مختارات من:

صندوق مارتينا

عائد خصباك

خرج مصطفى واثنان معه من داخل المصعد الذي توقف في الدور الرابع, وقد أحاطوا بالنقّالة يدفعونها أمامهم, قطعوا الممر الذي واجه باب المصعد عابرين الأبواب التي تقع على جانبيه من بينها باب الصيدلية المفتوح, ومن دون أن يقف ألقى بالتحية: يوم سعيد آنسة مارتينا. من داخل الصيدلية تمنّت مارتينا يومًا سعيدًا له أيضًا بصوت سمعه مصطفى جيدًا, بالرغم من أنه ابتعد عن الباب المفتوح, سمع بعدها أيضًا تأكيدها على أنها ستمر عليه فيما بعد. قبل قليل سمعت مارتينا صوت دواليب النقالة خارجة من المصعد, سماع ذلك الصوت يعني أنها ستسمع أيضًا صوت مصطفى بعد لحظات يسلّم عليها. كانت تعرف أنه سيفعل ذلك مادام باب الصيدلية مفتوحًا, لقد ألفت سماع صوته خلال اليومين الأخيرين, في مثل هذا الوقت وأوقات أخرى أيضا, كل مرة يعني الصوت لها: أنا موجود إذا كنت في حاجة لي, اطلبي مني شيئا وسترين كيف يكون عندك حالاً. لم تسأل نفسها لماذا يسلّم عليها بالذات ولا يسلم على زميلتها في العمل, من جانبها لم تهتم بهذا الموضوع كثيرا, كما لم تعط اهتمامًا لموضوع النقالة, ومن هم أولئك الذين يُنقلون عليها, ممن فارقوا الحياة, لتأمينهم في الثلاجة ريثما يأتي مَن يتسلمهم من أفراد أسرهم أو ممن يهمهم الأمر. طلبت مارتينا من مصطفى مساعدته منذ أن تعطلت الثلاجة الصغيرة الموجودة في الصيدلية قبل يومين, فلم يعد لديها ما تحفظ فيه العصير الذي تجلبه معها ليبقى باردًا, فضلاً عن لفائف الأكل الذي تتناوله في استراحة منتصف النهار. لم يسألها مصطفى هل أخبرت إدارة المستشفى بالخلل الذي حصل أم لا, بل اقترح عليها فورًا حفظ ذلك في واحدة من الثلاجات التي تقع في مسئوليته, فغالبًا ما يكون بعضها غير مشغول, ريثما يتم إصلاح العطل في ثلاجة الصيدلية أو استبدال أخرى جديدة بها, كان عليها أن تعترف أنها أصبحت تشرب العصير مرة بعد مرة, فكلما سمعت صوت دواليب النقالة شعرت بالعطش, وكلما سمعت صوته سارعت إلى ما يروي ظمأها تشرب منه. هناك شيء آخر أصبحت تشعر به أيضًا هو أنها لم تعد معزولة في مستشفى يوحنا بمدينة بون, وكل ملابسها بيضاء, القميص والبنطلون والحذاء, مفروض عليها عدم التحرك إلا بالكاد, فمدير المستشفى كان قد أبدى استعداده لفرض عصا الطاعة على العاملين جميعًا بشأن عدم إضاعة أيّ وقت هو ملك للمستشفى إلاّ في حدود ضيقة جدا, وبشأن الملابس الموحّدة لكل فئة تعمل ابتداء من الأطباء إلى من يعملون في التنظيف, لذلك لم تتعرف إلاّ على القلّة منهم, وهؤلاء لم تتعرف من خلالهم ولو بصوت غير مسموع على تفصيلات من أحداث دارت في المستشفى أبطالها أطباء أو ممرضات أو مرضى راقدون على أسرّتهم في ردهات وصالات العمليات, سواء من المواطنين الذين يحق لهم الإدلاء برأيهم وصوتهم في صناديق الاقتراع أو من الغرباء, من المهاجرين وطالبي اللجوء من النساء والرجال ممن يتكلم بلغة ألمانية سليمة أو من ينطق بها ركيكة أو ممن لا يتكلم بأكثر من لغته الأم.

بعد عشر دقائق التحقت به في الثلاجة, فتحت الباب ودخلت, وجدت مصطفى مرتديا رداءه الأخضر الخاص بالعمل, جالسًا إلى المنضدة المستطيلة التي تتوسط المكان, يتناول فطوره, استطاعت أن تشم رائحة القهوة مع البخار المتصاعد من الكوب القريب من كفه. كانت هناك ثلاجة في الجهة المقابلة للباب تكاد تصل إلى أعلى قامة المرء فيها ستة عشر بابا, ولكيلا تشغله, أبدت استعدادها لوضع الزجاجتين بنفسها, مدّت يدها إلى واحد من هذه الأبواب تريد فتحه فقال محذّرًا: لا, هذه مشغولة. أرادت أن تفتح بابًا آخر مجاورا له فقال: هذه أيضًا مشغولة, وأشار بأصبعه: تلك فارغة.

قالت: رقم 7.

أخذ رشفة من الكوب وقال: لا, رقم 5.

طالعها منظر القدمين المتجاورتين, وثمة ورقة صغيرة معلقة بإبهام اليسرى, فيها معلومات مدرجة, عادت على الفور وأغلقت الباب, قال لها: إذن رقم 7, افتحي هذا الرقم.

وضعت الزجاجتين في تجويفها الفارغ البارد العميق, وعاد كل شيء إلى وضعه السابق. في هذين اليومين كان مصطفى قد عاش معها قصة هروب عائلتها من رومانيا في أواخر السبعينيات, هربًا من بطش شاوسيسكو وزوجته ومساعديه في الحزب الذين كانوا على رأس السلطة, كان عمرها آنذاك ثلاث سنوات. وعرفت منه أنه مهاجر مغربي عبر جبل طارق في زورق يضم أكثر من أربعين شخصًا, عربًا وأفارقة, بعضهم في عمر عشر سنوات مثله, وآخرون في أعمار متفرقة بعضهم اجتاز سن الخمسين, في إسبانيا ألقي القبض عليه واحتجزته الشرطة خمس ليال بتهمة الهجرة غير الشرعية, بعدها استطاع الخروج من إسبانيا بصحبة اثنين من الشباب المغاربة, تركاه عند الحدود, وفي رحلة مع عائلة برتغالية امتدت قرابة أسبوعين من تغيير وسائط النقل والتخفي عن أنظار من يمكن أن يأتي لهم بالمتاعب وصلوا إلى فرانكفورت, وهناك فارقهم لكي توصله القطارات إلى بون, وفيها التقى بالشخص الذي قطع كل تلك المسافة ومرّ بتلك الأهوال من أجل اللقاء به, وتسليمه الرسالة التي حرص على ألا تضيع منه, وفيها توصية من ذويه بمدّ يد المساعدة لهذا الصبي لأن عائلته ترتبط معهم بعلاقة قرابة, كان ذلك قبل ثمانية عشر عامًا. عرف منها أنها وقعت في حب شاب قدم من الأكوادور في أمريكا الجنوبية يدرس الرياضيات في جامعة بون, في الوقت الذي كانت تدرس فيه علوم الصيدلة, حين كانت تذهب إلى سكنه الصغير يترك لها الحمّام بعد أن يغتسل دون أن يفكر بتنظيفه, كذلك أواني الطبخ وأدوات الطعام لتنظفها, لا شعوريًا كان يريد منها أن تتحرك لكن خلفه, حاولت أن تستمر معه بالرغم من أن العلاقة بينهما امتدت لشهور عدة, من جانبها بذلت ما بوسعها لتحسين سلوكه, لكنه رفض المساواة, كلّمته فلم يؤد ذلك إلى نتيجة, انفصلت عنه بعد أن أمضيا فصلاً دراسيًا كاملاً معًا, وقد حصل أن التقت به مرة أو اثنتين لكنها حسمت أمر الابتعاد عنه مع أول فرصة عمل توافرت لها في هذه المستشفى ومكانها موجود في صيدليتها. عرفت منه أنه خلال السنوات التي مرت به درس إلى المستوى الذي أهّله للدخول في مركز للتدريب المهني تلقى فيه تعليمًا مكثفًا للقيام بمثل هذا العمل الذي يمارسه الآن. عرف أنها تستمتع بهوايتها كما يحلو لها, في مقدورها أن تستقل سيارتها وتذهب إلى أي شخص, مهما كلّفها ذلك من وقت وجهد, من أجل دودة يحتفظ بها لها, أو شرنقة تدلت في خيط معلق. بغصن, لتأتي بها وتضمها مع غيرها في صندوقها الزجاجي على طاولة في زاوية غرفتها, كثيرًا ما تمتّعها مراقبة التغيّر الذي يحصل في صندوقها يوميًا, من دودة تزحف على غصن, إلى شرنقة, ثم فراشة بجناحين رائعين بمختلف الألوان والأشكال والأحجام, شيء رائع وحيوي.

ينحصر عملها في تجهيز الطلبات من الأدوية التي تقدّم للمرضى الراقدين في المستشفى ومراقبة سير عمليات دخول الأدوية وخروجها من الصيدلية على جهاز الكمبيوتر وتسجيل الملاحظات والأرقام, وهذا يدخل في اختصاصها أيضًا. وإذا ما وجدت وقتًا, تتصل تلفونيا بمن تعرف لطلب مساعدته, من الجيران وغيرهم, قسم منهم يقوم بدراسة للنبات أو بزرعه, آخرون يعملون في المستودعات والأرشيف, طلاب أو طالبات باختصاصات مختلفة, قسم منهم عندهم أشجار في حدائق بيوتهم وآخرون يسكنون في أماكن قريبة من الغابات تطلب منهم إذا ما وجدوا دودة تزحف أو شرنقة تتدلى أن يحتفظوا لها بالغصن أيضًا, ومن جانبهم لم يسألها أحدهم عن نوع الأشجار التي تريد منهم أن يفتشوا فيها, فهم يعرفون أنها تريد منهم الإسهام في موضوع هوايتها. أحيانًا كان هناك مَن يخبرها أنه وجد لها ما تطلبه وأنه يحتفظ لها بدودة أو شرنقة وربما أكثر من ذلك, كانت تفرح وتشكره, وتعده أنها ستمر عليه بعد الانتهاء من العمل, وتفعل ذلك. أحيانا تضطر لأن تعيد على بعضهم ما سبق أن قالته عن قلقها من ندرة الفراشات هذا الربيع, فمنذ بدايته إلى الآن وقد قارب على الانتهاء, لم تر منها إلاّ أعدادًا لا تطمئن إليها, إنها تخاف عليها من الحشرات مصاصة الدماء والقراد والمبيدات التي لها القوة على الفتك بها, كل ذلك ولم تطلب من مصطفى إلى هذا الوقت أن يساعدها في هذا الموضوع, ربما لو طلبت منه ذلك سيجد الوقت للبحث معها في أشجار الحدائق والغابات, أثناء أيام الإجازات, عما تريد أن تودعه في صندوقها الزجاجي. كثيرًا ما يحدث أنها بعد الانتهاء من عملها, تخرج مسرعة من المستشفى محاولة الاستفادة قدر المستطاع مما تبقى من النهار, تقود سيارتها إلى مكان ذلك الذي اتصل بها, لأخذ ما كان وعدها به, كانت تحاول أن تجعل من تلك الساعات شيئًا حقيقيًا, يعطيها شعورًا بالراحة التامة مهما كانت النتيجة, كان ذلك يأخذ منها أحيانًا أكثر من ساعة للوصول إلى المكان, وساعة أخرى للوصول إلى البيت, سترفع بعد ذلك القماش المشبّك عن أعلى صندوقها الزجاجي, لتودع فيه ما جاءت به, كل ذلك يحتاج إلى وقت طويل, تنظر فيه إلى الدود وهو ساكن أو زاحف على الغصن أو يقتات من الأوراق, تراه يتحرك ويقضم بنعومة وظهره أملس وأرجله كثيرة تتحرك جميعها في آن واحد, كان لونًا يتطابق مع خضرة الأوراق بشكل كامل, تنظر إلى الشرانق المتدلية بخيوط لا تكاد تراها من الغصن, أحيانًا إذا وجدت فراشة قد أخرجت رأسها من الفتحة الحريرية يأخذها الحماس فتبدأ بالضغط الخفيف على محيط الشرنقة حتى تُخرج الفراشة رأسها أكثر, تفعل ذلك بشكل مدرّب لو فعله غيرها لقضى على الشرنقة, أحيانًا إذا وجدت فراشة كاملة تحررت من شرنقتها خلال النهار وهي بعيدة عنها تأخذها برقة من أسفل ظهرها لئلا تؤذيها, فتضرب تلك الفراشة بجناحيها مرتين أو ثلاثا ثم توقفهما متلاصقين, وتقوم إلى نافذة غرفتها تفتحها فتأخذ الفراشة تتفحص محيطها بعد أن أصبحت في الخارج بقرونها الاستشعارية, كأنها لا تصدق حظها الحسن وتطير مرفرفة بجناحيها, كأن عبير الحديقة التي دخلت فيها والأزهار من كل نوع وابتسامة الربيع في مدينة بون جعل الفراشة تتوجه وحدها إلى الدنيا دون وجل.

وقف مصطفى يتحدث معها عند باب الصيدلية, جلب لها واحدة من الزجاجتين الخاصتين بها, وقد برد العصير فيها, من جانبه قدّر أنها بحاجة إليه بعد أن انتصف النهار, أثناء ذلك دعته مارتينا إلى منزلها ليرى بعينيه الدود والشرانق وكل ما يحويه صندوقها الزجاجي, ولم تجد لديه مانعًا, فطلبت منه أن يحدد لها الوقت فقال لها: في أقرب فرصة, اليوم إذا شئت. اتفقا على الذهاب معًا بعد الانتهاء من الدوام. عندما ذهب مصطفى نظرت إلى ملامح زميلتها في العمل, كانت قد اختلجت من دون أن تتحكم فيها وقالت غاضبة: إذا كان يسرك الحديث مع مثل هذا النوع من الناس تستطيعين ذلك بعيدًا عن الصيدلية, هنا الأمر مختلف. ثم انفجرت في فورة شتائم على مثل هؤلاء الذين تراهم كل يوم يملأون أماكن العمل والطرقات. قالت لزميلتها: اهدئي, سيكون كل شيء على ما يرام, لن يأتي هنا ثانية لو شئت. لقد أحست أمام زميلتها بالحرج الشديد عندما وضعتها في مثل هذا الموقف.

غيّرت مارتينا ملابسها عندما انتهى يوم عملها, لبست بلوزة زرقاء فاتحة فوق بنطلون جينز, ولمّت شعرها خلف رأسها على شكل ذيل حصان طويل ورشيق يهتز مع حركتها, وفي موقف السيارات انتظرته قليلاً قبل أن ينطلقا معًا. لم تستأذنه في المرور على أحدهم لتأخذ منه دودة أو شرنقة لأن أحدًا من معارفها لم يتصل بها يطلب منها ذلك. بالرغم من أن مصطفى أبدى عدم ممانعته لو شاءت ذلك لكنها قالت حازمة: لا, سنذهب إلى المنزل مباشرة. تبدو مارتينا سعيدة بهذه الرفقة, ومتعجلة للوصول, وما إن خرجت من محيط المستشفى حتى قالت: سترى كيف تفرد الفراشة جناحيها بينما جذعها يئن تحتها لأنه لم يغادر الشرنقة بعد, انتبه للون الجناحين وشكلهما, وكيف تنهض بهما وجسمها لم يكتمل بعد. قال لها: أرجوك مارتينا, أغلب هؤلاء الذين يؤتى بهم إلى الثلاجة انتهت حياتهم في حوادث على الطرق السريعة, هذا ما يحدث غالبًا, أو بحوادث أخرى يصعب معها إنقاذهم لأن مَن رافقهم إمّا وصل المستشفى ومن معه كان في رمقه الأخير, أو فارق الحياة بالفعل, فالعمليات الجراحية التي يقوم بها الجراحون لا تؤدي غالبًا إلى الوفاة, لا كسور العظام ولا إصابات الحروق من الدرجة الثانية ولا عمليات العين والأنف والأذن والحنجرة تؤدي إلى الوفاة, بعض أولئك ماتوا على أرض ليست أرضهم.

قالت: أبوها مات على أرض ليست أرضه تاركًا أمها وحيدة الآن في البيت, رحل والدها عن رومانيا مضطرًا, وبالقياس لمن لم يخرج يُعتبر محظوظًا لأنه استطاع إنقاذ نفسه وعائلته من الهلاك, لكن بدأ إحساسه بافتقاد بوخارست لحظة أن داست قدماه الأرض الألمانيّة, سكنته بوخارست أينما ولّى وجهه, قرب الراديو, عندما يشرب النبيذ, عندما يواجه الراين, عندما يرى القطارات تخرج من المحطة, كثيرًا ما كان يضرب الأرض تحته ويقول: لا, هذه ليست أرض رومانيا.

مصطفى لايزال يتكلم عن أولئك الذين يُؤتى بهم إلى الثلاجة, المشكلة بالنسبة له تتحدد في أسفه على من هم في مقتبل العمر أو فيمن هم أقل من ذلك, عندما يريد أن يحضر مراسم دفنهم لا يستطيع, فوقت العمل لا يسمح له, بالرغم من أنه اتفق مع ذويهم على ذلك, وقد أعطوه العنوان والوقت. تسبح مارتينا في أفكارها تحاول ما استطاعت ألا تستمع إليه: كانت تسمع من أمها الكثير عن رومانيا أيضا, في ذلك الوقت كانت تهتم بهذا الموضوع كثيرًا وتطلب منها أن تتكلم أكثر, لكن عندما لم يعد هناك ما يُعين أمها على تذكر شيء من ذلك توقفت, هكذا وصل حال أمها بعد أن تفرق العدد الأكبر من عائلتها في بلدان أوربا, ولم يعد لأمها غير ذكريات ضئيلة ومتفرقة وأوجاع غربة ترددها كأثر لماضِ مفقود.

قال مصطفى: تلك التي فتحت عليها الباب في الثلاجة رقم 5, مسكينة, بطاقتها تقول إنها من ألبانيا وأنها هنا منذ أكثر من خمس عشرة سنة, إن الذي يقلقه أيضًا أن أحدًا لم يأت لتسلمها لحد الآن, مع أن إدارة البلدية في المدينة تعهّدت بأنها سوف ترسل سيارة لأخذها في ظرف يومين, لكنهم لم يوفوا بالعهد, فيجب متابعة هذا الموضوع في الغد.

بعد عشرين دقيقة, أفسحت له طريقًا للدخول إلى المنزل, كانت أمها تجلس على كرسي في الصالة, وقد نأت بنفسها بعيدًا, مغمضة العينين وقد سرحت ذراعيها على فخذيها, وحين اتضح لها صوت ابنتها قالت: هل عدت? والتفتت لتقبلها مارتينا على جبينها قبلة خاطفة وقالت لمصطفى: هي كذلك, أحيانًا تنام وهي جالسة, لقد أدركت الشيخوخة مصحوبة بما يشبه فقدان الذاكرة, أحيانًا عندما تعود إلى المنزل لا تتعرّف عليها أمها, قد تخلط بينها وبين كاترينا أختها التي تزوجت في البرتغال, أو بينها وبين نيكول أختها التي تزوجت في السويد, وعندما حدث أن جاء معها ذلك الشاب الذي من الإكوادور, ظنته أخي الذي في أمريكا. قال: يعني هذا أن على كل شخص, قبل أن يقابلها, أن يعلق ورقة يدرج فيها اسمه وعمره وجنسيته, مثل تلك الورقة التي يعلقها المستشفى في إبهام المتوفى قبل نقله إلى الثلاجة.

كأنها خُذلت, لقد شحب لونها وعرقت جبهتها بالرغم من أن الجو فيه بعض البرودة, قالت: يكفي هذا.

لاشك أنه تساءل عن هذا التقلّب الذي حصل في وضعها, لقد خرجت من المستشفى وكانت على غير ما هي عليه الآن وقال: مارتينا, أنت في وضع لا يسمح لي بالبقاء, ربما نأتي معًا إلى المنزل ثانية من أجل ما في صندوقك الزجاجي, لأطلع على كل ما أعطيتني من معلومات عنه.

لم تكن مارتينا قد تقدمت خطوة في مكانها, على الكرسي المحاذي لها جلست, فسألها: إذا كنت في حاجة لي قولي ذلك.

كانت قد أغمضت عينيها وربما لم تسمع جملته الأخيرة, ولأنه كان ينتظر منها جوابًا لم يسمعه اقترب منها وقرّب وجهه منها ليستمع, كانت هي آنذاك قد بدأت تفتح عينيها, وعندما رأت وجهه أمامها جفلت وصاحت: اخرج أرجوك, لا تدعني أرى وجهك ثانية.

في اليوم الثاني رأت مارتينا في مكان الثلاجة القديمة أخرى جديدة, فتحت بابها ورتبت فيها ما حملته معها من لفائف طعام وزجاجات عصير, بعد ذلك بساعة, سمعت صوت النقالة تخرج من المصعد وسمعت مصطفى يسلّم عليها وهو يسير في الممر, لكنها تشاغلت عما سمعته ولم تجب. ظنّت زميلتها في العمل أن مارتينا أخذت برأيها الذي أعلنته لها بالأمس, وهذه خطوة جيدة تُحسب لها. انتظرها مصطفى وهو جالس إلى المنضدة وبجوار كفّه كوب القهوة يتصاعد منه البخار, لكنها لم تأت.

عائد خصباك مجلة العربي فبراير 2005

تقييم المقال: 1 ... 10

info@3rbi.info 2016