يعتقد كثير من الناس أن موضوع غرس أو زراعة الأسنان من المستحدثات, لهذا ينظرون إليه بوجل, ولعل التتبع التاريخي له منذ البداية وحتى الآن يزيح الكثير من هذا الوجل.
كلمة غرس الأسنان تعني وضع دعامات معدنية في عظام الفك لتحمل بعد ذلك أسناناً صناعية, وقد استخدمت كلمة غرس بدلاً من كلمة زراعة لأن الأخيرة توحي بأن هناك ما يوضع داخل الفك ويترك لينمو ويخرج في الجزء الظاهر في الفم. إن دراسة تاريخ غرس الأسنان يجب أن ينظر إليها باعتبار أن هناك علامات طريق في خلال التطور التاريخي لهذا العلم ومحطات مهمة أدت إلى تكوّن هذا المحتوى العلمي المهم على مر الأجيال.
وقد بدأ هذا التطور منذ عصور الفراعنة القديمة في مصر وبلاد الفينيقيين والصين, وتطور بعد ذلك وانتشر في جميع أنحاء العالم وعلى مدار الأزمنة مروراً بالقرون الوسطى التي شهدت اجتهادات لبعض العلماء في هذا المجال وحتى وصلنا إلى القرن العشرين والذي شهد تطوّراً ملحوظاً, ثم ما لبث النصف الثاني من القرن العشرين أن شهد ثورة معلوماتية وأصبح فيه هذا العلم راسخاً وقوياً ويمارس باعتباره حلاً لمشاكل مرضى فقد الأسنان.
البدايات الأولى
استقرت ممارسة الطب في عصر المصريين القدماء وبالذات في عصر الأسر الملكية القديمة منذ حوالي 4600 عام, وقد ذكر المؤرخ الإغريقي الشهير هيرودوت في تأريخه لهذه المرحلة فيما بعد أن المصريين القدماء صار عندهم جميع أنواع التخصصات في مجال الطب وأن الطبيب يعالج مرضاً واحداً فقط, فهناك من يعالج العيون وبعضهم للأسنان وآخرون للأمراض الباطنة والداخلية.
وأقدم طبيب أسنان ورد ذكره على إحدى القوائم الخشبية هو هسي رع الذي عاش في عهد زوسر ووصف بأنه أعظم معالج للأسنان. وقد وجدت أيضاً هدية خشبية من الفرعون ساهورا إلى طبيبه المحبب إلى نفسه ناي انك سخمت وقد كتبت بالهيروغليفية على القاعدة الخشبية (من كور أنك) وتعني رجل الأسنان.
ويظهر من فحص المومياوات الباقية أن خلع الأسنان كان أحد الحلول لتخليص المرضى من آلامهم على الرغم من اكتشاف وجود بعض الحفر التي حفرها الأطباء القدماء في الغلاف العظمى الخارجي للفك لتخفيف الضغط الناتج عن تجمع الصديد في خراج تحت الضرس. وقد وجدت مجموعة كبيرة من الجماجم العظمية التي تعود إلى عهد الأسرة الملكية القديمة والتي تحتوي على هذه الفتحات وهي ضمن مجموعة متحف جامعة هارفارد الأمريكية. كما توجد مجموعة أخرى في متحف الإنسان في باريس ويعود تاريخها إلى (1570-1085) قبل الميلاد وهي تحتوي على فتحات بعمق 5 مليمترات وعرض ملليمترين تم حفرها بأدوات حفر دقيقة وتؤدي إلى جذور الأسنان.
وقد أظهرت دراسات أجريت على برديات مثل بردية أدوين سميث (القرن السابع عشر قبل الميلاد) والمحفوظة في مكتبة جامعة ليبزج أن بعض العمليات الجراحية قد أجريت لعلاج كسر في الفك وخروج مفصل الفك من مكانه والكسور المركبة للفك العلوي وعظمة الصدغ وتهتك الشفاه. ومما يؤكد ذلك وجود عدد كبير من النقوش على جدران المعابد للأدوات الجراحية المستخدمة في هذه العمليات.
وهناك اكتشافان مهمان أثارا كثيرا من الجدل بين المؤرخين وعلماء المصريات. أحدهما اكتشاف زوج من الأضراس تم ربطهما بسلك من الذهب (2500 قبل الميلاد) وقد استخلص الباحثون أن هذا الربط قد تم لعلاج تخلخل أسنان هذا المريض أثناء حياته بربطها بالأسنان القوية المجاورة. وعندما اكتشفت هذه الأسنان في عام 1914 بواسطة العالم هيرمان جنكر في حجرة دفن بالجيزة وجد ما يشبه الترسيبات الجيرية عليها وهو ما يؤكد النظرية السابقة. والاكتشاف الآخر المثير للجدل تم بواسطة عالم المصريات شفيق فريد في عام 1952 والذي اكتشف في حفرياته بالقرب من القاهرة ثلاث أسنان تم ربطها بسلك من الذهب وتعود إلى عصر أسرة ملكية قديمة. وقد ذهب الباحثون إلى أن هذه التركيبة تعتبر من النماذج الأولى لتعويض الأسنان. وقد أثارت هذه التركيبة الجدل لأنها تكوّنت من الناب الأيمن محمّلاً على القواطع المجاورة ومربوطاً بسلك من الذهب في مجرى تم حفره بأدوات حفر, وكان مكتمل الجذر وهو ما يؤدي إلى صعوبة وضع هذه التركيبة في مكانها الصحيح دون ضغط على اللثة في هذا المكان. لذلك ظهر تفسير يفيد بأن هذه التركيبة قد وضعت بعد وفاة المريض لما عرف من حرص المصريين القدماء على أن تكون الجثث في أحسن حال عند الدفن حتى تؤوى الروح في الحياة الأخرى.
وقد تم العثور على تركيبات مشابهة في منطقة صيدا بلبنان يعود تاريخها إلى القرن الخامس قبل الميلاد والمحفوظة حالياً بمتحف اللوفر بباريس وهي عبارة عن تركيبات مثبتة بواسطة سلك ذهبي, وقد وصلت وحدات الجسر إلى أربع وحدات مثبتة إلى ضرسين مجاورين. ومن المعروف أن هناك تأثيراً كبيراً للحضارة المصرية القديمة في الحضارة الفينيقية مما انعكس على قدرة الصانع الفينيقي في عمل مثل هذه التركيبات والتي شابهت إلى حد كبير التركيبات التي وجدت في حوض النيل والتي تعود الى 2000 عام قبلها.
وفي حضارة المايا التي ترجع إلى 2500 عام قبل الميلاد, والتي انتشرت حول خليج المكسيك فيما يعرف الآن بكولومبيا, عُثر على بعض الجماجم تعود إلى القرن التاسع تحتوي على حشوات في الأسنان الأمامية مصنوعة من الجاد والفيروز.
ومن الاكتشافات المهمة جزء من جمجمة وجدت في منطقة الاكوادور ومحفوظة في متحف الهنود الأمريكيين بمدينة نيويورك وقد وصفها مارشال في عام 1913 كقطعة من الفك العلوي بكل أسنانها ومن غير ضرس العقل, وتحتوي القواطع الأمامية على حشوات ذهبية على السطح الخارجي, ومن الواضح أنه تم غرسها في مكان خلع هذه الأسنان. وقد ذهب برنار وينبرج أحد أشهر مؤرخي طب الأسنان إلى أن هذه الأسنان كانت النموذج الأول لعملية نقل الأسنان من شخص إلى آخر. وقد عارضه العالم الشهير صمويل فاستليشت المتخصص في دراسة طب أسنان ما قبل عصر الكولمبيين لسبب واضح وهو عدم تكوّن عظم على خط الكسر ورجح أن تكون العملية قد أجريت بعد الوفاة تبعاً لمعتقدات دينية كما كان متبعاً في الحضارة المصرية القديمة.
وهناك دلائل قوية على أن المايا مارسوا عمليات لغرس مواد صناعية غير عضوية في أشخاص أحياء. فقد وجد ويلسون بوبون وزوجته في حفائرهما في هندوراس في عام 1931 قطعة من الفك السفلي لشخص من المايا ترجع إلى 600 عام بعد الميلاد (محفوظة في متحف الآثار والعرقيات بجامعة هارفارد) ووجدا بعد دراستها أنها تحتوي على ثلاث أسنان مصنوعة من الصدف تم وضعها في فجوات الأسنان المخلوعة. وقد تم عمل دراسات بالأشعة السينية في عام 1970 أظهرت وجود طبقة من العظم المدمج حول اثنين من الغرسات مثلما يحدث مع غرسات الشفرات المعدنية التي توضع الآن. وقد اعتبرت هذه الغرسات هي الأولى داخل عظمية من مواد معدنية يتم اكتشافها.
المسلمون قبل غيرهم
مرت دول أوربا القديمة بعصور مظلمة في أوائل القرون الوسطى وقد انعكس ذلك على طب الأسنان الذي راح في سُبات عميق على مدى سبعة قرون وغرق في الجهل والاعتقاد في الخرافات والسلبية العلمية. وانغمست أوربا كلها في الحروب وانقسمت إلى دويلات صغيرة أو حتى مدن متناثرة. واستمر الوضع كذلك حتى دخل العرب إلى أوربا وسادت اللغة والثقافة العربيتان وظلت هكذا لمدة سبعة قرون, ولقد اختلف الوضع بين الأمويين والعباسيين فبينما لم يحظ العلم والطب بالاهتمام الكامل في عصر الأمويين لانشغالهم بتأسيس الدولة نجد أن العباسيين توسعوا في الترجمة والتأليف من اللاتينية والفارسية والسريانية والإغريقية والهندية إلى العربية والعكس. وازدهر العلم والعلماء حتى أن الخلفاء رصدوا الجوائز المالية والذهبية للعلماء وشجعوا السفر لنيل العلم من أرجاء العالم المعروف في ذلك الوقت. وقد نبغ العرب في العلوم عامة والطب بصفة خاصة وظهرت كتب طبية متخصصة في علاج أعضاء الجسم المختلفة, وقد كتب الرازي عن وصفات لعلاج آلام الأسنان واستخدام زيت مغلي لعلاج تسوس الأسنان واستخدام المواد القابضة لعلاج تخلخل الأسنان.
وبعده بقليل ظهر على بن عباس المجصي وكتب مرجعاً كبيراً عن الطب ضمنه بابا عن الأسنان واقترح استخدام إبر ساخنة لدرجة الاحمرار لعلاج آلام الأسنان. ومن أعظم الأطباء العرب الزهراوي مؤلف كتاب (التصريف) وهو موسوعة شاملة في الطب والجراحة, وقد عُرف بعد ذلك أنه أول وأهم جراح.
وكانت إنجازاته في طب الأسنان في غاية الأهمية, فقد عرف أن الترسيبات الجيرية هي سبب تخلخل الأسنان ووصف طرق وأدوات إزالة الرواسب الجيرية, ووصف الطريقة الصحيحة لحشو الأسنان, واقترح ربط الأسنان بالأسنان المجاورة لعلاج الخلخلة. كما اقترح تعويض الأسنان المفقودة باستخدام أسنان صناعية من عظم ثور ويتم تثبيتها بالأسنان المجاورة. وظهر بعد ذلك واحد من أعظم الأطباء العرب وهو ابن سينا الذي درس القرآن وهو في العاشرة, ثم تعلم المنطق, وعند بلوغه السادسة عشرة, كان قد درس الطب وألف موسوعة في الطب عندما بلغ الواحد والعشرين من عمره. وفي ذكره لأمراض الأسنان في كتابه (القانون) وصف مكوّنات معجون الأسنان وكذلك التسنين وطرق تنظيف الأسنان وشرح بالتفصيل أسباب آلام الأسنان وتآكلها, ووصف استخدام المبارد لتقليل ارتفاع سن ناتئ, كذلك وصف علاج كسر في الفك وأهمية إرجاع الكسر إلى وضعه الطبيعي بملاحظة الإطباق الصحيح للأسنان ثم تغطية مكان الكسر بغيار مناسب واستخدام جبيرة حول الأسنان. وقد أصبحت طريقته متبعة بعد ذلك في علاج الكسور حتى نهاية القرون الوسطى.
... وحديثا
في عام 1809 وضع موجيلو غرسة من مرحلة واحدة مصنوعة من الذهب دون تاج في فتحة خلع حديث ثم أضيف لها التاج بعد التئام العظم حولها. ورغم تعرض المريض لآلام شديدة والتهابات فيما بعد إلا أن هذه المحاولة تعد من أول محاولات غرس الأسنان في العصر الحديث. وقد استُخدمت بعد ذلك جذور من الرصاص المخشن تحمل مسامير من البلاتينوم وتاجا من البورسلين وأنابيب ذهبية وإيريديوم. وفي عام 1913 استحدث جرينفيلد شبكة مكوّنة من جزأين مصنوعين من ذهب عيار 24 وتم لحامهما بسلك من الذهب عيار 24 أيضاً, ويضاف لها الجزء الثاني وهو التاج بعد الالتئام في الجزء الذي يمثل جذر الضرس ويعتبر هذا التصميم هو الأول من نوعه والذي تطور بعد ذلك ليصبح هو الغرسات ذات الفجوات التي تستخدم هذه الأيام.
وقد قدم أوم في عام 1937 براءة اختراع لغرسة معدنية ذات قاعدة دائرية ورقبة ملساء وغطاء التئام, وقد استخدمها لتثبيت طقم فوقي بالطريقة نفسها المتبعة الآن, ولم يعرف مدة ونسبة نجاح غرسات أوم إلا أنها بالتأكيد فتحت مجالاً لهذا النوع من الغرسات في الخمسين عاماً التي تلت ذلك. كان النجاح محدوداً ولا تلبث هذه الغرسات في أماكنها لبضع سنوات حتى يفقدها المريض إلى أن جاء ستروك من جامعة هارفارد في عام 1938ووضع أول غرسة طويلة الأمد. ففي عام 1938 صبّ ستروك في فتحة خلع حديث غرسة من الفيتاليوم. وكان لهذه الغرسة رأس يشبه القمع وتم تثبيت تاج عليه وملء المسافة بين فتحة الخلع والغرسة المعدنية بعظم. وقد ظلت هذه الغرسة في حالة جيدة ومتماسكة في مكانها حتى وفاة المريض في عام 1955 في حادث سيارة.
والتطور الذي حدث في القرن العشرين شمل عدة محاور مهمة, فقد حدث تطور هائل في المواد المستخدمة في صناعة غرسات الأسنان. كذلك حدث تطور مماثل ومتواز في تصميم هذه الغرسات والاستخدامات والتطبيقات المتعددة لها. ونتيجة للتقدم التكنولوجي الهائل في النصف الثاني من القرن العشرين أصبح من الممكن التعمّق في فهم بيولوجيا تكون العظام والهندسة الحيوية وغيرها من العلوم المستحدثة والتي أدت إلى تطوّر علم غرس الأسنان.
في بدايات هذا القرن, تم تجربة العديد من المعادن في صناعة الغرسات مثل الذهب والرصاص والتيتانيوم الصلب الذي لا يصدأ وسبائك الكوبالت مولبيدوم والتيتانيوم. كذلك استخدمت مواد أخرى مثل البوليمر والكربون الزجاجي وقد لاقت هذه المواد بعض النجاح في بداية ظهورها, إلا أنه ما لبث أن زادت نسبة فشلها مما استدعى ضرورة تنحيتها عن الاستخدام بين أطباء غرس الأسنان