مختارات من:

أبو يعرب المرزوقي ومحمد الحوراني

المحرر

ابن تيمية وابن خلدون يشاركان في المسار التاريخي لنظرية المعرفة


فساد مناهج التفكير العربية مرتبط بفساد المنظومة التربوية
المجتمع المدني كما ورد في تراثنا ملازم للعمران البشري
يمكننا القول إن المفكر العربي التونسي أبا يعرب المرزوقي استطاع أن يخطو الخطوة الأولى, وهي الأصعب من غير ما شك, باتجاه التأسيس لفلسفة عربية معاصرة, لا تناصب الدين العداء وإنما تتفيأ ظلاله وتسترشد بتوجيهاته. ولعل نجاح المرزوقي في هذا عائد في المقام الأول لكونه خبر الفكرين الديني والفلسفي, الإسلامي والغربي, وبدأ يشق طريقاً ومنهجًا جديدًا, يسعى من خلاله إلى أن تستعيد الفلسفة دورها الرائد في البناء الديني والفلسفي. اهتمام المرزوقي هذا لا يقتصر على الفلسفة فحسب وإنما يتعداها إلى أمور أخرى, تتعلق بالنهوض السياسي والفكري الحضاري العربي والإسلامي. والحقيقة أن المرزوقي يمتلك الأدوات اللازمة للبحث في هكذا موضوع, فهو الضليع بأهم اللغات العالمية, كالإنجليزية والفرنسية والألمانية, والحائز على الإجازة في الفلسفة من جامعة السوربون في العام 1972, كما أنه درّس الفلسفة في كلية الآداب جامعة تونس الأولى, وتولى إدارة معهد الترجمة (بيت الحكمة) في تونس, قبل أن ينتقل لتدريس الفلسفة الإسلامية في الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا. في دمشق, وأثناء زيارة سريعة له, التقاه الكاتب السوري محمد الحوراني وأجرى معه الحوار التالي:

أدى إخفاق مشاريع النهضة أدى الإخفاق التاريخي لمختلف المشاريع العربية إلى إعادة النظر في ما سمي بالفكر النهضوي ومسائل الهوية والآخر. فهل تعتبر أن الكتابات الحالية حول النهضة تتلمس الأسئلة الحضارية التي تميز كل نهضة أم أن هذه الأسئلة ما زالت مغيبة في الفكر العربي?
- قبل الشروع في الجواب اسمح لي بإبداء ملاحظة سريعة أعلل فيها طبيعة العلاج الذي استعمله لتسليمي بأن قارئ مجلة (العربي) جدير به. فبالرغم من أن مجلة (العربي) ليست أكاديمية ولا مختصة لتوجهها إلى كل القراء عامة فإن ما عهدناه فيها يجعلنا نعتقد أنها لا تتضمن إلا القول الذي يتوفر فيه شروط هاتين الصفتين بشرط عدم استثناء غير المختص من المتابعة والفهم, رغم أن تعويد القارئ العربي على الإطناب غير المفيد قد يحول دونه وتأمل الصيغ اللصيقة بالمعاني الدقيقة. لكن المجلة على حد معرفتي بها لا تنشر ما ليس قابلا لشروط المعرفة الرصينة بشكل العرض الملتزم بفنيات الخطاب الموثوق. لذلك فإني سأحاول الإبقاء على خاصيات المقاربة الحائزة على هذه الصفات قدر المستطاع وتجنب ما يحول دون القارئ العادي والمتابعة والفهم بالحد من الإحالات والمراجع دون خلو القول منها في الحدود الدنيا التي ليس منها بد.

إن مسألة فشل المشروعات الفكرية باتت هنا محددة من خلال علاقتها بمطلب أشمل يخص جذرها أعني إصلاح مناهج التفكير. ومسألة التصدي للانحطاط والصمود أمام الغزو باتت هنا أكثر تحديدا من خلال صلتها بالسعي لاستعادة الفاعلية. وإذا انتقلنا من النتائج إلى المقدمات في مستوى التحليل المنطقي لمعرفة المعضلات التي تعترض الوجود العربي والإسلامي ومن المعلولات إلى العلل في الفهم الوجودي للمعضلات ذاتها وتأويلها, فكيف يمكن الوصل بين أزمة المشروعات الفكرية العربية والإسلامية وشرط التغلب عليها بإصلاح مناهج التفكير عامة والمنظومة التربوية خاصة? وكيف يمكن الربط بين التصدي لأسباب الانحطاط والصمود أمام الغزو بإصلاح شروط استعادة الفاعلية التي تقترح لها حلا الإصلاح الديني أو الإصلاح المجتمعي? كلما حاولت أن أقطع التسلسل الدوري في علاج الوضع الفكري العربي عاد بي التحليل إلى فساد مناهج التفكير عامة وفساد المنظومة التربوية خاصة.

كان هم ابن تيمية الأول منصبا على التمييز الشهودي بين الأمر الكوني والأمر الشرعي لتأسيس الفعالية الإنسانية الحرة في التاريخ من حيث هي امتحان للإرادة وأداء للأمانة: وتلك هي أولى فلسفات التاريخ المستندة إلى الحرية والمسئولية في تاريخ فكرنا عند بلوغه الذروة قبل تعطله الكامل خلال عصر الانحطاط. وكان هم ابن خلدون الأول منصبا على معوقات الاستخلاف أو الحرية المحققة لشروط العمران السوي فحصر هذه المعوقات في استبداد الدولة وسيطرتها على الثروة والتراث:

- فالدولة المستبدة تسيطر على الثروة فتتحكم في الملكية وتسخر العمل ملغية كل دوافع الإنتاج ومؤدية إلى المرض الاجتماعي الأساسي الذي نسميه الآن باسم سرطان الفساد في علاقته بالثروة ويسميه ابن خلدون بشرط الجاه في الحصول على الثروة دون عمل أو في حمايتها من استحواذ صاحب السلطان عليها.

- وهي تسيطر على التراث كذلك بتوظيف ممثلي السلطة الرمزية أعني سلطة الفقهاء والمتصوفة عاميا وسلطة المتكلمين والفلاسفة خاصيا فتحولهما إلى مجرد سلطة تبرير لسلوكها غير الشرعي. ويجتمع كلا الاستبدادين في نظام التعليم المبني على التسلط والقهر والذي خصص له الجزء الأهم من باب المقدمة الأخير ليبين أنه بالتسلط والقهر يفقد الإنسان معاني الإنسانية فقال قولته الشهيرة: (ومن كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلمين أو المماليك أو الخدم سطا عليه القهر وضيق على النفس في انبساطها وذهب بنشاطها ودعاه إلى الكسل وحمله على الكذب والخبث وهو التظاهر بغير ما في ضميره خوفا من انبساط الأيدي بالقهر عليه وعلمه المكر والخديعة لذلك وصارت له هذه عادة وخلقا وفسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع والتمدن وهي الحمية والمدافعة عن نفسه أو منزله وصار عيالا على غيره في ذلك بل وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل فانقبضت عن غايتها ومدى إنسانيتها فارتكس وعاد في أسفل سافلين. وهكذا حدث لكل أمة وقعت في قبضة القهر ونال منها العسف واعتبره في كل من يملك أمره عليه ولا تكون الملكة الكافلة رفيقة به وتجد ذلك فيهم استقراء) (المقدمة الباب السادس الفصل الأربعون ص. 42- 43 دار الكتاب اللبناني بيروت الطبعة الثالثة 1967). ولا يمكن أن نفهم العلاقة بين إصلاح مناهج التفكير والنظام التربوي إلا إذا تفحصنا هذه الصلة التي أدركها ابن خلدون, الصلة بين معاني الإنسانية وفعاليات الفكر. فقد حصر ابن خلدون هذه الصلة في معنى شامل ذي بعدين مضاعفين: بعد الفضائل الخلقية المضاعف وبعد الفضائل العقلية المضاعف.

- فأما البعد الخلقي المضاعف فهو الدفاع عن النفس الناتج عن الأنفة والحرية وشرطه شجاعة الصدق عند من لم يرب على الخوف والكذب.

- وأما بعد الفضائل العقلية المضاعف فهو ما ينتج عن الأنفة والحرية من الاعتداد بالرأي المستقل الذي يحصل بعد طلب الحقيقة الشخصي ثم القدرة مسئولية العقل الباحث والناقد. وكلاهما يحصلان بمقتضى التخلص من الانقباض الذي يجعله القهر والعسف حائلا دون النفس وغايتها ومدى إنسانيتها, أعني بلغة ابن خلدون الرقى إلى رتبة المعرفة العلمية كما يتبين من خطة المقدمة التي خصصت بابها الأخير لمقومات هذه الغاية من حيث هي مدى الإنسانية أعني تحقيق الإنسان مقومات ماهيته: ثمرات العقل من العلوم والآداب والفنون. وكل ذلك مستحيل حسب ابن خلدون في نظام تربية يقتل قوى النفس فيفسد معاني الإنسانية بأن يقبضها دون (غايتها ومدى إنسانيتها). ومن ثم فمناهج التفكير ذات وجهين بحسب القطب الذي تلتفت إليه مع بؤرة ينطلق منها كلا التوجهين انطلاقا يضاعفهما كليهما ليكون مركز تلاقيهما عند تقاطع القطرين. فإذا توجه النظر في مناهج التفكير إلى علاقة التفكير بموضوعه كان المقصود فنيات البحث وآلياته وأدواته. وهذا هو الوجه الذي يغلبه من يتصور المعرفة عملا آليا يمكن أن تقوم به آلة فيتحول الكلام في المنهج إلى شكليات جوفاء لا تسمن ولا تغني ما لم يصحبها الوجه الثاني. وإذا توجه النظر إلى علاقة مناهج التفكير بالذات المفكرة كان المقصود أحوال الباحث ودوافعه ومقاصده. وهذا هو الوجه الذي يغلبه من يتصور المعرفة عملا قلبيا يمكن أن يقوم به المتصوف في عزلته فيتحول الكلام في الطريقة إلى شطحات هوجاء لفوضى النفس لا تسمن ولا تغني. والجمع بين الوجهين لا يحصل إلا بفضل أثر التوجه الأول في التوجه الثاني وأثر التوجه الثاني في التوجه الأول ليحققا في العملية التفكيرية ذاتها من حيث بؤرة معاني الإنسانية شرط الإبداع المعرفي وسر الخلق في كل ثورات الفكر الإنساني أيا كان نوع الفكر المقصود دينيا كان أو علميا.

وبذلك يتبين أن إصلاح المنظومة التربوية العربية الإسلامية لا يمكن أن يكون المقصود به ما تدعو إليه أمريكا لتحقيق أغراض الصهيونية: تحقيق السلطان الروحي الصهيوني في العالم الإسلامي نظير ما تم في جل بلاد الغرب حيث يعد هذا الفكر باطلا مصدر الروحانية الغربية. فهي تريد نظاما ترويضيا ينفي معاني الإنسانية بمجرد حصرها في تصور وحداني يرفع بمقتضاه الوجود التاريخي العيني للحضارة الأمريكية إلى مثال أعلى على الآخرين قبوله راغمين. وبذلك يتم لهم الجمع بين السلطان الروحي الكوني ممثلا بإسرائيل والسلطان المادي الكوني ممثلا بالولايات المتحدة ويتحد السلطانان في فرض الثقافة التخديرية التي تتصدى للتنوير العقلاني بآليات المخيال البدائية وبفرز ما يمكن أن يعد أفيون شعوب جديدا تصديها السابق للتنوير الروحاني بالآليات الاستعبادية نفسها في نظرية الشعب المختار. وبذلك تنهدم ثوابت العقل بعد انهدام ثوابت الدين فلا يبقى إلا الشكاكية المطلقة التي تلجئ للعلاج المخيالي المنوم: وذلك هو بالذات موقف فكر ما بعد الحداثة المزعوم فكرها الذي جمع بين الجحودين المثالي والمادي. أما المقصود بالإصلاح التربوي عندنا فهو أمران:

- الأول هو تحقيق الشروط التربوية التي حددها ابن خلدون في هذه الفقرة: كيف يكون النظام التربوي محققا للفضائل الخلقية والفضائل العقلية التي وصفنا ليكون المواطن العربي والمسلم قادرا على تحقيق مدى إنسانيته من حيث هي عين الأمانة وشرط استئهال الاستخلاف: فحجة الله على الملائكة هي علم آدم بالأسماء.

- الثاني هو تحقيق الشروط التعليمية التي هي ثمرات هذه الفضائل لإحياء القدرة على الإبداع في مجالات القيم الخمسة الأساسية, مجالاتها التي لا يمكن لأمة أن تكون ذات قيام مستقل من دون الإبداع فيها: مجال القيم الجمالية ومجال القيم الخلقية (تطبيقات العلوم الإنسانية والطبيعية في الإنتاج الرمزي والمادي) ومجال القيم النظرية (العلوم الطبيعية والإنسانية) مجال القيم العملية (الأنظمة والمؤسسات السياسية والمعيارية) ومجال القيم الوجودية (فلسفة الدين والعلم). أما مشروع إسلامية المعرفة فهو أمر سبق أن أبديت فيه رأيي مبينا حدوده الفلسفية والدينية وقصوره الناتج عن تحوله إلى أيديولوجيا تتصور الإسلام رؤية للعالم فتحصره في نسق مقابل للفكر الغربي الذي يظنه أصحاب المشروع وحدانيا وعديم التنوع. فليس من سنن العمران البشري أن يوجد فكر بما في ذلك فكر الحضارة العربية الإسلامية واحد المنظور بل هو دائما منظومة لامتناهية من العدسات الحارقة التي تنتج صنوفا عديدة من الكشف تتعين في التجارب البشرية المتماثلة مهما اختلفت المضامين. ورأيي أن الإسلام لا يمكن أن يعد رؤية للعالم بل هو معين رؤى لامتناهية للعالم وما بعده.

الأيديولوجيات العربية

قلت في أحد مقالاتك إن الساحة الثقافية العربية تعيش صراعا بين تيارين, تيار إحياء التراث الفلسفي العربي الإسلامي وتيار استنبات التراث الفلسفي الغربي وكلاهما ما زالت تغلب عليه الأيديولوجيا والوعود أكثر من الإبداع والإنجاز. والسؤال هو: ما أسباب هذا الصراع وكيف يمكن التخلص من الأيديولوجيات المقيتة? وإذا كان البعض يرى أن المجتمع المدني هو نقيض الدولة ومعاد لها فهل يمكن لقوى المجتمع المدني أن تكون معادية لدولة ديموقراطية تقوم على مبدأ الشفافية واحترام القانون والمؤسسات الدستورية?
- لعل التعريف السريع لمفهوم المجتمع المدني وتطوره من المقدمات الضرورية في كل علاج للعلاقة بين الوجود الفعلي للمجتمع المدني والتوظيف الأيديولوجي له. فالمقابلة بين الدولة والمجتمع لها صياغة قديمة ووسيطة عبر عنها ابن خلدون, الصياغة بمقابلة مستمدة مما بعد الطبيعة هي المقابلة بين مادة العمران (فعاليتا المجتمع إنتاجا للقيم المادية والقيم الرمزية والصراع من أجلها) وصورته (فعاليتا الدولة سياسة للقوة والثروة). ويقصد ابن خلدون بالمادة هنا فعالية الصراع الملازم لإنتاج القيم وتوزيعها سواء كانت قيما مادية (الصراع الاقتصادي بين الفئات من أجل الخيرات المادية ومسألة الحقوق الموضوعية) أو رمزية (الصراع الفكري بين الفئات أو الصراع المذهبي والفكري من أجل القيم الرمزية بكل أصنافها ومسألة الحقوق الذاتية). فإذا جارينا ابن خلدون فاستعملنا مثله استعارة المادة والصورة لفهم العلاقة بين المجتمع والدولة بات من الواجب أن نستنتج أمرين من فصله الوجودي بينهما. فينبغي أن يكون للمجتمع من حيث هو مادة العمران صورة تخصه غير الدولة وإلا تعذر فصله عنها من حيث هي صورة. كما ينبغي أن يكون للدولة من حيث هي صورة العمران لها مادة تخصها غير المجتمع وإلا تعذر فصله عنها فصلا يكون مصدرا للتقابل بينهما. وسبب الفصل بينهما هو تداول الدول على المجتمع نفسه. كما أنه لو لم يكن الوصل بينهما حقيقيا لما أمكن للدولة أن تخنق المجتمع فتقتل العمران كما في نظرية الظلم مؤذن بخراب العمران. والصورة الخاصة بالمجتمع قبالة الدولة هي المعايير التي يعمل بمقتضاها ضربا القيم المادية والرمزية في العمران البشري. وهذه القوانين هي أصل فعالية كل القيم الرمزية والمادية لكونها تحدد موازين الحقوق والواجبات في العمران البشري وكلها ترد إلى معاني الإنسانية والأمل اللذين بهما يحيا العمران أو يموت العمران حسب ابن خلدون. وبذلك يتبين أن صورة مادة العمران الخاصة بالمجتمع هي حقوق الإنسان الطبيعية التي تتعين في ازدواج القيم الرمزية وانقسامها إلى قيم جمالية تنبع من التعبير عن القوى والحاجات الحيوية في الإنسان, وقيم روحية هي قيم القيم الجمالية حتى لا تنحط إلى الحيوانية. ويمكن التمثيل لهذا الازدواج في ثقافتنا بالتقابل بين قيم الأدب العربي وقيم الدين الإسلامي لكون المقدس لا يزال عندنا مقصورا على المقدس الديني ولم تتنوع حضارتنا التنوع الكافي لتصل إلى أشكال المقدس الأخرى مثل المقدس الفني والحيوي. كما تتعين هذه الصورة في ازدواج القيم المادية وانقسامها إلى قيم اقتصادية هي القيم الاستعمالية والتبادلية التي تنبع من الحاجات الأولية للحيواني من الوجود الإنساني, وقيم تلك القيم أو القيم الحقوقية والروحية التي تجعل كل خلل في التكافؤ التبادلي والتعامل بالمثل مصدرا لاختلال التوازن ومن ثم خراب العمران. ويمكن التمثيل لهذا الازدواج في ثقافتنا بالتقابل بين قيم السوق الموجهة بتعسف السلطان وقيم الشرع التي تجعل الخليفة ضامنا لسلامة العملة والحقوق من خلال إشرافه على القضاء المستقل عن السلطان في نظرية الأحكام السلطانية. وهدفنا من هذا التذكير بالمعنى العربي الإسلامي لمفهوم المجتمع المدني كما صاغ نظريته ابن خلدون مضاعف:1- بيان أن المفهوم ملازم للعمران الإنساني وليس من مبتدعات الفكر الحديث 2- وبيان أن جوهر الإشكال هو الازدواج القيمي في المجالين المادي والرمزي. فلولا التقابل بين القيم الجمالية والقيم الروحية لكانت الأولى نفيا للمتعاليات التي تعد هي بدايتها ولكانت الثانية نفيا لشروط إيجادها الفعلي التي هي غايته. ولولا التقابل بين القيم الاقتصادية والقيم الحقوقية لكانت الأولى مصدر نفي للحقوق التي تعد هي بدايتها ولكانت الثانية نفيا لشروط إيجادها الفعلي التي هي غايته. لذلك يموت العمران فور أن يتجمد المجتمع المدني في القوالب الدينية والقانونية فيموت بالسكون المطلق وينفلت العمران فور أن يسيل المجتمع المدني في شلال المؤثرات الجمالية والاقتصادية فيموت بالحركة المطلقة. وهو في كلتا الحالتين يموت موتته الطبيعية. وما يؤدي العمران البشري إلى هذا المآل أو إلى التخلص منه هو الدولة بصورتها ومادتها الخاصتين بها. فأما مادتها فهي دينامية السلطان على القوى الحيوانية من أجل السلطة المادية وأما صورتها فهي دينامية السلطان على القوى العقلانية من أجل السلطة المعنوية ما يجعل الدولة مؤلفة ضرورة من مصدري سلطان أولهما يمدها بالفاعلية المباشرة أو القوة والثاني بالفاعلية غير المباشرة أو الشرعية: ويمثل غاية المصدر الأول منظومة مؤسسات الحكم وإداراتها ومعاييرها, ويمثل غاية المصدر الثاني منظومة مؤسسات التربية وإداراتها ومعاييرها. فإذا أدركنا طبيعة مفهوم المجتمع المدني وطبيعة صلته بالدولة هذا الفهم بات من اليسير أن ندرك علل فشلنا في تفعيل مجتمعنا المدني ونجاح الأعداء في توظيفه من أجل استراتيجية الهيمنة التي تستعمل بذكاء روافع التغيير الذاتية من أجل تحقيق غايات أجنبية.

العلاقة بالفكر الغربي الحالي

ثمة ازدواجية شاملة تعيشها المجتمعات العربية والإسلامية نتيجة التعاطي المغلوط مع بعض المفاهيم لا سيما مفهوم الحداثة وما بعدها. ألا ترون أن المفكرين العرب هم الذين يتحملون مسئولية هذه الازدواجية لأنهم لم يحسنوا التعاطي مع الحداثة وما بعدها? من جهة أخرى وبعد أن استنفدت الحداثة طاقتها وقواها وبدأت تعيش أزمتها اتجهت الأنظار إلى ما بعد الحداثة. هل تعتقد أن ما بعد الحداثة قادرة على بعث الروح والحياة في حداثة انتهت أو شارفت على الانتهاء? ما المقصود بالحداثة وما بعدها وماذا يمكن أن يكون معنى هذين المفهومين عند استعمالهما لعلاج القضايا العربية والإسلامية?
- الحداثة, في مدلولها الفلسفي وصف لحركة فكرية ومعرفية مؤلفة لحظتين, كلتاهما بلغت الذروة في ترجمة قيمية واجتماعية. فاللحظة الأولى هي لحظة الإصلاح الديني والفلسفي وما صاحبهما من ثورة علمية في الطبيعيات والمناهج الرياضية خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر. فكانت ذروة هذه اللحظة حركة التنوير الناقدة لثوابت العقيدة أساسا للوجه العملي من الوجود الإنساني (التنظيم الاجتماعي والسياسي والخلقي). لذلك فهي قد أصبحت ثورة سياسية واجتماعية في بلاد أوربا وأسست لطغيان العقل في شكل الأيديولوجيات الشمولية التي كان أصلها قراءتين خاطئتين للفصام الذي انتهى إليه الحل النقدي. القراءة الأولى ترد فعاليات العقل إلى مبادئ النظر وشروطه كما حددها النقد الكنطي, والقراءة الثانية ترد فعاليات العقل إلى مبادئ العمل وشروطه بحسب التحديد نفسه. فكان أن أفرزتا الوضعية النظرية (فلسفة التاريخ الوضعية التي ترد مبادئ العمل وشروطه إلى مبادئ النظر وشروطه) والوضعية العملية (فلسفة التاريخ الماركسية التي ترد مبادئ النظر وشروطه إلى مبادئ العمل وشروطه). واللحظة الثانية هي لحظة الإصلاح السياسي والاجتماعي وما صاحبهما من ثورة علمية في الاجتماعيات والمناهج التاريخية خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. فكانت ذروة هذه اللحظة حركة اكتشاف ثغرات التنوير خلال القرن العشرين اكتشافا انتهى إلى حركة النقد النسقي لثوابت العقل وباتت ثورة على الثورة ونفيا لكل المطلقات. والجمع بين الذروتين هو الحصيلة الفكرية والمجتمعية والمتمثلة في نفي الثوابت العقدية ونفي الثوابت العقلية نفيا هو جوهر حركة ما بعد الحداثة. وبخلاف ما يتصور البعض فإن النقد الكنطي لا ينتسب إلى اللحظة الأولى فحسب بل هو في الوقت نفسه غايتها وبداية اللحظة الثانية. ذلك أنه فور أن نشرع في سد الباب أمام ميتافيزيقا الوثوقية بالنقد الكنطي نفتح الباب أمام ميتافيزيقا الشكاكية فيجرد الشرطي الكنطي من كل أدواته ولا يبقى قادرا على الفصل بين الملكات. وفور أن نئول مسلمات العمل بقراءة نتيشوية لنرجعها إلى الأكاذيب النافعة في مجالات النقد الثلاثة ندرك حقيقة فكر ما بعد الحداثة: فيكون كل فكر مجرد لعبة لسانية تستعمل منظومة مفردات نهائية أساسها استعارات تحكمية على حد تعبير رورتي. لم يبق أمام العقل إلا آليات المخيال البلاغي التي تنسب الرئاسة العقلية لألاعيب اللسان والمخيال بعد طوفان الفاشيات التي استندت إلى الشموليات التنويرية من الهتلرية إلى الموسيلينية إلى الستالينية إلى الديموقراطية الكرنفالية على الشكل الأمريكي.

فلا تكون ما بعد الحداثة إلا فكرا سوفسطائيا محدثا وظيفته الحقيقية تبرير الأمر الواقع بالتخلي عن أساس الثورة عليه, أعني التنوير الديني والتنوير العقلي وذلك في مستوى الواقع الرمزي أو معاني الكائنات والواقع المادي أو حدثها. لذلك فإني أعجب ممن يتصور ما بعد الحداثة ثورة على شمولية الحداثة وقد تكون بديلا منها يخلص من ثمراتها المرة. إنها في الحقيقة اليأس من كل إمكان للتحرر منها ويستبدل بالصمود والكفاح الديني والعقلي الهروب إلى ألاعيب اللسان والأدب المحتال المتلاعب بالمخيال والخادم للدجال الذي يدعي النقد والسؤال فيحصر دور الدين والعقل في اضطراب العرائس في مسارح الكرنفال عندما تتحرك أياد خفية هي الماسونية والصهونية مجتمعتين في المسيحية الصهيونية التي جمعت كل هذه الخيوط في أمريكا مركزا للتلاعب بالمال والمخيال أداتين لتحويل المآل كما ترتضيه أخلاق الدجال بقناع الحرية والمثال.

المحرر مجلة العربي يناير 2005

تقييم المقال: 1 ... 10

info@3rbi.info 2016