يتجدد الألم كل يوم, وينزف الجسد الحي دمه الذكي, حينما يختفي العدل عن العالم ويدمر المحتل كل وجود إنساني ومادي واقع تحت نيّر احتلاله, وينتفض الفن صارخاً في وجه الغاصب, لحظة تعبيره الصادق عما يحدث, والمتأمل للوحة الفنان الإسباني (فرانثيسكو دي جويا) (1746 ـ 1828) والمعروفة باسم (الإعدام رمياً بالرصاص في ميدان مونكلوا), وهو أحد الميادين المهمة بالعاصمة الإسبانية (مدريد), سيتوقف طويلاً أمام تلك الاستجابة الفنية البارعة لفنان غير مسار الفن التشكيلي تاريخياً, حينما نقله في زمنه من مرحلة تمجيد لحظة انتصار وطنه على أعدائه, لصياغة لحظة انكسار وألم عظيم يمر به هذا الوطن, ومتسامياً بإنتاجه الفني على اللحظة الزمنية التي يصوغ داخلها فنه, وفوق الواقعة المحلية التي يجسدها جمالياً داخل لوحته, ليقدم لنا فناً يلمس الوجدان الإنساني, ويهز الضمير البشري في كل زمان ومكان.
أبدع (جويا) لوحته الخالدة عام 1814 (زيت على قماش, 266 * 345سم, متحف البرادو بمدريد) بعد نحو ستة أعوام من حدوث الواقعة المجسدة في لوحته, حينما غزت قوات نابليون الفرنسية العاصمة الإسبانية, وقامت قوة فرنسية تتألف من مائة ألف جندي عام 1808, بذبح كل من يقف في طريق جيشه الغازي, فخرج الشعب الإسباني إلى الشوارع غاضباً على جيش الاحتلال, ورافضاً تحالف حكومة إسبانيا مع القوات الغازية, مما أدى لرفض الاحتلال, ودحر الغازي.
تلعب الإضاءة وجوداً وغياباً دوراً مهماً في هذه اللوحة الدامية, فالظلمة تسيطر على معظم فضاء اللوحة, فتضاعف الإحساس بمأساوية الموقف المتأزم والذي يجمع بين مجموعة من الرجال يمثلون المقاومة الشعبية تتصدى بصدورها المضيئة لقوات نابليون الظلامية المدججة بالسلاح في لحظة تنفيذ الحكم بالإعدام رمياً بالرصاص على مجموعة من المتمردين الأبطال, ينبعث الضوء من مصباح سفلي, مشكلاً شعاعاً على هيئة منشور ضوئي مسلط على شاب يتوسط مجموعة من رجال المقاومة, مرتدياً قميصاً أبيض اللون, رافعاً يديه إلى أعلى مستقبلاً بصدره مصيره المحتوم من بنادق جنود نابليون المصوبة إليه, فبدا في وضعه والضوء يشع منه أكثر من انعكاسه على ملابسه, وكأنه المسيح المصلوب ومن حوله حواريوه المخلصون, يواجه الموت بعيون مفتوحة, وعلى يمينه يقف شاب يعبر بوجهه ونظرة عينيه وأيضاً بقبضتي اليدين المضمومتين عن السخط الشديد والغضب المكبوت, وآخر يبدو في زي الراهب يركع على ركبتيه مرتلاً بعض الصلوات مترحماً على هؤلاء الشهداء الأبرياء ومستسلماً لقدره معهم, بينما يرقد أمامه شهيد يسبح في دمائه المختلطة بدماء الآخرين ممن سقطوا قبله, وآخرون رفعوا أيديهم يخفون وجوههم وأنظارهم عن هذا المشهد البشع, بينما تقف على يسار الشاب ذي القميص الأبيض كتلة بشرية تمثل الشعب بفئاته المختلفة, تحتل وسط اللوحة, كاتمة غيظها وسخطها عاجزة عن فعل شيء أمام جبروت وطغيان الظلم, وإن بدت وجودا مدغماً تقطعه أذرع بنادق الجنود, الذين يحرص الفنان على صياغة بنادقهم المصوبة على وضع أفقي لصدر شعب يقف في وضع رأسي ثابت ومقاوم, كما عمل الفنان على إظهار الجنود بظهورهم في هذا التكوين المشابه لحركة (ميزانسين) المشاركين في مشهد مسرحي, فهم كتلة من الشر بلا ملامح غير الجسد واليد الممسكة بآلة الموت, فيبدو المقتول بوجوده المضيء, ووقفته الصلبة أكثر قوة وسيطرة على فضاء اللوحة والحياة معا من القاتل المغتصب لحق الإنسان على أرضه.
لحظة مأساوية استطاع أن يعبر عنها الفنان الإسباني القدير (جويا) ببراعة فائقة أبحرنا معه عبر الزمان, وعدنا من الماضي القريب إلى أرض الحاضر لنجد أن هذه اللحظة مازالت حية, وأن هذا المشهد يتكرر بتفاصيله كل لحظة في أرجاء كثيرة من أنحاء العالم, وعلى أرضنا العربية, ومازالت رائحة الدماء العطرة مختلطة برائحة البارود تملأ أنوفنا وصوت الطلقات يصم آذاننا.