دوائر قشّية
راح ينفث دخان سيجارته فتشكل أمامه دوائر دخانية متداخلة تتسع وتذوب في المكان.. إنها لعبة مسلية أعادها ثانية وثالثة, حتى آخر عقب سيجارته.
تناول العلبة وأخرج بطريقة غريبة سيجارة أخرى وأشعلها, أخذ يتسلى بلعبته تلك, دوائر الدخان تتشابك. بدا صوت فيروز يقتحم المكان حين أدار عامل الكافتيريا آلة التسجيل. (أنا وشادي اربينا سوى العبنا على الثلج ركضنا بالهوى).
بدأت الكلمات تنبش في زوايا الطفولة, تذكر يوم كانت تلك الفتاة على عتبة الفرن كانت في الثامنة أو التاسعة, تبدو كأنها من تلك الفتيات الصغيرات اللواتي يشاهدن في التلفزيون عند دار أبي خليل بشعرها المقصوص وزرقة عينيها, يومها انسل من بين أفراد شلته الصبيانية (بشورته) المزخرف بالغبار والأوساخ.
لم يفصل بينهما سوى شجرة توت وبضع خطوات, أشارت إليه بيديها الصغيرتين, أعطته دوائر القش التي كانت تصنعها وهي جالسة على عتبة الفرن, مازال ينفث دخان سيجارته مشكلاً دوائر متداخلة ومتشابكة, تذكر كيف بدأ يصنع مثل تلك الأشكال يومئذٍ. عندما فشل كثيرًا ونجح أحيانًا بصنع مثل تلك الدوائر, بدا له الأمر مسليًا وبالموعد والمكان نفسه يوميًا تهديه مثل تلك الأشياء.
يزهو بها كثيرًا, فيروز مازالت تصدح بالمكان ضاع شادي, وينك يا شادي, لمح بالجانب المقابل فتاة جميلة تحمل مجموعة لوحات وحقيبة ألوان, كان من المؤكد أنها إحدى طالبات كلية الفنون الجميلة, هي الأخرى أخذت ترسم على مجموعة الأوراق أمامها مجموعة من الدوائر, كانت ترقب دوائر الدخان التي ينفثها ذلك الشاب في الجهة المقابلة بينما هي مستمرة في رسم هذه الأشكال, توقفت آلة التسجيل, تفاجأ النادل حين رأى ذلك الشاب وتلك الفتاة يتراكضن مسرعين لإعادة تشغيل أغنية وينك ياشادي.
سيرة
بعدما سَئِمَ كل استعمالات روحه, تقيأ نورًا أضاء جميع الاتجاهات, فأسلمت عيناه ذكرياتها ونال قسطًا وافرًا من السواد وقسطًا آخر من جموع الناس ومن نشيد:
مُضمخٌ بعدوي أنا.. أسير رهن نارين من أمامي ونارين من خلفي.. استظل بنهرين عتيقين يلفاني كطفل رضيع.. تلفحني تأوهات مُغبّرة كانت قد حملتها إلى رياح منسية.
تموج بألواحٍ من طين كتبها (جوديا) بتباطؤ ملحوظ لتصير سفرًا تقرأه جميع السلالات على الزاحفين إلى روحهم. من جديد راح يمتطي سأمَهُ غائبًا نحو جموعٍ من ناس ونحو قسط آخر من سواد.
الوصية الأخيرة لصوفي قديم
على مسمع من نجمةٍ دائخةْ, وأمسية زاخرة بضجيج الكلمات وأصوات المنشدين صار يجفف بعضًا من مقطوعات موسيقية طالما أحبها, تمهيدًا لحشوها قهرًا وبصعوبة بالغة داخل أذنيه, وعلى مرأى من إيماءة كانت قد اختزلت جميع الكلمات, وخزته ذاكرته للترجّل والترحال, وهو يصغي لوجع الأغنيات بنهمٍ مقهور, بينما كثيرٌ من الرقصات كانت تسيل من جنبيه والأطراف.
أخرج ما بداخله من أزهار, وبدا ينشرها على قبورٍ لعاشقين قدامى فأثمرت من جديد عناقيد من ابتسامات كانت لعجوز حالم, اصطاد منها ما استطاع, وألصقها قسرًا على وجهه, عندما لفظتها شفتاه, فتهيأ بعد ذلك لحضور أمسية أخرى لعزاء سعيد.
وعلى هتاف إيماءتها وذاكرته ووجع الأغنيات, ساقته حبًا وطواعية إلى بلاد القناديل المضاءة لينقش ظلاً أصفر على جدرانها الناسكة, أحاطه سيل الرقصات وروح الموت حاملة معها آثار حزنه وجسده, فتابع سكونه بائعًا صمته بآلاف الكلمات متدثرًا بدفئه والوصايا, أن اجعلوا مني وليمة شهية للجوارح, وذئاب الجبل, وصلّوا دومًا لإيماءتها, وذاكرتي, ورددوا أنتم وأطفالكم والجدران, وصية ناسكٍ, كان قد همّ بالترجل والترحال.