامتان شامختان في الأدب العربي، مؤسسان عظيمان لمنهج التفكير العقلي، والنظر إلى العقل باعتباره المرجع الاسمي لكل الأمور.

كان كل منهما في بواكير الشباب يعشق صاحبه، ويرجع إليه ويستفتيه في شئون العقل والقلب، واختلاف تصاريف القدر.

لطه حسين على أحمد أمين أفضال لا تنسى، فلقد كان لطه حسين الفضل الكبير في نقل أحمد أمين من القضاء الشرعي إلى كلية الآداب عام 26 التي تولى عمادتها بعد ذلك. وقع الخلاف بينهما حينما خيّل لطه حسين أنه بإمكانه السيطرة على كلية الآداب عن طريق أحمد أمين بسبب أياديه السابقة على الرجل، لكن مع نفس أبيّة مثل نفس أحمد أمين يتبع ضميره وعقله، خسر طه حسين الرهان، فوقعت الجفوة واتهمه طه بالجحود، وماتت صداقة عمرها عشرات السنين.

أصيب أحمد أمين في آخر أيامه بمرض في عينيه استلزم إجراء جراحة خطيرة رقد بسببها طويلاً في المستشفى، فسارع طه حسين بالمصالحة وزيارة الصديق القديم بالمستشفى.

دخل طه حسين حجرة أحمد أمين يقوده سكرتيره من يده الممدودة في ضوء الحجرة الشفيف، وحين أحس أحمد أمين بصديق عمره يدخل الحجرة وكان معصوب العينين بالرباط الأبيض، مد يده في لهفة العاشق يبحث في ظلام الرؤية المحجوبة بالأربطة، يتبع صوت طه سائلا ومواسيا.

تبحث الأيدي عن بعضها في فضاء الحجرة الصغيرة لتعيد صداقة قديمة حتى تحتضن بعضها فيضوي المكان بألق لا يخبو على مر الزمان.

شجاعة المؤرخ


كانت طبيعة أحمد أمين هي طبيعة القضاة تقوم على مبدأ العدل والعلم والإنصاف، وكان شجاعاً، قلمه المنطق، لا يسعى لشهرة، ولا يحب المجاملة حتى لو أتت من كبير مقام.

عندما صدر كتاب من كتبه وقد قوبل بحفاوة نقدية، وكان حديث الوسط الثقافي بمصر في ذلك الوقت قابله رئيس الوزراء حينئذ وتقدم منه محيياً ومهنئاً ومشيداً بالكتاب إلى أقصى درجة.

عند ذلك عاجله أحمد أمين متسائلا:

- هل قرأته؟

صمت رئيس الوزراء ولم ينبس بحرف وأسرّها في نفسه للرجل طوال حياته.

المحرر مجلة العربي اغسطس 1999

تقييم المقال: 1 ... 10

info@3rbi.info 2016