كانت قيم الاستنارة هي المهاد الذي تحقق في ظلاله التقدم العلمي والتكنولوجي, فهل يمكن أن يدمر التقدم التكنولوجي قيم الاستنارة?!
كان انهيار المعسكر الاشتراكي, وحل الاتحاد السوفييتي في بداية التسعينيات من القرن الماضي تطورا غاية في الأهمية والخطورة, بعيد الأثر في مستقبل الجماعة الإنسانية في العالم بأسره, وكان التقدم التكنولوجي الهائل الذي تحقق في الغرب, وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية, هو العامل الحاسم في انتصار المعسكر الغربي في الحرب الباردة التي دامت حوالي خمسة وأربعين عامًا, بعد الحرب العالمية الثانية, بل يمكن أن يقال إنه كان صراعا دام أكثر من سبعين عاما منذ الثورة البلشفية في روسيا عام 1917, بين النظام الرأسمالي الإمبريالي المسيطر على العالم, والنظام الجديد الذي أنشأته تلك الثورة باسم الاشتراكية وتأسس عليه الاتحاد السوفييتي (السابق) والمعسكر الدولي الذي التأم فترة حوله, حتى اضطر أخيرًا للاستسلام لخصمه المتفوق تكنولوجيًا.
وبالطبع فإن من حق المعسكر الغربي وساسته ومفكريه أن يتشدقوا بأن الانتصار كان لديمقراطيتهم على (الاستبداد) الشيوعي, والنظام (الشمولي) باسم العدالة الاجتماعية والمساواة, التي كانت تعني في النهاية المساواة في الفقر, ومعاناة الطغيان المذهبي والحكومي, ومصادرة الحريات السياسية وحرية العمل والكسب.. الخ.
ثورة خارج شروطها
وبداية, ينبغي أن نتذكر أن الثورة البلشفية في روسيا قد تمت بالمخالفة لما قرره مؤسسا المذهب الاشتراكي, الذي ينتسب إليه زعماء تلك الثورة, وهو مذهب كارل ماركس ورفيق نضاله فردريك إنجلز, من أن (الثورة الاشتراكية) سوف تكون نتيجة طبيعية للتطور العلمي والصناعي والاقتصادي, الذي تحققه الرأسمالية, وأن البلدان الرأسمالية الصناعية المتقدمة, سوف تكون هي البيئة الطبيعية لتلك الثورة, حتى تصبح (المساواة) تقدما حقيقيا, وليس ظاهريا أو مفتعلا. حتى بالنسبة لنظام الحكم, فإن كارل ماركس الذي صاغ تعبير (ديكتاتورية البروليتاريا) - أي الطبقة العاملة, التي سوف تحكم باسم الثورة الاشتراكية - قرر أن الإطار السياسي لتلك الديكتاتورية, سوف يكون هو الديمقراطية البرلمانية.
ولكن لينين, زعيم الثورة البلشفية, الذي أقدم على إنجاز تلك الثورة في بلد متخلف وهو روسيا القيصرية, كان له تأويله الخاص لمبدأ ديكتاتورية البروليتاريا, وهو أن ديكتاتورية البروليتاريا, تعني ديكتاتورية طليقها, التي هي الحزب الشيوعي الذي أسسه بالانشقاق عن الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية, وتمارس تلك الطليعة ديكتاتوريتها, ليس من خلال الديمقراطية البرلمانية, بل من خلال المجالس الشعبية أو السوفييت (باللغة الروسية), والتي شبهها بكوميون باريس في ثورتها الفاشلة عام 1870.
تأويل للثورة
إن لينين في واقع الأمر قد أنشأ مذهبا خاصا به, بالرغم من كونه كان يعتبر نفسه تلميذا لكارل ماركس, وقد حرص أتباعه من بعده وعلى رأسهم جوزيف ستالين على تمييز مذهبهم عن الماركسية التقليدية التي عرفها العالم, وخاصة في الغرب, باسم الماركسية اللينينية, التي هي في واقع الأمر مذهب روسي من صنع الأوضاع الخاصة لروسيا, والتي جعلت لينين يعتبر أن كل تناقضات العصر الإمبريالي للرأسمالية قد اجتمعت فيها وجعلتها حبلى بالثورة, وتوقع لبلاده نصف الأوربية نصف الآسيوية, أن تصبح هي طليعة العالم في عهده الاشتراكي الجديد, ولكن كما قال شاعرنا المتنبي:
تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن!
وكان التعليل المنطقي الذي ذهب إليه المحللون لتحول الديكتاتورية السوفييتية إلى طغيان مطبق في عهد ستالين خليفة لينين, هو أن الدولة السوفييتية الوليدة لم تكن مهمتها في واقع الأمر تحقيق المساواة للطبقة العاملة التي تحكم باسمها, بل على العكس, كان عليها أن تقوم باسم (بناء الاشتراكية) باللحاق بالتقدم الصناعي الذي تحقق في الغرب على يد الرأسمالية, وذلك بانتزاع فائض القيمة من كدح الطبقات العاملة, كما فعلت الرأسمالية, سواء بسواء.
وكان من طبيعة الأمور في ظل هذا الوضع, أن تذهب الغنائم والطيبات المحدودة التي يتيحها الاقتصاد المتخلف, الذي يسابق الزمن للحاق بما فاته إلى طبقة محدودة من قادة النظام, فضلا عن أعباء التسلح الباهظة التي فرضتها العداوة مع النظام الرأسمالي الذي يسود العالم, والذي تمثل في حروب التدخل بعد الثورة مباشرة, ثم في الحرب العالمية الثانية, بالغزو النازي, وأخيرا في الحرب الباردة, وسباق التسلح مع أعظم اقتصاد صناعي عرفه التاريخ وهو الاقتصاد الأمريكي, بحيث لم يعد النظام الاشتراكي يلقي للجماهير الكادحة - حتى نهاية الحرب الباردة - إلا بالفتات, في ظل أحلام مضيعة, فتركت الجماهير هذا النظام يسقط دون أن تحرك ساكنًا للدفاع عنه, وإن بكى عليه بعضها بعد فوات الأوان!
وماذا بعد الانهيار?!
والآن, فماذا بعد الانتصار الحاسم للديمقراطية الغربية على عدوها (الشيوعي), بما في ذلك انتصار اقتصادها الحر, الذي يتحول إليه في واقع الأمر حتى النظام الاقتصادي الصيني, رغم احتفاظ الحزب الشيوعي بالسلطة المطلقة, وإن سمح بأن ينضم إلى قيادة الحزب بعض (الرفاق) الرأسماليين!!
هل يعني ذلك أن تسرف الرأسمالية المنتصرة في استغلال الشعوب إلى الحد الذي دعا بابا الكاثوليك يوحنا بولس الثاني البولندي الأصل, والذي كان من أكبر العاملين على إسقاط النظام الشيوعي في بلاده وفي سائر العالم, إلى وصف الرأسمالية المعاصرة, بأنها (رأسمالية متوحشة), بعدما رآه في بلاده وفي غيرها, بعد سقوط الشيوعية, من تكالب فاحش على المغانم دون أي اعتبار للجوانب الاجتماعية في الحياة الاقتصادية?!
هل يعني سقوط الشيوعية, أن تسقط معها كثير من القيم الإنسانية, التي تحققت في عهدها, مثل المساواة بين سائر البشر في حقوق الإنسان بغض النظر عن لونه أو لغته أو عقيدته الدينية, وأن تحل مذابح التطهير العرقي محل تلك المساواة, كما حدث في يوغوسلافيا بعد انهيار نظامها الشيوعي, وخاصة في جمهورية البوسنة والهرسك, التي كانت أحد مكونات الاتحاد اليوغوسلافي, وتسكنها أغلبية من المسلمين, وكما يحدث في الشيشان, التي يطالب المسلمون فيها بالاستقلال عن الاتحاد الروسي?!
هل يعني انهيار المعسكر الاشتراكي أن تنهار مبادئ القانون الدولي والمساواة بين مختلف الدول صغيرها وكبيرها في الاحتفاظ باستقلالها واحترام سيادتها الوطنية على أراضيها?! بحيث يعود العهد الاستعماري القديم ويصبح من حق الأقوياء اجتياح أراضي الضعفاء وانتهاك كرامتهم القومية كيفما شاءوا ووقت أن يشاءوا?
هل يعني انتهاء الحرب الباردة والصراع الدولي ما بين المعسكرين, أن يحل صراع الحضارات - كما يدعو بعض مفكري الغرب - محل الصراع المذهبي, وأن تسخر الإمكانات التكنولوجية الهائلة التي يتمتع بها الغرب لقهر أصحاب الحضارة العربية الإسلامية, وفرض الأحلام الجنونية للصهيونية العالمية في السيطرة على المنطقة العربية الإسلامية, باسم إعادة ملك إسرائيل, وإعادة بناء هيكل سليمان على أنقاض المسجد الأقصى?!
إنها لمفارقة شنيعة في الحضارة التكنولوجية المعاصرة, أن يصاحبها كل هذا التخلف على مستوى ما اكتسبته الإنسانية من قيم الحرية والمساواة.