مختارات من:

قصتان من أورجواي.. الـذبـاب

أوراثيوكيروجا

ترجمة : رزق أحمد رزق


عند تنظيف الجبل من الأعشاب في العام الماضي ، كاملا فوق الأرض . وبينما فقدت بقية الأشجار لحاءها نتيجة النيران المستخدمة في حرق الأعشاب ، احتفظت تلك الشجرة بلحائها شبه كامل ، لكنها تكاد تحتفظ بقطاع طولي متفحم يصور بوضوح كبير ما أحدثته النيران .

حدث ذلك في الشتاء الماضي . انقضت أربعة شهور ، وسط المنطقة التي تم تنظيفها ، والتي فقدت ما زرع فيها نتيجة الجفاف ، تتمدد الشجرة المجتثة دائما وسط قفز من الرماد . أجلس ملتصقا بالجذع ، مسندا ظهري إليه في غير حراك ، في مكان ما من ظهري ، كسر عمودي الفقري . سقطت في نقس ذلك المكان بعد أن تعثرت ، لسوء حظي ، بأحد جذور النباتات ، أقبع ساكنا- أو على الأقل مكسورا- حيث سقطت ، مستندا إلى الشجرة .

منذ لحظة وأنا أشعر بطنين ثابت- طنين إصابة النخاع- يغطي على كل شيء ، أشعر بأن أنفاسي تهرب مني . لا أستطيع تحريك يدي ، بينما تتحرك بالكاد أصبع أو أكثر لتصل إلى الرماد وتعبث به .

تيقنت يقينا راسخا ، منذ تلك اللحظة ، بأن حياتي ستنطفئ خلال ثوان معدودة عند مستوى سطح الأرض هذه هي الحقيقة . لم يتعرض ذهني قط لحقيقة مثلها بهذا الشكل القاطع . فبقية الحقائق الأخرى تطفو في ماض لا ينتمي إلى ، ترقص في حقيقة واحدة كصدى لأنا آخر . الإحساس الوحيد لوجودي- المضطرم كضربة قوية مصوبة في السكون- إنني سأقضي نحبي بين لحظة وأخرى .

ولكن متى ؟ أي ثانية ، وأي لحظات هذه التي سيفسح فيها الضمير الساخط- الذي لا يزال حيا- مكانا لجسد هامد .

لا يدنو أحد من هذا القفز ، لا تصل إليه من إي مكان حشرة من حشرات الجبل . والرجل الجالس هناك وكذلك الجذع الذي يستند إليه ستسقط الأمطار عليهما فتبلل اللحاء والثياب ، ثم تجفف الشمس نباتات الأشنة والشعر إلى أن تنبت براعم الجبل فتوحد الأشجار والرماد ، والعظام وجلود النعال .

لا شيء ، لا شيء في هدوء البيئة التي تصرخ وتندد بذلك الحدث ! من خلال جذوع وأغصان القفز المتفحمة ، من هنا أو من هناك ، من أي مكان لرصد المشهد ، يستطيع أي إنسان أن يرى بوضوح تام الرجل الذي أضحت حياته على وشك التوقف فوق الرماد ، تشدها جاذبية هائلة كبندول ساعة : إن المكان الذي يشغله في القفز جد صغير ، وموقفه جد واضح إنه يموت .

هذه هي الحقيقة ، لكن البهيمية التي لا تقاوم ، ونبض الحياة وأنفاسها مهددة بالموت . ماذا يساوي الموت أمام الاضطراب البربري لتلك اللحظة التي سينفجر فيها صمود الحياة ، كما سينفجر ذلك العذاب النفسي كصاروخ مخلفا رجلاً سالماً بوجه ثابت ينظر دائما إلى الأمام . يتزايد الطنين مع مرور الوقت ، يغشى عيني الآن حجاب من ظلام حالك ، رأى فيه معينات خضراء . وفي الحال رأى بابا في جدار سوق مغربي ، تخرج منطلقة من أحد مصاريعه مهر بيض ، بينما يخرج من المصراع الآخر مهرولا موكب ديني لرجال بلا رءوس .

أريد إغلاق عيني فلا أستطيع . أشاهد الآن غرفة في مستشفى بداخلها أربعة أطباء من أصدقائي ، يصرون على إقناعي بأنني لن أموت . أراقبهم في سكون بينما هم سادرون في الضحك لأنهم يتابعون أفكاري .

قال لي أحدهم :

- ليس هناك سبيل لإقناعك سوى قفص الذباب . لدي قفص .

- ذباب ؟ ..

أجاب الآخر :

- أجل ، ذباب أخضر لاقتفاء الأثر ، و أنت تعرف أن الذباب يتشمم تحلل قبل حدوث وفاة الإنسان بوقت طويل . يتجه نحو المريض وهو لا يزال حيا ، واثقا من الفريسة ، يحوم حولها دون عجلة ، لكن دون أن يغفل مراقبتها ، لأنه يشم فيها رائحة الموت . تلك هي وسيلة التنبؤ المعروفة الأكثر فعالية . لدى نخبة من الذباب تتمتع بحاسة شم حادة ، أؤجرها لك بسعر زهيد . حيث يدخل الذباب تكون الفريسة مؤكدة . بوسعي أن أضع لك الذباب عندما تكون بمفردك في الممر ، ثم أفتح باب القفص الذي هو في الواقع تابوت صغير . ستنحصر مهمتك في النظر إلى فتحة موضع إغلاق القفص . فإن دخلت ذبابة وسمعتها تظن ، فكن على ثقة بأن بقية الذباب ستجد هي الأخرى طريقها إليك . أؤجرها لك بسعر زهيد .

مستشفي ؟ .. وفجأة تتحول الغرفة البيضاء وصندوق الصيدلة والأطباء وضحكاتهم إلى طنين .

وفجأة يأتيني أيضا هذا الإلهام " الذباب !

ها هو يطن . منذ أن سقطت أتاني دون إبطاء . أثقلت النيران جفونه في الجبل ، ولا أدري كيف علم الذباب بوجود فريسة لدى جيرانه . اشتم التعفن الوشيك للرجل الجالس بشكل لا نستطيع أن ندرك كنهه- ربما عن طريق لحم النخاع الشوكي المكسور . جاء دون إبطاء ، يحوم في غير تسرع ، يرصد بعيونه حجم الوكر الذي ساقته إليه المقادير ليضع بيضه .

كان الطبيب على حق . عمله مربح إلى أقصى حد . ها هو الحرص في الصمود تهدأ حدته ، ويفسح الطريق أمام المجهول . لا أشعر الآن بنقطة ثابتة على الأرض أثبت فوقها من هول العذاب الشديد . أشعر بأن بخار الجو وضوء الشمس وخصوبة الساعة تناسب مني في سلاسة كالحياة ذاتها .

متحررا من الفضاء والزمان بوسعي الذهاب هنا وهناك ، إلى هذه الشجرة أو تلك النباتات ، بمقدوري أن أرى بعيدا جدا شيئا كذكرى لوجود سحيق وأبعد من هذا أستطيع أن أرى ، إلى جوار جذع ، دمية ذات عينين لا تطرفان ، وخيال مقثأة ذات نظرات زجاجية وساقين صلبتين . من وسط هذا المكان المنبسط ، حيث تنتشر الشمس مفتتة ضميري إلى بليون جزء ، بمقدوري أن ارتفع وأطير .. وأطير .. أطير وأستريح مع رفاقي فوق الجذع الساقط ، أطير فوق أشعة الشمس التي تعبر نارها لعملنا المتجدد الحيوي .


ضربة الشمس


خرج " أولد " ، الكلب الصغير من الباب وعبر الفناء بخطى سديدة متثاقلة . توقف أمام المرعى . نظر ناحية الجبل بعينين نصف مغمضتين وأنف يرتعش ثم ربض في هدوء . نظر إلى سهل " تشاكو " الرتب بما يكتنفه من حقول وجبال ، حقول وجبال ليس بها من ألوان سوى لون الطريق العاجي ولون الجبل الأسود . يمتد الجبل عبر الأفق فيحيط المزرعة بجوانبها الثلاثة على بعد مائتي متر ، ومن الجانب الغربي ينبسط الحقل ممتدا وسط الغابة ، في حين يمتد الخط الأسود القاتم " الجبل " ، الذي لا مناص منه ، يحوطه عن بعد . في هذه الساعة المبكرة اكتسب ضوء الأفق القصي الباهر صفاء ساكنا .

خلت السماء من أي سحابة أو نسمة ريح . انبعثت من الحقول ، تحت سكون السماء الفضية ، برودة منشطة تحمل إلى النفس المتأملة ، التي تنتظر لا محالة يوما آخر من الجفاف ، هموم يوم أفضل لعمل يعوض لها خسارتها .

اجتاز " ميلك " ، أبو الكلب الصغير ، الفناء هو الآخر ، وربض إلى جانبه يئن في تكاسل من لين العيش . ظلا ساكنين لأن الذباب لم يأت بعد .

كان " أولد " منذ فترة إلى الجبل . فكر في نفسه : الصباح بارد .

تابع " ميلك " نظرات الجرو فتجمدت نظراته ، شرد وهو يطرف بعينيه .

قال بعد لحظة :

- فوق هذه الشجرة صقران

حولا نظرهما في لا مبالاة نحو ثور كان يمر أمامهما ، وظلا يرقبانه كعادة ألقاها في النظر إلى الأشياء .

في تلك الأثناء شرع الأفق الشرقي يتلون باللون الأرجواني الذي اتخذ هيئة القوس . فقد الأفق صفاء الصباح . عقد " ميلك " ساقية الأماميتين وأحس بألم خفيف . نظر إلى أصابعه دون أن يتحرك ، ثم عزم في النهاية على تشممها . كان في اليوم السابق قد استخرج برغوثا ، فأخذ عندما تذكر ألمه يلعق أصبعه المصاب بشراهه . صاح بعد ذلك : لا أقوى على المشي . لم يدرك " أولد " ماذا يعني . أضاف ميلك : البراغيث كثيرة .

أدرك الصغير الآن ما كان يعني . ثم عقب ، بمبادرة منه ، بعد وقت طويل : براغيث كثيرة .

لاذا بعد ذلك بالصمت وقد اقتنع كلاهما بما قال .

ومع شمس يوم جديد انطلق دجاج الجبال عبر الهواء النقي مطلقا صفيرا مدويا . وأخذ الكلبان ، وقد اكتسبا لونا ذهبيا تحت الشمس الحائلة ، ينظران بعينين نصف مفتوحتين ، يزيد من عذوبة حياتهما رمش عيونهما .

ازداد عدد الكلاب شيئا فشيئا بانضمام رفاق آخرين : " درك " ، الصامت المفضل ، " برنس " الذي قطعت شفته العليا نزواة ، يرى من خلالها نابان ، و " أيسوندو " صاحب الاسم الهندي .

تمددت الكلاب الخمسة " فوكس تيرر " ونامت تنعم برغد العيش .

رفعت رؤوسها بعد انقضاء ساعة . وعلى الجانب الآخر لكوخ ذي طابقين- الأول من طين والثاني خشب ، بدهاليز " ودرابزين " " شاليه "- أحست الكلاب بوقع خطى سيدها وهو يهبط الدرج . توقف مستر " جونز " لحظة ، والفوطة فوق كتفه عند ناصية الكوخ يتأمل الشمس في كبد السماء . كانت نظراته لا زال ميته ، وشفته لا تنفك متراخية بعد سهرة قضاها وحيدا يحتسي الشراب طالت به أكثر مما اعتاد .

وبينما هو يغتسل ، اقتربت منه الكلاب تتشمم حذاءه ، وتحرك ذيولها مسترخية . تعرف كالسباع المروضة أدنى أثر لسكر صاحبها . ابتعدت مرة أخرى في تراخ لتستلقي تحت الشمس . لكن حرارة الشمس المطردة جعلتها تهجر المكان سريعا لتحتمي بظل الدهاليز .

زادت ساعات النهار مثلما اشتدت أيام هذا الشهر جفافا وصفاء ، تدوم شمسه الحارقة أربع عشرة ساعة فتبدو وكأنها تذيب السماء ، أو تصدع الأرض المبللة فتحليها قشورا شبه بيضاء . يمم مستر " جونز " شطر المزرعة ليرى عمل اليوم السابق ، ثم عاد إلى الكوخ ، لم يفعل شيئا طوال هذا الصباح . تناول غداءه ثم صعد ليقيل .

على العمال في الساعة الثانية بعد الظهر إلى عزق الأرض رغم القيظ الملتهب ، ذلك أن الحشائش لم تختف من حقول القطن . ذهبت الكلاب في أعقابهم كأصدقاء أوفياء للزراعة . فقد عرفت منذ الشتاء الماضي كيف تزاحم الصقور في التقاط الديدان البيضاء التي يرفعها المحراث . تمدد كل واحد منها تحت شجيرة قطن ، يصاحب إيقاع لهاثها ضربات الفأس المكتومة .

في هذه الأثناء ارتفعت حرارة الشمس ، وراح الهواء يتماوج في جميع الاتجاهات ، يؤدي العيون وسط صمت مخيم وشمس تعمي الأبصار .

أرسلت الأرض المحروثة صهداً كالأفران ، تحملته رءوس العمال الملفوفة في مناديل تصل حتى آذانهم ، بينما لاذوا بالصمت وهم يعملون .

كانت الكلاب تغير أماكنها من حين لآخر تحت الشجيرات طلبا للمزيد من الظل البارد . تتمدد مستلقية ، فيضطرها التعب إلى الجلوس على سيقانها الخلفية لتتمكن من التنفس بشكل أفضل . بدا أمام المزارعين مرتفع صغير من الأرض لم يحاولوا حتى حرثه . ومن فوق هذا المرتفع رأى الكلب الصغير فجأة مستر " جونز " جالسا فوق جذع شجرة ، مثبتا نظره فيه . نهض " أولد " يهز ذيله . نهضت الكلاب الأخرى أيضا وانتصب في تحفز صاح الجر وقد أذهله تحفزهم :

- إنه سيدنا !

فرد " دك ":

- كلا- ليس هو :

كانت الكلاب الخمسة متحلقة تدمدم في سرية دون أن ترفع عيونها عن مستر " جونز " الذي واصل النظر إليها دون أن يحرك ساكنا .

تقدم الجرو لا يصدق ما يرى لكن " برنس " كشر له عن أنيابه :

- ليس هو ، إنه " الموت " .

انتفض الكلب الصغير فزعا ، ثم تراجع إلى حيث تجمعت الكلاب .

سأل في لهفة :

- هل هذا هو السيد الميت ؟

راحت بقية الكلاب ، دون أن تجيبه على سؤاله ، تنج مهتاجة وقد اتخذت وضع الهجوم المتخوف . لكن مستر " جونز " لم يسقط مغشيا عليه وسط الهواء اللافح .

رفع العمال أبصارهم عندما تناهى النباح إلى أسماعهم ، لكنهم لم يروا شيئا يسترعي الانتباه التفتوا برءوسهم ، علهم يرون جواداً يدخل المزرعة ، لكن لم يكن هنالك شيء .

عادت الكلاب إلى الكوخ . كان الجرو لا يزال ينتفض ، يتقدم ثم يتراجع وهو يجري في عصبية مسافات قصيرة . عرف من خبرة رفاقه أنه عندما تشرف روح على الموت فإنها تظهر قبل موتها سأل :

- وكيف تعرفون أن هذا الذي رأيناه لم يكن السيد الحي ؟

أجابته في ضيق :

- لم يكن هو . وبعد الموت سيأتي مالك جديد ، وحينئذ يتملكهم البؤس وتركلهم الأقدام ! أمضت الكلاب ما تبقى من المساء إلى جوار سيدها في كآبة وحذر ، تدمدم عند سماع أدنى ضجة دون أن نعرف مصدرها . انتاب مستر " جونز " شعور بالغبطة لاهتمام الكلاب بحراسته .

غابت الشمس خلف حقل النخيل الأسود الكائن على حافة أحد جداول المياه . في سكون الليل الفضي أقامت الكلاب حول الكوخ الذي اعتلى طابقه العلوي مستر " جونز " ليبدأ سهرة الشراب .

عندما انتصف الليل سمع وقع خطاه ، ثم وقع سقوط حذائه على الأرضية الخشبية ، وما تلي ذلك ينتظر صاحبها . انخرطت في وحدتها تبكي بالقرب من المنزل النائم . بكت في صوت واحد مغيرة نشيجها التشنجي الجاف ، حيث بدت وكأنها تلوكه ، إلى عواء حزن وخراب يتقدمها عواء : برنس " الطويل ، بينما تعاود بقية الكلاب ، متقطعة أنفاسها ، النشيج من جديد . راح الجرو ينبح والليل يتقدم . تحلقت الكلاب الأربعة الكبيرة تحت ضوء القمر بخطوم ممتدة منتفخة بفعل الأنين تواصل بكاء البؤس المنتظر ، لأن صاحبها الذي ستفقده قد أحسن تغذيتها ومداعبتها .

توجه مستر " جونز " في صباح اليوم التالي بشخصه لإحضار البغال . ربطها في المحراث ، وراح يعمل حتى التاسعة . ورغم ذلك لم يكن مغتبطا . وبغض النظر عن أن الأرض لم تحرث مطلقا حرثا جيدا ، فقد كانت أسنان المحراث غير مشحوذة . كان المحراث ينفصل عن البغال بسبب خطواتها السريعة . شحذ أسنان المحراث ، وعندما عاد لتركيبها كسر مسمار قلاووظ ، كان قد لاحظ به خللا عندما اشترى المحراث . أرسل أحد العمال إلى أقرب مخزن للأخشاب وطلب إليه أن يمتطي جوادا قويا يتحمل حرارة الشمس . رفع رأسه صوب شمس الظهيرة الحارقة وطلب إليه ملحا في الطلب ألا يسرع لحظة واحدة .

تناول غداءه وصعد . لاذت الكلاب ، التي لم تفارق سيدها طوال الصباح ثانية واحدة ، بالدهاليز .

تثقل القيلولة النفوس وترهقها بالضوء والسكون . شحن الجو بضباب من شدة القيظ . كانت الأرض الفضاء المائلة إلى البياض حول الكوخ تشع ضوءا يغشى الأبصار بفعل الشمس التي توسطت السماء ، فبدت وكأنها استحالت مرجلاً يغلي فيرتجف ، يخدر عيون الكلاب التي تطرف بأجفانها .

قال " ميللك " :

- لم يعد إلى الظهور .

عندما سمع " أولد " كلمة " الظهور " رفع أذنيه فوق عينيه . نهض الجرو ، وقد أثارته هذه المرة كلمة " الظهور " ، ونبح يبحث عن شيء ما .

توقف بعد برهة عن النباح كما توقفت بقية الكلاب التي أقامت مذبحة للذباب دفاعا عن نفسها .

قال " إيسوندو " :

- لم يعد البتة .

تذكر " برنس " لأول مرة شيئا ، قال :

- كانت ثمة سحلية تحت نباتات الحلفاء .

قطعت الفناء المتوهج دجاجة تفتح منقارها وترفع جناحيها عن جسمها وقد أثقلت حرارة الجو كاهلها ، تابعها " برنس " بعينين فاترتين ، ثم قفز صائحا :

- ها هو ذا يأتي مرة أخرى !

دخل الجواد من الجانب الشمالي للفناء ، وكان قد امتطاه أحد العمال " للذهاب إلى مخزن الأخشاب " ، تقوست الكلاب فوق أرجلها تعوي في عصبية يشوبها الحذر ضد " الموت " الذي أخذ يقترب كانت الدابة تمشي مطأطأة الرأس تعلوها حيرة بادية ، تبحث عن الاتجاه الذي كان عليها أن تسلكه . عندما مرت قبالة الكوخ تقدمت بضع خطوات في اتجاه البئر ، ثم راحت تتعثر شيئا فشيئا بفعل الضوء الباهر .

نزل مستر " جونز " لم يكن يشعر برغبة في النوم ، رأى على غير انتظار ، وهو يتهيأ لمواصلة إصلاح المحراث ، المزارع عائدا فوق الجواد . ورغم تعليماته ، فإنه عودة المزارع في هذه الساعة تعني أن الجواد قطع المسافة عدوا . أنحى عليه باللائمة بكل ما أوتي من منطق العقل ، فرد المزارع بمراوغات يتحاشى بها الإجابة . كان من المستحيل عد نبضات الجواد المسكين بعد أن قضى مهمته . ارتجف ثم مال برأسه وسقط على جانبه . أمر مستر " جونز " ، والسوط لا يزال في يده ، المزراع بالتوجه إلى المزرعة حتى لا يعطل العمل إن هو واصل سماع اعتذاراته المنافقة .

كانت الكلاب مغتبطة . " فالموت " الذي كان يبحث عن سيدها أرتضي الجواد بديلا . أحست بفرحة وانزاحت الهموم عن كاهلها ، وتأهلت للذهاب إلى المزرعة في أثر المزارع ، وبينما هي كذلك سمعت مستر " جونز " يرفع عقيرته ، وكان قد ابتعد ، يطلب منه مسمار القلاووظ . لم يكن هناك مسمار قلاووظ : كان المخزن مغلقا ، والبائع نائما .. إلخ . علق مستر " جونز " سترته دون أن يحري إجابة ، ثم خرج بنفسه يبحث عن المسمار . تحمل الشمس كمزارع .كانت نزهة رائعة لمزاجه المضطرب .

رافقته الكلاب ، لكنها توقفت عند ظل أول شجرة خروب . كان الجو شديد الحرارة . ومن مكانها ، ثابتة فوق أرجلها بجبين مقطب متيقظ ، شاهدته يبتعد . تغلب الخوف في النهاية على وحدتها ، فذهبت في أعقابه تجري في عصبية .

حصل مستر " جونز " على مسمار القلاووظ ثم تأهب للعودة . ولكي يختصر المسافة ، ليتجنب بالطبع منعطف الطريق الترابي ، سار في خط مستقيم صوب مزرعته . بلغ جدول الماء، وهناك توغل في نباتات الحلفاء داخل طوفان مستنقعات حلفاء السلاديتو الذي نما وجف ثم عاد للنمو وهكذا منذ أن وجد القش على سطح الأرض دون أن تعرف له النار طريقا . تقوست الحلفاء على شكل قبة ترتفع حتى مستوى الصدر مشتابكة في كتل كثيفة . كان اختراقها في هذه الساعة خاصة عندما يكون الجو رطبا ، مهمة غاية في الصعوبة . رغم ذلك اخترقها مستر " جونز " ، يشق بذراعية طريقا وسط حفيف عيدان القش المحملة بالتراب نتيجة الطمي المترسب عليها بفعل الفيضانات . ناله من النصب مبلغا ، واختنق بأبخرة النترات اللاذعة .

أتم اجتيازها أخيرا وتوقف عند تخومها ، بيد أنه كان المستحيل عليه أن يظل قابعا هناك تحت وهج هذه الشمس تزداد دون توقف منذ ثلاثة أيام ، يضاف إليها جو خانق متقلب . السماء بيضاء ، لا تهب نسمة من ريح . إحساس بنقص الهواء ، ضيق في الصدر يعوق التنفس .

تيقن مستر " جونز " من أنه تعدى قدرته على التحمل منذ فترة ، شعر بنبضات الشريان السباتي تطن في أذنه : أحس داخل رأسه ، وسط هذا الهواء ، بأن أحدا يدفع جمجمته إلى أعلى. انتابه دوار وهو يتطلع إلى الكلأ . حث خطاه حتى يتخلص من هذا الموقف ... تنبه فجأة إلى أنه في موضع آخر : قطع مائة وخمسين مترا دون وعي منه . نظر خلفه فشعر بدوار جديد في رأسه .

كانت الكلاب تتعقبه في تلك الأثناء ، تعدو متدلية ألسنتها من خطومها ، تشعر بالاختناق أحيانا فتتوقف تحت ظلال الحلفاء ، تربض فيتلاحق لهاثها ، ثم ما تلبث أن تعود إلى عذاب الشمس . أما الآن وقد اقترب من البيت ، فقد راحت تجري بكل ما وسعها الجهد .

في هذه اللحظة ، لمح " أولد " الذي كان في المقدمة ، مستر " جونز " خلف أسلاك المزرعة متشحا بزي أبيض يتوجه ناحيتها . أدار الجرو رأسه نحو سيده نتيجة لذكرى مباغته ، ثم قصده وهو يعوي :

- الموت ! الموت !

كانت بقية الكلاب قد لمحته أيضا فأخذت تنبح مهتاجة . رأته يجتاز الأسلاك . اعتقدت للحظة أنه سيخطئ ، ولكنه توقف عندما أصبح على بعد مائة متر منها . نظر إليها بعينيه السماويتين ، ثم تابع المسير . هتف " برنس " :

- يجب إلا يغذ السير !

عوت الكلاب :

- سيصطدم به !

وبالفعل تقدم الآخر بعد لحظة من التردد ناحيتها ، لكن بشكل غير مباشر هذه المرة ، في خط مائل . بدا لها وكأنه أخطأ الطريق ، لكن الطريق سيقوده حتما للقاء مستر " جونز " . أدركت الكلاب هذه المرة أن كل شيء قد انتهي لأن سيدها واصل السير بنفس الخطى كآلة ذاتية الحركة ، لا يعي شيئا . ها هو الآخر قد جاء خفضت ذيولها وجرت بجوانبها وهي تعوي . مرت ثانية واحدة ثم كان اللقاء . توقف مستر " جونز " ، دار على عقبيه ثم خر صريعا . رآه المزارعون وهو يسقط صريعا . حملوه على عجل إلى الكوخ لم يجد كل الماء معه شيئا . مات قبل أن يسترد وعيه . جاء مستر " مورد " ، أخوه لأمه ، من " بوينوس أيريس " . توقف ساعة في المزرعة ، وفي خلال أربعة أيام صفى كل شيء ، ثم عاد مسرعا إلى الجنوب . تقاسم الهنود الكلاب التي حل بها الجوع والجرب ، فكانت تخرج كل ليلة في صمت تتضور جوعا ، تخطف كيزان الذرة من المزراع الأخرى .

أوراثيوكيروجا مجلة العربي نوفمبر 1999

تقييم المقال: 1 ... 10

info@3rbi.info 2016