مختارات من:

إلى أن نلتقي

جهاد فاضل

الدوري واقتصاد المنزل


روى المؤرخ العربي الكبير الراحل الدكتور عبدالعزيز الدوري في حفل تكريمي أقيم له في عمّان قبل رحيله بسنوات قليلة، أن زوجته قالت له مرة: «ليتك أوليت اقتصاد المنزل ما أوليته لاقتصاد العرب في التاريخ». كانت الزوجة تشير بذلك إلى كتابات متميزة لزوجها حول الجانب الاقتصادي في التاريخ العربي، بدأها باكرًا بأطروحته لنيل الدكتوراه من جامعة لندن عام 1942 وكان موضوعها «تاريخ العراق الاقتصادي في القرن الرابع الهجري»، ثم أتبعها بعد ذلك بعدة أبحاث، كان منها «مقدمة في التاريخ الاقتصادي العربي». ولكنها كانت تحتج ضمنًا على اقتصاد جبّ اقتصادًا آخر يعنيها أكثر مما يعنيها اقتصاد التاريخ العربي.

إنه اقتصاد المنزل الذي لحقه ظلم أو جور من الزوج، وهو أكاديمي كبير انصرف إلى التأليف والتدريس عرفته الجامعات العربية التي درّس فيها، سواء في بغداد أو في عمّان أو في بيروت، أو في سواها، مؤرخًا كبيرًا يختلف عن أي مؤرخ آخر من حيث الإحاطة والمعرفة والتعمّق. وتعتبر كتبه التي تتمحور حول تاريخ العرب منذ القديم إلى وقتنا الراهن، من أثمن ما أنتجه المؤرخون العرب في القرن العشرين، ولكن كل ذلك إن كان له انعكاسه على علم التاريخ عند العرب، فإن أثره على صعيد «اقتصاد المنزل» كان محدودًا لا يكاد ينهض إلا بما هو ضروري لاستمرار الحياة. إذن ما الذي يمكن أن يجنيه المرء من مهنة التأليف أو مهنة التدريس في الجامعة؟ وسواء كان هذا المؤلف أو المدرّس عميدًا لجامعة بغداد، أو مدرّسًا للتاريخ في الجامعة الأردنية، أو أستاذًا زائرًا في جامعة بيروت الأمريكية، فإن راتب آخر الشهر راتب محدود لا يكاد ينهض بمعيشة أسرة لها الحق في أن تحيا حياة كريمة.

ويبدو أن سيرة العلماء الكبار مثل الدكتور الدوري لا تختلف أحياًنا كثيرة عن سيرة الدوري. من هؤلاء الذين عرفتُهم عن قرب وخبرتُ الحياة المتواضعة لهم في منازلهم الدكتور جمال حمدان صاحب «شخصية مصر» الكتاب الموسوعي عن تاريخ وجغرافية مصر الذي لم يكتب مثله أحد حتى اليوم. فقد زرته مرارًا في منزله بالقاهرة وشاهدت من «اقتصاد المنزل» ما لم أشاهده إلا في اقتصاد البيوت المدقعة في فقرها. من الصعب تسمية ما جلسنا على كراسيه غرفة استقبال، لأن قماش مقاعدها اغبرّ لونه وفقد تماسكه، ولأن الخشب نفسه قد تآكل وفقد لونه الذي كان عليه قبل عشرات السنين. وكانت غرفة الاستقبال مفتوحة على مطبخ بدائي، على البوتاغاز فيه قدر يحرّكه الدكتور بيده. كان الدكتور يحضّر بنفسه طعامه دون أن تكون عنده زوجة أو خادمة تخدمه. وكان يلبس بيجاما شعبية فقدت ألوانها الأصلية مع الوقت، وعلى الأرجح لم يكن لدى جمال حمدان بديل لها. وكان في الصالون الذي جلسنا فيه طاولة بسيطة عليها كتب وأوراق وأقلام.

على أن من يعد إلى التاريخ العربي يجد أن العلماء العرب الكبار كانوا مثل الدوري وجمال حمدان من حيث الزهد والانصراف إلى العلم وإهمال «اقتصاد المنزل». ويبدو أن الدوري لفرط معايشته للجاحظ والتوحيدي وابن قتيبة وسائر أعلام العرب في التاريخ، تأثر بهم وسار على نهجهم، دون أن يتنبّه إلى أمر جوهري هو أن «اقتصاد المنزل» في مدينة وبيئة عصرية اليوم، هو غير اقتصاد المنزل في القرن الثالث أو الرابع الهجري.

على أن الله لا يضيع أجر مَن أحسن عملاً. فهاهي جائزة سلطان بن علي العويس تمنح نفسها للأعمال التاريخية الجليلة التي أنجزها الدكتور عبدالعزيز الدوري في حياته، فتقدّم مددًا جديدًا مشكورًا للاقتصاد المنزلي الذي لم يوله الدوري في حياته ما أولاه للجانب الاقتصادي في التاريخ العربي. والجائزة على هذا الأساس هي جائزة كل العرب لمؤرخ ومفكر كبير خدم العرب بإخلاص ما بعده إخلاص، وعلى أمل أن تنشأ عندنا مؤسسات تُعنى برعاية العلماء وتؤمن لهم كل ما يحتاجون إليه من نوع المؤسسات الموجودة عند الفرنجة.

جهاد فاضل مجلة العربي يونيو 2012

تقييم المقال: 1 ... 10

info@3rbi.info 2016