مختارات من:

لبنان والموسيقى: الهروب من هوس الفن الرخيص

سحر طه

مع تطوّر الماكينة الإعلامية والمنافسة الحامية بين الفضائيات، تستحوذ الأغنية المصورة على مساحة واسعة من البث اليومي، بل صارت الأغنية غطاء للترويج لمختلف أنواع السلع التجارية، لا تنتهي عند حدود الترويج للسيارات أو المنتجعات أو غيرهما، وربما لا تنتهي عند حدود الترويج للجسد. كما أنها باتت وسيلة كل شاب وشابة عدم أو عدمت وسيلة إلى الشهرة والمال، بل صارت مهن أخرى لا تلبي حاجات هؤلاء الشباب، فينصرفون عن مهنة عرض الأزياء أو التمثيل، أو تصوير الإعلان أو غيرها مما كان حتى الأمس القريب طموح الكثيرين، حتى تركوا الدراسة الجامعية إلى عالم الغناء، هذا العالم السحري بكل مغرياته.

وهكذا يزداد المغنون بسرعة فينتشرون كالفطر، تزدحم بهم الشاشات ينافسون بعضهم البعض في حمى حتى أن المغني بات ينافس نفسه بأغنياته، تدعمهم شركات الإنتاج الغنائي بإصدارها ألبومات، تكلفها مئات الآلاف من الدولارات، أثماناً للألحان ولكتّاب الأغنيات وللموزعين الموسيقيين وللعازفين، إضافة إلى تكاليف ساعات التسجيل في الاستديو، وتصوير الفيديو كليب، فضلاً عن تكاليف الدعاية والإعلان، رغم علمهم أن معظم محتويات هذه الأسطوانات تذهب أدراج الرياح، لا إلى أذن المستمع.

فورة غنائية غير مسبوقة تقابلها ظاهرة وإن خجولة في لبنان وهي بروز أفراد ومجموعات من الموسيقيين الشباب ممن يحترفون كتابة الموسيقى البحتة والأغنية الجادة إلى جانبها أحيانًا، وأداءها عزفًا حيًا وإنتاجًا تسجيليًا. لكن هذه الظاهرة تكاد تنجرف في تيار الأغنية الاستهلاكية لعدم توافر شروط تكفل استمرارها ومناخ يحتضنها، ويغذيها، وبالتالي يدفع بها قدمًا للتطور وبلوغ الأحلام.

بعض هؤلاء من جيل الحرب اللبنانية وما بعدها، تأثر بزياد الرحباني رمز الموسيقى الشبابية في تلك السنوات بكل ما تعني العبارة من معنى،

حيث فتح لهم آفاقًا واسعة على ما سمي بموسيقى الجاز الشرقي، يحاولون السير على منواله. كما هي - أي الظاهرة - ربما ردّ فعل تجاه انتشار الأغنية الاستهلاكية ومحاولة - قدر الإمكان - الحد من سطوتها وسيادتها.

موسيقى خارج الهوس

هنا أمثلة لأسماء تهجس بموسيقى خارج هوس الغناء الفارغ، تحمل مناخات متعددة واتجاهات تجريبية حرة، معظمها ينطلق من الهوية ويعبر بها إلى هويات أخرى في حوار حضاري تتفاوت قيمته ووزنه ومستوياته لكنها تنم عن ثقافة ورغبة في تقديم المختلف والجاد والجميل معاً.

على أننا نلمس لدى غالبية الشباب المشتغلين بهذه الموسيقى، همومًا مشتركة ومخاوف وقلقًا واستياء جماعياً من السائد، فصعوبة أو تعثر بل وتعذر استمرارهم في العمل على مشاريعهم الموسيقية الفكرية تعود إلى معوقات كثيرة أهمها إنتاجية، وبالتالي تؤدي بالكثيرين إلى ترك هذا المجال والتوجه نحو الأغنية بشكل من الأشكال سواء كان ذلك عزفًا ضمن فرق المغنين الموسيقية، أو تلحينًا للغناء بدل الموسيقى فقط أو توزيعاً، أو حتى المنافسة بالغناء نفسه، الذي بات المهنة الوحيدة في مجالات الفنون التي تدر على صاحبها مالاً وشهرة، والبعض الآخر يبقى في مجاله ليس تفاؤلاً لكن قناعة وإيمانًا، فمنهم من لا يمكنه تغيير جلده ويستمر في كتابة الموسيقى ويأمل في ازدياد عدد زملائه وما بين هذا وذاك، هناك من وجد الحل الوسط، فعمل في مجالات أخرى قد تقترب أو تبتعد عن الموسيقى كمورد للعيش.

ولعل المؤلف الموسيقي شربل روحانا أبرز وأحدث مثال على هؤلاء الموسيقيين، إذ انخرط أخيرًا في ميدان الاغنية، بعد مروان خوري وعبدو المنذر وسمير صفير وعصام كاريكا وحميد الشاعري ووليد سعد وآخرين كثر، جاء دور روحانا الذي عرف كعازف عود بارع ومؤلف موسيقي صاحب اكثر من أربع أسطوانات، وهو واضع منهج تعليم العزف على آلة العود المتبع في الكونسرفتوار اللبناني، فضلاً عن ثنائيته برفقة مارسيل خليفة في مؤلفته الشهيرة (جدل)، وها هو بعد سنوات من التأليف الموسيقي والعزف فقط، نجده يطرح شربل روحانا المغني ضمن فرقته الموسيقية، وشهدنا بالفعل ازديادًا ملحوظًا في جمهور أمسياته وفي تسجيلاته أيضًا، وإن اختار الغناء الملتزم لقضايا إنسانية عامة، ولسان حاله يقول: ولم لا، مادام الجميع يغني. ويصرح بأن بدايته الموسيقية كانت مع الغناء قبل أن يأخذه العود إلى عالمه الساحر.

الفن والبحث عن الرزق

أما هاني سبليني (مؤلف موسيقي وعازف بيانو) فيقول: إن الظروف المعيشية لا تشجعنا على التفرغ للموسيقى، لذلك نضطر إلى العزف في أماكن السهر الليلية والنوادي والمطاعم، مما يؤمن لنا مردودًا شهريًا للعيش. لقد كانت تجربة جميلة مع شربل روحانا عام 1998، في أسطوانة «مدى»، التي نالت رواجًا بين الشباب، لكن لم نحظ بتلفون واحد يطلب منا عزفها في أمسية. هناك قلة من الموسيقيين لديهم أفكار لا تقدر بثمن، لكن ليس هناك من يقدرها في بلدنا. اليوم تُطلب مني بعض المشاريع الموسيقية، لكن المشكلة أن هناك عادة شروطا ما لتلبية أي طلب، وليس باليد سوى البحث عن بدائل، وأحاول التنفيس عن أفكاري من خلال أمسيات مشتركة مع زوجتي أميمة الخليل ومن خلال التوزيع لبعض الأغاني وإلا فسوف أبقى أعزف في نادي «البلونوت».

ويضيف عبود السعدي (موزع موسيقي وعازف جيتار): في بلدنا التفرغ للعمل الموسيقي البحت لا يسمن ولا يغني من جوع. لذلك فإن الموسيقي يضطر إلى البحث عن موارد أخرى ومهن قد لا تمت أحيانًا إلى الموسيقى بصلة. لا يمكن التفرغ لفرقة موسيقية معينة، وكل وقتنا لها، وفي المقابل ليس هناك من نشاطات أو حفلات للفرقة. شخصيًا ومثلي كثيرون، أضطر للعمل في فرق عديدة لا فرقة واحدة، ومع مطربين، وفي مشاريع متعددة أولاً للتنفيس وثانيًا لكسب العيش لكن في حدود معقولة، لأن العمل الليلي مع فرق النوادي والمطاعم يعتبر مستنقعاً قد يغرق الموسيقي فيه. وأجد أن الجمهور ينقص حين نعزف موسيقى بحتة، ولا يهتم بسماعها، بل «مخّه فيه ريفليكس ع السمع»، صارت القصة رقصًا فقط. لست ضده لكن يجب أن نعي أن المسائل ليست رقصا فقط، هناك مسئولية تقع على الميديا، الصحافة، الإعلام المرئي والمسموع.

لكن أعتقد أن لا أمل في الوقت الحاضر وفي المنطقة ككل، لا أقول إنني متشائم لكن هذا هو الواقع. أواجه مشكلة التكاليف للتأليف الموسيقي. حين تتاح المادة، نتمكن من كتابة موسيقى راقية، كما فعلت لمحطات تلفزيونية، برنامج «CBM» لمحطة MBC كوميدي بالمقلوب. كتبت العمل لثمانية عازفين على سبيل المثال. وكذلك أكتب خلفيات موسيقية لمناسبات معينة مثل الأعراس، هذه الأعمال هي المصدر الأساسي للمردود المادي، وبسببها نستطيع الاستمرار في عملنا الموسيقي لا من خلال الفرق الموسيقية والتأليف الجاد. والكاسيت أو الأسطوانة بتنا لا نجد من يتبناها، إلا مؤسسة أو ربما فرد مستعد للمغامرة مثلنا.

صعوبات موسيقية

جويل خوري (مؤلفة موسيقية وعازفة بيانو) صدرت لها أسطوانتان موسيقيتان (لا غناء) خلال خمس سنوات، تشكو من مشكلة ثنائية، أولا:ً الاستعانة بموسيقيين لبنانيين، فشروطهم تعجيزية، يجدون صعوبة في الإيمان بامرأة تكتب موسيقى. من ناحية أخرى، الموسيقيون الأجانب المتعاقدون مع السيمفونية الوطنية اللبنانية، علينا استحصال إذن من الدولة كلما أردنا الاستعانة بهم، فتصبح المسألة «شحادة». تقول: بقيت فترة طويلة أكتب مقطوعات للأسطوانة الجديدة، والحفلات قليلة جدًا ويبدو أن «الرعاة» أو «المعلنين» لا يجدون في موسيقانا مصدر ربح، لذلك فهم يهربون من رعاية حفلاتنا. في العام 1999 أنتجت لي شركة «E A C» أسطوانة حاولت تقديم موسيقى جيدة بعيدًا عن التجارة والإسفاف والغناء العشوائي، لكنها أفلست. وبالرغم من ذلك لا أعرف غيرها مهنة، لذلك مهما تعبت مع الشركات الراعية أو المنتجين فسوف أستمر بالكتابة، صحيح أنا متشائمة ومحبطة لكن لا فرار، أجبر نفسي على العمل وإلا فالبديل هو التقوقع والاعتزال.

أما فهد رياشي (مؤلف موسيقي وعازف عود) فيعتبر أن التفرغ للموسيقى غير وارد خاصة في لبنان والعالم العربي، إذ لا تقدير لفكرة الفنان المؤلف للموسيقى. يسألونك ماذا تعمل؟ تقول: مؤلف موسيقي. يقولون وماذا بعد؟ في الخارج لا مشكلة. المسائل محلولة وواضحة، احتراف وتفرّغ كلي، فيما نحن الشباب ما بين 18 و 25 نعاني جدًا في هذه المرحلة المفصلية والتي تقرر مصيرنا العلمي والمهني، خاصة ونحن لانزال في مراحل دراسية مختلفة لكن لدينا الهاجس الموسيقي الذي نتحرق للتفرغ له، لكنه مستحيل. وفي حال أردنا الغوص فيه ليكون مهنة للعيش قد يدخلنا ذلك إلى مطارح غير مرغوبة تستهلك الفنان وتغسل دماغه. أنا شخصيًا لدي مشكلة مع الواقع، إذ لا أجد نفسي في موسيقى لا أحبها، لكن عليّ أن أجرب فمن دون تجارب يتوقف الإنسان في مكان ما.

أمسيات موسيقية

الأمسيات الموسيقية في لبنان جيدة من ناحية تشجيع الجمهور، والحضور، وكذلك هناك طلب على الأمسيات الموسيقية ولو ضئيلاً. والحفلات غالبًا من دون مردود، إلا فيما ندر، فهناك تكاليف تدفع أحيانًا في غير محلها. في المقابل يبدو هناك ردة إلى الموسيقى دون الغناء لذا لا مشكلة في إيجاد شركة إنتاج. وهناك مسارح ومؤسسات مثل «مسرح بيروت» على سبيل المثال، والذي أعتبره حالة استثنائية فهو يحتضننا بشكل دائم ويشجع الشباب الذين يحملون أفكارًا تجديدية، لا يطالبنا بأي مقابل للتمارين أو لإقامة الحفلات، ونتمنى أن تحذو مسارح أخرى حذوه لإنعاش الحركة الموسيقية الشبابية في البلد. فهناك من يسمع موسيقى ويطلبها أكثر من ذي قبل، وأرى أن المستقبل للموسيقى بعد انحسار الأغنية.

سحر طه مجلة العربي نوفمبر 2007

تقييم المقال: 1 ... 10

info@3rbi.info 2016