العامية والرقابة وثقافة الخرافة
شيع في هذه المرحلة ظواهر ثقافية سلبية عديدة, وسوف نشير إلى ثلاث منها, وهي:
1- تفشي العامية : فقد اتسع نطاق النشر والبث المرئي والمسموع باللهجات العامية بصورة تلفت النظر. وكان الأمل أن تُستثمر وسائل الاتصال الجماهيري - الصحف, الإذاعات, القنوات الفضائية - في إشاعة الفصحى, فهي الأداة المفهومة للكافة, والقادرة على تحقيق التواصل بين الناطقين بالضاد, أينما وجدوا, وأيا كانت لهجاتهم المحلية, ولأنها من بعد العامل الأهم والأبقى لتوكيد وحدة الثقافة العربية.
2- شيوع ثقافة الخرافة : إذ يلاحظ اتساع النشر والبث لكل ما يفضي إلى تغييب العقل, والاستسلام للخدر. ومن مظاهر ثقافة الخرافة التي اتسع غزوها لعقل المتلقي, المطبوعات والبرامج المسموعة والمرئية التي تتناول قضايا السحر والجن والشعوذة وتفسير الأحلام وقراءة الطالع, وما إلى ذلك من مواد تشكل خطرا قد يفوق خطر المخدرات.
وإذا كانت المخدرات التي يحرمها القانون متصلة بفئة معينة من المواطنين الجانحين, فثقافة الخرافة تعد مؤثرات عقلية تجتاح عقول الجماهير الواسعة, وتقتحم عليهم بيوتهم دون استئذان, وتتسلل إلى عقولهم لتوسعها تدميراً, فضلا عن آثارها الاجتماعية والنفسية الخطيرة. ومع كل ذلك يبقى مروجو تلك المؤثرات العقلية الخطيرة في منأى عن المساءلة أو الملاحقة. ويبقى المستهلك الثقافي بعيداً عن الحماية, لأن أجهزة حماية المستهلك معنية بما يتصل بالمعدة أكثر من عنايتها بما يتعلق بالعقل.
3- تعدد الرقابات : كان الباحثون والمبدعون من قبل مقيدين بالرقابات الرسمية التي تنظمها قوانين المطبوعات والنشر. وعلى الرغم من عدم وجود مسوّغ للرقابة في عصر ثورة الاتصالات, فقد بقيت تلك القوانين على حالها. غير أن الأمر الذي لم يكن في الحسبان هو ظهور رقابات أخرى غير رسمية, تمارسها هيئات أهلية وأفراد دون وجه حق.
وإذا كانت قوانين المطبوعات والنشر تحدد محظورات النشر, فالرقابات غير الرسمية, التي تمارسها الهيئات الأهلية والأفراد تبقى غائمة, وخاضعة للتأويلات والأمزجة, فحين يشتد الغلو تتسع التأويلات السيئة للنصوص.
ولعل أخطر ما في الرقابات غير الرسمية استغلالها الدين بصورة غير مناسبة لتأويل المقاصد, ومحاكمة النوايا, والتضييق على الناس. وفي ذلك تخريب لمناخ البحث العلمي والإبداع من جهة, وإساءة إلى الدين من جهة أخرى, فضلا عن التعدي على الحريات التي تكفلها الدساتير عادة.
وبعد, فلعل من المفارقات الغريبة أن نوسع لغتنا القومية تدميراً وتمزيقاً في عصر العولمة والتكتلات الكبرى, ونفسح في المجال لثقافة الخرافة في الوقت الذي يحقق فيه العالم منجزات علمية وتكنولوجية هائلة, ونبتكر أساليب جديدة للرقابة والتضييق على الحريات في زمن يشهد ثورة الاتصالات.