إنها رحلة ممتعة في التراث العربي الصوفي حيث يتوحد الكون ويمتلئ بأصوات المخلوقات.
يحكى أن أحد البقالين كان لديه ببغاء حسن الصوت، أخضر اللون فصيح. وكان هذا الببغاء مقيمًا فى الحانوت حارسًا له، وكان يفاكه كل التجار، فجمع بين كونه حاذقًا فى الغناء، وناطقا بارعا بلغة الآدميين. وذات مرة كان السيد قد ذهب لمنزله، وكان الببغاء يحرس الحانوت، وقفز قط فجأة فى الحانوت فى أثر فأر، والببغاء خوفا على روحه قفز وهرب من صدر الحانوت يبحث عن ملجأ ما، فأراق زجاجات ماء الورد. وأتى سيده من الدار إلى الحانوت، وكعادة التجار جلس مطمئنا فارغ البال أمام الحانوت، وكأنه من السادة. لكنه رأى الحانوت مليئا بالزيت والبقع، فضرب الببغاء على رأسه ضربًا مبرحًا حتى أصيب بالقراع.
حينئذ امتنع الببغاء عن الكلام ثلاثة أيام، وتأوه البقال ندمًا، وأخذ يقتلع لحيته ويقول: وأسفاه، أن شمس نعمتى قد غطاها السحاب. ليت يدى قطعت، كيف ضربت حلو اللسان على رأسه؟ ثم أخذ البقال يقدم الصدقات لكل الدراويش، حتى يدعو لطائره أن يعود إلى النطق، وكان فى الوقت نفسه يبدى لذلك الطائر كل ما يخفيه من العجائب والغرائب، عله يبدأ فى النطق من جديد.
وفجأة مر درويش عارى الرأس، حليقا وكأن رأسه ظهر طاس، حينئذ بدأ الببغاء فى النطق، وكأحد العقلاء صاح بالدرويش، لأى سبب سلكت أيها الأقرع بين القرع، تراك سكبت الزيت من الزجاجة؟
ومن قياسه ضحك الخلق، لقد ظن الدرويش مثله!! فلا تقس أمور الأطهار على أمورك، ولهذا السبب ضل الخلق فظنوا أنهم يستوون مع الأنبياء، وظنوا الأولياء من أمثالهم!! ومن الجائز أن تكون صورة هذا وذاك واحدة، فالماء العذب والماء الملح كلاهما يتميزان بالصفاء. ولا يميز بينهما إلا صاحب ذوق... ومن الذى يبين كيفية أمر لا كيفية له إلا الحيرة... ذلك أن الصياد يطلق صفيرًا كصفير الطائر، حتى يخدع الطائر ذلك الآخذ للطيور...... ومن هنا كان الصحابة يطلبون من الرسول أن يبين لهم مكر النفس التى هى كالغول... فيا أيتها الروح هناك مئات الآلاف من الشباك والحبوب بالله، ونحن كالطيور الجائعة الحريصة، ولحظة بعد أخرى نسقط فى شباك جديدة، وأنت تنقذنا فى كل لحظة، ثم نمضى ثانية نحو الشباك ولا نفتأ نختزن القمح، ولا نلبث أن نفقده، ولا نفكر إن هذا من مكر الفأر وشره... كان لصًا كامنًا فى الظلمة... وفى الليل لا خبر للسلاطين عن الدولة»!!
ضد اليقظة الزائفة
حكاية محيرة تثير من الأسئلة أكثر مما تقدم من الإجابات، ولعلها تسعى لنقض ما نتصوره بديهيًا واضحًا، فتكشف لنا زيف الانضباط المنطقى، وأوهام اليقين العقلى!! وقد تباغتنا الحكاية بما لا نتوقعه إذ تنطوى رحلة الوعى الذاتى على نقيضها الفادح المؤسى، وتنتهك فى ذروة تحققها كاشفة عن عبثيتها وطابعها الساخر المرير!! وحيث تقودنا لعبة الحكى، ومراوغات الخيال اللعوب إلى ممالك السحر والمعجزات، تلقى بنا فيما وراء حدود الوعى وثنائياته المقيدة!! إنه المكر الفاتن والإغواء اللذيذ يستلبنا خارج عوالم اليقظة الزائفة ليلقى بنا فى فضاءات الحيرة لعلنا نتجاوز الظلال لنعانق الأصل، فنكتشف أنه أبدا لم يكن سوانا، يقول العطار الصوفى الفارسى:
«اعبر الظل، وابحث عن السر، وإن تر الظل يتلاشى فى الشمس على الدوام، فسترَ أنك أنت الشمس!!».
الببغاء حارس الحانوت من ظن التاجر البقال أنه سيده المطلق المطاع فجلس مطمئنًا فارغ البال أمام فضائه الآمن مستمتعا بأوهام السيادة الزائفة جاهلًا لم يزل بما أتلفه الحارس فى لحظة غيابه عن الفضاء المخايل!! فخ لا ندرى من نصبه للتاجر، صاحب السطوة والمال والنفوذ المهيمن والخيلاء الرفيع، هل هو الببغاء نسج الشبكة المحكمة لاصطياد السيد، فأعاد إنتاج القمع وسعى لقلب التراتب؟ وكأن الضحية تغوى صائدها، وتقتنصه فى الفخ نفسه الذى سعى لاقتناصها داخله!! إنه سعى لا يمارس إلا فى الفضاء الليلى، وحيث تكمن الضحية متربصة بقامعها، ناقضة نسيجه المحكم الذى توهم حين نسجه فى الصباح أنه لا ينتهك أبداً، لكنه الليل يطوى مساحات الخفاء والانفلات الخطرة فيما وراء مباهج النور المخايلة، والتى قد تصيب بالعمى حين نحدق فيها فرحين بأمان الوضوح والبديهيات الكاذبة!!
كان الببغاء جميلاً، أخضر اللون كربيع ناثر على الدنيا أريج عطره ضاحكًا مفاكهًا، حاذقًا فى الغناء، فصيحًا بارعًا فى لغة البشر!! كيف لا ينتشى مالك الببغاء، لكن التاجر، منشغل بالحانوت، مملوكه السيد، جوهره الفعلى ومرآة وجوده المستلب، ووعيه المغيب!! ولعله لم يع الجمال المشرق القار بين يديه، وربما يكون اختزله فى محض الضرورة، والفائدة المرتجاة منه. فالببغاء يحرس الحانوت، ويجتذب الزائرين والزبائن والتجار بخصاله الفريدة من خلال المفاكهة والغناء والفصاحة!! أدوات وإمكانات لا يستهان بها فى لعبة الهيمنة والسطوة والتنافس والاجتذاب والاستلاب المراوغ الخفى الناعم للآخرين!!
ومن المثير حقا، أن التاجر قد لا يكون انتبه لهذا كله بقدر ما كان يعنيه عدم المساس بسلامة الحانوت، وما فيه من بضائع هى أثمن عنده وأجدر بالاهتمام من جمال الببغاء وفرادته!! وهكذا، فحين تحرك الببغاء حركته المباغتة داخل الحانوت تحت وطأة الخوف من القط الذى كان يطارد الفأر، وأراق زجاجات ماء الورد، وأفسد البضائع بالزيت والبقع، أصبح العقاب ضرورة لا مفر منها!! ولعله التمرد عالى الصوت يباغت السلطة، وما كان لها أن تغض البصر، فقد أصبح التحدى واضحًا، وتم الإضرار بالمصالح والممتلكات!! لا كرامة لعبد ممتلك عند سيده إن لم يحقق الفائدة المرجوة منه، ولو كان جميلا فريدا!!
قوة التعامل
يقول إخوان الصفاء فى رسالة الحيوان الرمزية على لسان الببغاء: «أن أكثر ملوك الإنس ورؤسائها لا ينظرون فى أمر الرعية وجنودهم وأعوانهم إلا لجر منفعة منها أو دفع مضرة عنها أو إلى نفس من يهواه لشهواته، ولا يفكر بعد ذلك فى واحد، ولا يهمه أمر كائن من كان من قريب أو بعيد وليس هذا من فعل الملوك الفضلاء، ولا عمل الرؤساء ذوى السياسة الرحماء».
وهكذا، واجه التاجر فعل الببغاء بالقمع الحاد والقاسى، وليست مسألة الضرب المبرح هى المؤسية وحدها، لكن ما نجم عن الضرب، إذ جرد الببغاء من مظهره الجميل، الشئ الوحيد الذى وهب له من الخالق، ولم يكتسبه أو يتعلمه ولم يمنحه إياه التاجر!!
امتدت يد التاجر العمياء لتنتزع النعمة الإلهية من الببغاء، أو هذا ما يتبدى لنا فى الوهلة الأولى!! وحين فقد الببغاء شعره الأخضر الجميل، امتنع عن الكلام دافعًا التاجر الذى أفرط فى العنف استعراضًا لسطوته وهيمنته وقهرا لهواجس التمرد عند الببغاء إلى التأوه ندما!! بل أخذ التاجر يقتلع شعر لحيته أسفا على فعلته فى ممارسة موازية لضرب الببغاء على رأسه وإصابته بالقراع!! وكأن السلطة، صاحبة اليد الطولى والقدرة العقابية توجه عنفها ضد ذاتها لكن عبر مرايا الببغاء الأقرع الضحية المسالمة المرتعدة!! ولعلها تلك الآفة القارة فى أعماق كل سلطة مستبدة طاغية، إذ تنطوى دوما على إمكانات تدميرها داخلها، حيث ينقلب دوما عنفها المفرط عليها!! إنه العبث الذى يحكم علاقة القامع ليس بالمقموع فحسب، بل بممارسته القمعية ذاتها، والتى تستكن دوما وبالسعى الهستيرى المحموم للنهاية الحتمية، رغم كل محاولات الدفاع المستميتة وهوس البقاء الأزلى!!
ويرمز الشعور أسطوريًا وصوفيًا فى كثير من الأحيان إلى القوة والمعرفة، وما يحققانه من خيلاء وكبرياء ذاتى، فضلا عن سطوة الجمال!! وقد يكون امتناع الببغاء عن الكلام ليس محض عقاب للتاجر، لكنه نضوب لمنابع التميز المعرفى والقيمى!! وربما يتحتم على التاجر السيد أن يلازم ببغاءه، معانيا ليس فقد الفائدة الوظيفية له فحسب، بل فقد الانتشاء بامتلاك التفرد المعرفى والقيمى عبر مرايا الببغاء!! ولعل الخسارة أكثر فداحة مما نتصور، فحين يسكت الببغاء، يفقد السيد أحد مباهجه الأثيرة، ففى لعبة الكلام يمارس كل من السيد والعبد الإمكانات المبهجة للعبة المراوغة، مراوغة الحديث فى حضرة القمع، وفى ظلال الهيبة!! إنها المراوغات التى تصوغ الوهج والتوتر ما بين الطرفين، وتحفز كليهما مستنفرة كافة الطاقات الذاتية، والتى تذكى فاعلية وحضور كل منهما فى مواجهة الآخر، وتدعم وجوده داخل لعبة التراتب المراوغة بدورها!! وبالطبع تستمتع السلطة بكلام محدثها الذى لا يكف عن تكريسها وتقريظها وتبجيلها ويفرط فى هذا، لكنها تستمتع أكثر بمن يراوغها ويلاعبها لأنه يبرز إمكاناتها وذكاءها الفذ على ممارسة ألعاب ومراوغات الكلام!! وفى كل الحالات، فالمتكلم فى حضرتها خير من الساكت، وأقل خطرًا، لأن الكلام رغم كل إمكانات التلاعب مساحة للكشف والتعرية وفضح المضمر، أو هذا ما تتصوره السلطة المستبدة!! وهكذا، فإن امتناع الببغاء عن الكلام هو إقصاء متخيل عنيف لصاحبه أو سيده التاجر، حيث يحرمه مباهج الكلام والغناء معًا!! ولعله يحرمه بهجة التقليد والتكرار، فالببغاء مهما بلغ حذقه فى الكلام والغناء لا يعدو كونه مقلدًا لما يسمع، وليس كالتقليد أمانا وراحة ونعمة!!
وهكذا، يتعرى خواء السلطة وضعفها، بل احتياجها المؤسى لمن تملك، وما تملك، ولا تفقد السلطة كرامة الاستغناء والتعالى أمام الببغاء فحسب، بل أمام الآخرين حتى فقراء الطريق، الدراويش، قاطنى الهامش الاجتماعى!! وحين يتكشف للسلطة وضعها المزرى أمام ذاتها عبر مرايا أضعف رعاياها، وأكثرهم هامشية تفقد صوابها، وتسعى فى كل السبل من أجل قضاء حاجتها!! فها هو التاجر بعد التأوه والندم والأسف واقتلاع اللحية وتقديم الصدقات للدراويش مستجديًا دعواتهم من أجل الببغاء الساكت، يسعى لإبهاج الببغاء وملاعبته آتيًا بكل غريب وعجيب عله ينطق ويعود لسابق عهده!! لكن الببغاء ساكتًا لم يزل يتحدى التاجر ويستمتع بإذلاله وانتهاك سطوته!!
هنا يحدونا السؤال، هل كان الببغاء جميلاً وفريدًا حقًا؟!
غروب الجمال
يقول أبو حيان التوحيدى: «الغريب من غربت شمس جماله»
ولعل هذا الجمال الظاهرى للببغاء، وذلك الحذق فى الغناء والفصاحة والفكاهة لم تكن سوى مظاهر مخايلة زائفة سريعة الزوال والعطب!! ولم يكن انسكاب زجاجات ماء الورد عبثًا، بل كان إشارة للعدم، فقد كان جمال الببغاء وفرادته كوردة البلبل المعشوقة، والتى كان يئن متولهًا بعشقها، فقال له الهدهد، حكيم سليمان النبى: يا من تعلقت بالصورة، لا تتباه أكثر من ذلك بعشق الجميلة، وإذا كانت الوردة صاحبة جمال رائع، فمآلها الزوال، وما ينتظرك سوى الملل والضجر ومرارة الفقد!!
ترى هل سقط كل من الببغاء والتاجر فى فخ الجمال الزائل، فخ السؤال الدنيوى، سؤال النعمة والنقمة؟ ولعل الببغاء لم يكن يتعامل مع ذاته بأفضل مما كان التاجر يتعامل معه، فقد تخايل بجماله وتفرده كسائر أهل الدنيا، وعلمائها وفقهائها، واستباح ذاته بقدر ما استباحه سيده واستخدم مواهبه بقدر ما أراد التاجر، فكان مناسبا للدور الذى رسم له وفرض عليه، ومن ثم استحق مصيره، ولعله سعى إليه!! وربما لم يكن الببغاء بامتناعه عن الكلام يعاقب التاجر، بل لعله كان يعاقب ذاته!! لقد كان الببغاء ساقطًا فى غفلة العبودية الناعمة، مستمرئًا مباهجها وخدرها اللذيذ، نافيًا مسئولية الفرادة والتميز بالرغم من امتلاكه مقوماتها، مستمتعا بلعبة التقليد والتكرار محتميًا بجدرانها العتيدة!! ولعل لحظة ظهور القط والفأر المتصارعين لم تكن سوى لحظة الانتباه، حيث تدرك الذات ما تنطوى عليه ظلمتها من لصوص كامنة شرسة ومرتعدة لا تلبث أن تظهر فجأة ناقضة أوهام الحماية والأمان، دافعة بالذات للحظة المواجهة القاسية مع ذاتها!! إنها لحظة استرداد الحضور الحقيقى، وحمل عبء الحرية، ومعانقة دوارها الجميل، وعبثيتها المرعبة اللذيذة!!
وربما كان السكوت أول رد فعل مباغت للذات إزاء مأزقها الوجودى، إنه سعيها اليائس للتحرر من صخب الحضور الخارجى وعلاقاته الملتبسة الزائفة!! ولعل التاجر بضربه للببغاء وإصابته بالقراع قد حرره من الغفلة والغياب، ومن سطوة المعرفة الدنيوية العدمية، بل من خطيئة الكلام، جرح الوجود وتشظيه!! لقد كان الألم والفقد هو الطريق الوحيد والممكن لاسترداد الذات حضورها الحقيقى، وممارستها الوعى الذاتى الخلاق!! وعبر الآخر الشبيه، الدرويش الأقرع يحاول الببغاء استرداد ذاته المتكلمة الخلاقة، جماله الأصيل!!
التناقض والكمال
يقول جلال الدين الرومى:
«إذا حصل أن أرى صورتى فى شخص أظهر فيه، اجعله مستحقًا لخطابى وكلامى»
لكن شيئًا يلوح ناقضًا ومدمرًا هذه الممارسة فى ذروة تحققها بالاكتمال، إنها تلك المفارقة القارة فى عمق الوعى العقلى المقيد دوما بثنائيات التشابه والتناقض، حيث لا يتحقق إلا من خلالها!!
ولعل هذا ما تسعى الحكاية لنقضه، فخ التماثل، حيث لا مماثلة على الحقيقة وإن تشابهت الصور. إن المغايرة والفرادة، وليس محض التناقض هى الفضاء الممكن لتأسيس الائتناس الفعلى والحميمية الحقة، بل هى الأصل للتحقق بذروة الحضور الوجودى الخلاق معرفيا وقيميا!! وتنتعش هذه الفرادة بإمكانات التنوع اللانهائى والمدهش!! إن استرداد الوعى والوجود والقيمة لا يتحقق إلا إذا تجاوزنا أرض الظلال والمسوخ المقلدة والأشباح إلى الأصول المتنوعة، المتغيرة، المحتفية بالتفرد البرح الذى يغتنى ويأتنس بإمكانات غيره من الأصول الخلاقة!!
وها هو الرومى يروى لنا حكاية أحد التجار الذى كان يملك ببغاء جميلاً، لكنه كان يحبسه فى القفص، فلما أعد التاجر عدته للسفر إلى بلاد الهند، سأل الببغاء: أى هدية تريد أن آتيك بها من بلاد الهند؟ فقال الببغاء: هناك توجد ببغاوات، عندما تراها، حدثها عن أحوالى، وقل لهم: إن الببغاء فلان مشتاق لكم، وقد شاء القضاء أن يكون حبيسًا عندنا، لقد أرسل إليكم السلام، وطلب الغوث، وسألكم الوسيلة وطريق الإرشاد. وقال: أيليق أن أكون أنا فى الغل الثقيل، وأنتم حينا فوق الخضرة، وحينا فوق الأشجار؟
فى بلاد الهند، موطن إيروتيكا الوجود حيث يلتبس الحسى بالروحى فى جدل شديد التعقيد، ورمزية متعالية يشع وضوحها غموضا ساحرًا، ومخيفًا فى آن!! هناك، فى فضاءات الطبيعة البرحة الجميلة، يتمتع رفاق الببغاء الأسير بمرح الحرية المطلقة فى فردوس الإله، لاهين عن رفيقهم الحبيس المقيد فى قفص التاجر، السيد الدنيوى!! يعانى الببغاء الأسير شوق الفراق والروحى، وقسوة الأسر المادى، وها هو يستغيث بالرفاق، مشتهى الروح، كأنهم ليلاه المعشوقة، وهو المجنون العاشق المدله لا يملك إلا طيف المعشوقة، وسحر الخيال الجموح!! يُحمل الببغاء، العبد الأسير، سيده المالك رسالته للرفاق، وقد أوهم الجميع أنه يروم تحقق الوصال، لكنه كان قد حسم أمره، وآثر الفراق، فحمل الرسالة لسيد مملوك لا يعى قدر عبوديته الدنيوية، ولا يفقه لغة ببغاء الروح، ولا يرى منه سوى جماله الظاهرى الأسير، حبيس القفص الذهبى!!
هل في الأسر جمال؟
كان الببغاء الجميل الحبيس قد وعى فى لحظة كشف مباغتة جمال الأسر رغم شكواه للرفاق، واستغاثته بهم لنيل حريته، ورأب صدع الفراق كيما تلتئم جراح الاشتياق، ويتوحد العاشق بمعشوقه الحر المتأبى على الامتلاك!! ولعل الببغاء أدرك لحظة رحيل السيد إلى حيث الرفاق، خلان الروح، أنه ينبغى عليه أن يسعى فى رحلة نأى موازية، مرتدًا إلى عمق ذاته، باحثًا عن أصله الوجودى، مقتنصًا حضوره وحريته من فضاء الرفاق الذى هم صور مجلية لجمال الأصل وحريته المطلقة، لكنها مجرد صور فى أرض الظلال، حيث الالتباس لم يزل قائما بين الروح والجسد!! ومن ثم، فقد آثر الببغاء مقام الصبر الذى هو شهوة الأذكياء، بينما ذوق الحلوى (حلوى اللقاء وشهد العشق المتحقق ولذة الوصال) هو شهوة الأطفال، وكل من يصبر يرتقى الأفلاك، وكل من يكتفى بأكل الحلوى، يمضى متقهقرًا!! ومن المثير للانتباه حقًا فى هذا السياق، هو أن يفضل الببغاء بقاءه فى فضاءات الهجر والتخلى، وجور المعشوق على أن يذوق لذة الكرم واللطف والجود، ومنحة القرب الدافئ الحميم!!
يقول الرومى:
«يا من جفاؤك أكثر حسنا من الإقبال، وانتقامك أحب إلينا من الروح...هذه أنواع اللذات التى يحويها جورك... إننى عاشق لقهره.... وكل البلايا بالنسبة لى لذات من العشق»!!
ها هو الببغاء العاشق، مرة أخرى، يسعى لفرادة الحضور، ولو كان ثمن هذه الفرادة، هجر المعشوق وجفاءه وقهره وانتقامه!! ولعلها فرادة العاشق المهجور المثابر دءوبًا فى عشقه، لا ينتظر ثمنًا لهذا العشق سوى نثر الروح، وتقديمها قربانا على مذبح المعشوق الخالد!!
يقول العطار:
«يا من عدمت السعادة، ليس شهمًا من لا يبذل الروح نثارًا فى طريق الأحبة، واطلب ماء الحياة من روح الحبيب»!!
وربما كان هذا هو مطلب ببغاء الروح، الخلود الحقيقى، الذى لا يُقتنص من الفرع، بل تعايش الروح خلود الأصل، فتسكن فى عمق الغياب، وقد انمحى حضورها أمام الجبروت والقهر الإلهى، لكن فرادة سعيها، ومغامرتها الجريئة، وتطاولها الفادح يجعلها محل النظرة الإلهية الصاعقة!!
يقول الرومى:
«يا من أعدمكم الفناء، عودوا من العدم على نداء الحبيب»