مختارات من:

عندما تساقطت الجثث من على الأشجار

أحمد الشربيني

في السادس والعشرين من ديسمبر الماضي, تناقلت وكالات الأنباء العالمية نبأ قصيرا تحدث عن وقوع زلزال قوي في المحيط الهندي قبالة السواحل الإندونيسية. وكان الخبر عابرا لم يعبأ معظم الناس به. فالزلزال وقع في قاع المحيط بعيدا جدا عن اليابسة, والمنطقة معتادة على الزلازل, بحكم وقوعها في (حزام النار), على نحو يجعل زلازل المحيط تكاد تكون غير ذات تأثير على حياة الناس. لكن القدر كان يخبئ واحدة من أبشع الكوارث الطبيعية في التاريخ الإنساني.

وعلى طريقة الدراما الإغريقية الكلاسيكية, أخذ توالي الأنباء يكشف الستار رويدا رويدا عن هول الكارثة. ففي البداية, تحدثت وكالات الأنباء عن زلزال تتراوح قوته بين سبع وثماني درجات على مقياس ريختر, وبعدها اتضح أنه أقوى زلزال يضرب كوكبنا منذ أربعين عاما, وأن قوته كانت تسع درجات كاملة, وهو ما وضعه في المرتبة الخامسة في قائمة أقوى الزلازل منذ العام 1900 عندما بدأ القياس الدقيق للزلازل.

وانطبق الأمر نفسه على حجم الكارثة. ففي البداية, تحدثت الأنباء عن (عشرات القتلى) في إندونيسيا وسريلانكا والهند نتيجة لموجات المد البحري المعروفة باسم تسونامي. وأخذت الأرقام تتصاعد ببطء معذب. مئات .. ثم عدة آلاف .. ثم عشرة آلاف .. عشرون ألفا .. ثلاثون .. وهكذا حتى تجاوز العدد وقت إعداد هذا الموضوع مائة وخمسة وستين ألفا .. ويعتقد كثير من الخبراء أن الرقم الحقيقي للضحايا قد يتجاوز مائتي ألف قتيل.

ومع توارد تقارير وكالات الأنباء, أخذ الناس يدركون تدريجيا فداحة الكارثة. فقد جرفت موجات الطوفان التي أعقبت الزلزال كل شيء في طريقها, الأشجار والبيوت والفنادق والمنتجعات السياحية بل وخطوط السكك الحديدية.

ومع انحسار المد تكشفت صورة كابوسية رهيبة. مناطق شاسعة من الأرض أصبحت (نظيفة) تماما من كل أشكال الحياة بينما حملت المياه الأنقاض والأشجار والجثث إلى أماكن بعيدة. وغمرت المياه مساحات هائلة.

الزلازل لا تقتل

هناك قاعدة معروفة في علم الزلازل تقول إن الزلازل في ذاتها لا تقتل, وإنما المباني هي التي تقتل, بمعنى أن الارتجاجات التي يخلفها الزلزال لا تقتل البشر لكن انهيار المباني هو الذي يفعل ذلك.

واليوم يثبت المحيط الهندي أن موجات المد العاتية, المعروفة باسم تسونامي, يمكنها أيضا أن تؤدي إلى خسائر لا تقل في فداحتها عن الخسائر التي تحدثها المباني إن لم تكن أكثر فتكا.

وكلمة تسونامي أصلها ياباني. وهي مكونة من مقطعين, (تسو) وتعني ميناء, و(نامي) وتعني موجة. والترجمة الحرفية لكلمة (تسونامي) تعني (موجة الميناء).

وأطلق الصيادون اليابانيون هذه التسمية على ظاهرة غريبة كانت تحدث من وقت لآخر. فعندما كانوا يعودون من رحلات الصيد كانوا يفاجأون بخراب موانئهم بفعل موجات عاتية. والمفارقة أنهم لم يشعروا بهذه الموجات في عرض البحر أثناء صيدهم. فموجات المد تتحرك باتجاه الشاطئ تحت الماء وأثرها على سطح الماء قد لا يلاحظ إلا عندما تقترب المياه من الشاطئ! وقد يصل طول الموجة المدية إلى 100 كم.

تنشأ الموجة المدية بحدوث الزلازل والبراكين في قاع المحيط, وتنشأ الموجات المدية عندما يتغير انسجام قاع البحر نتيجة التغيرات الطبيعية كالزلازل وخلافه, وحدوث إما تقعر أو تحدب في قاع البحر ينجم خلاله اضطراب في كمية الماء فوق المنطقة المنكوبة.

وتختلف الموجات المدية عن موجات البحار والمحيطات الناجمة من حركة الرياح, فتستطيع الأولى عبور آلاف الكيلومترات في قعر البحر مع فقدان طفيف لطاقة الموجة نتيجة ترحالها, وهكذا نجد أن التأثير المرئي لموجات المد يُرى بعد ساعات من حدوثه في قاع البحر على الشواطئ المنكوبة بعد سريان كميات المياه الهائلة على اليابسة.

ارتجاج الأرض

الزلزال ببساطة هو ارتجاج الأرض الناتج عن إنتاج الشحنات الحرارية العالية عند تصدع الصخور بسبب تآكلها الطبيعي وتحدث الزلازل إما بسبب الحركة التكتونية للأرض Tectonic Motion وهي التشقق أو الحركة الفجائية في صدع صفيحة من صفائح القارات, أو بسبب قوة اندفاع الكتل البركانية Volcanic Reasons.

وتنتقل الطاقة الزلزالية في صورة موجات. وتتحرك الموجات الدافعة (أو الضاغطة) Push waves والموجات الارتجاجية Shake waves متسارعة عبر باطن الأرض. ومع الحركة المتسارعة تصبح المبادرة للموجات الدافعة. وتتكاثر الموجات الدافعة من خلال دفع ثم سحب القشرة الأرضية مثل سلسلة من عربات السكك الحديدية تنتقل من خط إلى آخر, بينما الموجات الارتجاجية ذات تأثير مدمر حيث تجعل الطبقات الصخرية التي تمر بها ترتج من ناحية لأخرى. وتحدث الموجات الارتجاجية معظم الخسائر, حيث تحول سطح الأرض, بما في ذلك الطرق وخطوط السكك الحديدية, وقاع البحار والمحيطات إلى شرائط متموجة. وتؤدي الموجات الارتجاجية بسطح الأرض إلى التموج كسطح البحر على نحو يجعل الجسور والمباني العالية تترنح.

قوة الزلزال

وقد حدث زلزال جنوب شرقي آسيا في قاع المحيط, وكان مركزه على مسافة 1620 كيلومترا شمال غرب العاصمة الإندونيسية جاكارتا تحت قاع المحيط بحوالي أربعين كيلومترا. وكانت قوة الزلزال 9 درجات على مقياس ريختر, وهو ما يجعله خامس أقوى زلزال يشهده العالم منذ العام 1900.

ويذكر أن مقياس (قوة الزلزال) Magnitude قد وضعه العالم الأمريكي ريختر Richter في العام 1900 وعُرف باسمه. ويعتمد أساسًا على كمية طاقة الإجهاد التي تسبّب إحداث الزلزال, وهذا مقياس علمي تحسب قيمته من الموجات الزلزالية التي تسجلها محطات الزلازل المختلفة.

ومقياس ريختر هو جهاز يقوم بقياس الطاقة المنبعثة من بؤرة أو مركز الزلزال. وهذا الجهاز عبارة عن مقياس لوغاريتمي من 1 إلى 9, حيث يكون الزلزال الذي قوته 7 درجات أقوى عشر مرات من زلزال قوته 6 درجات, وأقوى 100 مرة من زلزال قوته 5 درجات, وأقوى 1000 مرة من زلزال قوته 4 درجات وهكذا.

ويقدر عدد الزلازل التي يبلغ مقياس قوتها من 5 إلى 6 درجات والتي تحدث سنويا على مستوى العالم حوالي 800 زلزال بينما يقع حوالي 50 ألف زلزال تبلغ قوتها من 3 إلى 4 درجات سنويا , كما يقع زلزال واحد سنويا تبلغ قوته من 8 إلى 9 درجات.

ومن الناحية النظرية, ليس لمقياس ريختر درجة نهاية محددة ولكن في العام 1979 وقع زلزال قوته 8.5 درجة وساد الاعتقاد بأنه أقوى زلزال يمكن أن يحدث. ومنذ ذلك الحين, مكنت التطورات التي حدثت في تقنيات قياس الزلازل علماء الزلازل من إدخال تعديلات على المقياس حيث يعتقد الآن بأن درجة 9.5 هي الحد العملي للمقياس.

وأقوى زلزال في التاريخ هو زلزال شيلي, الذي ضرب جنوبي شيلي في 29 مايو 1960. وكانت قوته هي الحد الأعلى لمقياس ريختر, أي 5ر9 درجة. وقد أطلق هذا الزلزال طاقة تدميرية تقدر قوتها بما يعادل قوة 500 قنبلة من التي ألقيت على مدينة هيروشيما اليابانية, وأفضى إلى سقوط 32 ألف قتيل. وبلغت تكاليف إعادة البناء التي أعقبت الزلزال 500 مليون دولار, وهو مبلغ هائل بمعايير تلك الفترة.

التسونامي

أدى الزلزال الأخير, الذي استمر دقيقة و42 ثانية, إلى انكسار نحو 1000 كيلومتر من خطوط تماس الصفائح الأرضية, وهي منطقة شاسعة وأمر غير تقليدي. وقد أطلق طاقة هائلة أدت بدورها إلى دفع مياه المحيط في هذه الموجات العاتية المعروفة باسم تسونامي.

والفارق بين أمواج التسونامي وأمواج البحر العادية هو أن طاقة الأولى تستمد من حركة الأرض بينما الثانية تستمد قوتها من الرياح.

ولكي نقرب الصورة أكثر من ذهن القارئ يمكننا القول إن موجة البحر العادية هي حركة سطح المياه بينما موجة التسونامي هي حركة المحيط بأسره من قاعه إلى قمته حتى أنه يمكن أن يصل طول موجة التسونامي (أي المسافة بين قمة الموجة وقاعها) إلى مائة كيلومتر, كما أن الزمن بين إحدى موجات تسونامي والموجة التالية لها قد يصل إلى ساعة كاملة. لذا فإن الناس لا يشعرون بها إلا عندما يهاجم المحيط اليابسة.

وعندما تقترب موجات تسونامي من الشاطئ فإن سرعتها تقل وتبدو كموجة عادية لكنها تتمتع بقوة شديدة للغاية. وكلما قل عمق المياه تحت موجات تسونامي مع اقترابها من الشاطئ فإن سرعتها تقل, لكن ارتفاعها يزداد. وعندما تضرب هذه الأمواج تحدث الكارثة, وما أبشعها من كارثة.

كشفت كارثة التسونامي الكثير من الخلل ومدى استخفافنا بالبيئة والطبيعة. فسكان المنطقة كانوا في الماضي يبنون منازلهم بعيدا عن الشواطئ. لكن الرواج السياحي وازدياد أعداد السكان دفعهم إلى الاقتراب من الشواطئ. فشيدوا بيوتهم والمنتجعات السياحية عليها.

وقد أكد المدير العلمي للاتحاد العالمي للطبيعة جيف مكنيلي أن أمواج التسونامي التي ضربت سواحل جنوب وجنوب شرقي آسيا كانت ستتسبب بأضرار أقل كارثية لو تمت المحافظة بشكل أفضل على الثروة المرجانية ونباتات المنغروف.

وأشار إلى أن المنغروف كان سيضعف قوة الأمواج لو كان موجودا, لكن السكان اختاروا أن يقتلعوه واستبدلوا به مزارع الجمبري والكركند, وذلك لأسباب اقتصادية, حيث إن الأوربيين يشترون ثمار البحر بأسعار منخفضة من السماسرة الآسيويين.

وربما كانت الحيوانات أكثر ذكاء من البشر. فعندما شعرت بقدوم الكارثة هربت بعيدا عن الشاطئ, وهو ما لم يفعله الإنسان.

كما حذر خبراء الأحياء المائية من أن الحياة البحرية والثروة السمكية التي دمرتها موجات المد البحري ستحتاج إلى قرون لكي تعود إلي طبيعتها في المحيط الهندي. وقال الخبراء إن موجات المد البحري جرفت الشعاب المرجانية وأعدادًا هائلة من الأسماك بعيدا عن الشواطئ. لكن الخلل الأكبر يبقى غياب أنظمة الإنذار المبكر من التسونامي في المنطقة رغم حدوثها من قبل. وهذه الأنظمة موجودة بالفعل في المحيط الهادئ وتقلل كثيرا من حجم الكوارث.

أحمد الشربيني مجلة العربي مارس 2005

تقييم المقال: 1 ... 10

info@3rbi.info 2016