لم أكن أدرك أن الإمعان في بعض الجزئيات - أو الذرَّات - قد يؤدي بي إلى موقف غير مريح, وغير قابل لأن أستنجد - أو أستجير - بالآخرين كي ينقذوني منه, فقد تصادف أن فكرت في أسباب إطلاق أسماء بعينها لها وقع في النفس وإيقاع في اللغة والنطق, على أشخاص وأمان ونباتات وحيوانات, مثل النشوة والنشوى ونشأت والنشوء (والارتقاء) دون الوقوع - من باب المرح - في النشل والنشع والنشر, لكني لم ألبث أن هويت الدوران والتسلل إلى أسماء في عائلتي, إذ إن أول إنجاب لأمي وأبي كان بنتًا, نعم: أنثى - واسمها كمال, وهو اسم شائع بين الذكور, ولا يمكن أن يكون ذلك مشكلة إلاّ إذا تنبهت إلى أن المولود الثاني كان بنتًا أيضًا: إنعام, ثم لم يلبث الثالث أن جاء أنثى - يا للهول - في أسرة تنتمي إلى تكوين يحب الذكورة بالمعنى العظيم للرجولة: إنها صدف (بضم الصاد وفتح الدال), وبعدئذ جاء المولود الرابع أنثى: وكانت (رابعة) دلالة على ترتيب إنجابها وعلى الإحساس السري بالبؤس أو الإحباط, ذلك أن أبي تسلل بأمي ذات البنات الأربع وخرج بها - ليلاً - من بيت جدي ذي الغرف - لم أقل ذا الحجرات - الضيقة التي يقيم فيها مع أبنائه العتاة الأقوياء الذين أنجبوا كلهم أول مولود لهم: ذكرًا, وخارج القرية لجأ أبي إلى كوخ - أصبح بعد ذلك بيتًا - على بركة مائية أو طينية تطن في أبهائها الحشرات والضفادع وغابات النجيل مع بعض النخيل - أو النخلات أفضل, لتلدني أمي أنا: الذكر الأول المدلل المأمول المحبوب الذي انتظروه طويلاً.
بعد ذلك بأحقاب بدأت أنتبه إلى أن كمال - البنت الأولى - أطلقوا عليها هذا الاسم (كمال) ذا الإيحاء الذكوري دون أن ينتقص منه أن يكتشف الآخرون أصحاب القدرة على الفخر بإنجاب الذكر الأول أنها أنثى فور إنجاب أمي للذكر التالي, لكن الذكر جاء بعد سنوات طويلة مريرة من الإناث, إنعام - الثانية - بمعنى أنها جزء من النعمة, فماذا عن صدف?
الصُّدف: جمع صدفة, ومعناها السائد المعروف بين كل أنواع الناس أن تلتقي بفلان من غير موعد أو ترقب أو توقع, لكن إذا ما أصاب الصدف فتح الصاد وكسر الدال: صَدِف لينطلق الفعل فإنه يعني تصادم إحدى الركبتين بالأخرى أثناء المشي, فهو أصدف وهي صدفاء, فإذا استطعت أن تصدف أحدًا فقد نجحت أن تقنعه أو تجبره على الانصراف, وعندما تخلو الصّدفة أو المصادفة من فجائية الفعل دون توقع, وتصادف أحدًا من دون هذا المعنى المعروف فسوف يدل على الموازاة والمحاذاة: في السير أو التفكير أو الحصول على المأمول من جوائز أو شهادات أو مؤهلات, (أو قمة نجاح قصة الحب بينكما على أن تكونا ذكرًا وأنثى), لكن الأمر قد يتطور عندما تتصدّف مع آخر: أي تتعرّض له أو تعرض عنه, دون الوقوع في مأزق الحياة الذي قد يحيلك إلى الإصابة - حماك الله ورعاك - بالصُّداف الشِّدقي: تلك البقع المتكلسة الصلبة غير المنتظمة في الفم أو الشفتين - وبالذات جانب الفم من ناحية الخد, وقد يتناثر هذا الصُّداف حتى يصيب حليمات الثدي بالتضخّم, لكنك تستطيع أن تفتح مجالاً أكبر حينما تتماوج عيونك في نظرة واسعة إلى صَدَف الطبيعة الممتد جبلاً أو تلالاً ترتفع متراقصة - آخر النهار - تحت توافق مع ضوء الشمس المتهادي غربًا, وإذا رغبت في بعض الشراسة فإن صدف السلحفاة الذي يغطي جسدها القديم قد يقطع بحراشفه المعروفة ليونة الغروب الهادئ, مع أن هناك صدفًا من نوع آخر - وأكثر صلابة - غشاء للدّر: كنز البحر الذي اخترق حكايات وأساطير الأقدمين, وله شعبية في منطقة الخليج العربي أكثر من أي منطقة أخرى, أما إذا أنثت الصدف ليصبح صدفة فإنها - دون اختلاف بينهما: فإنها المحارة بالذات, والتي قد يكون بداخلها درة أيضا, إلاّ أنها, هذه الصدفة دون المحارة - تطلق على الأذن الخارجية, غير أني أطمع في أن أهمس لك أن الصدوف صفة للمرأة التي تعرض وجهها للناظر ثم تصدف, وهذا أهون من أن أكشف لك أن الصدوف أيضا تعني الأبخر, تلك الصفة التي نطلقها على من أصابت فمه رائحة غير مريحة, وبالتالي فإنه يصبح مناسبًا - لي أنا بالذات - أن ألجأ إلى صدفتي الخاصة, والتي أصابتها الثقافة المعاصرة بتعبيرات ومصطلحات أدت بكثير من الدّرر إلى الهروب في الأغوار البعيدة, لتترك لي فرصة التساؤل - بعض الوقت ولو مرة بين أسبوع وآخر - لماذا أطلقت أمي وأبي اسم صدف على أختي الثالثة, مع أن هذا الاسم ظل نادرًا بين أبناء عائلات في قريتي (ديروط الشريف - أسيوط) الواسعة الرحبة ومقصورًا على بنت أو بنتين على الأكثر, ولم يعد أحد يستخدمه الآن حتى للسلاحف الحديثة, لكني أزعم أنّ أغنية للمطرب الراحل عبدالحليم حافظ حملت هذه الصُّدفة, كما أن عائلة لا أعرف منبتها ولا الموقع الذي ترعرعت فيه لها اسم جميل وغريب: المصادفة, ومنها أديبة روائية حازت على موقع متميز يؤدي بها إلى شهرة تثير الضغينة, ولذا فسوف لا أدون اسمها هنا, مكتفيًا بأن (صِدْفا) واحدة من مراكز محافظة أسيوط أيضا, حيث يصبح ملائما لالتقاط الأنفاس, لأستريح في صدفتي بعض الوقت.
كلمات لها معنى
- أمر غريب: أن الغراب نادرًا ما ينعق أو ينعب وهو يطير, ما يكاد يستقر على أغصان الشجر حتى يبدأ في ذلك النعيق.. المقلق.
- الحوائط تفقد صلابتها حينما تستريح على صدرها لوحة جميلة.
- حتى أصابع القتلة أو النشالين تتحول إلى أنامل بالغة الرقة والنعومة والدفء حينما تلامس وجه طفل أو... أصابع أنثى.
- في القطار التقيت بها - وبعد أربعين عامًا من الفراق, ابتسمنا ثم لم تلبث ابتساماتنا المرحة أن شابها اضطراب ناجم من شراسة الشعر الأبيض المظلم فوق رأسها.. ورأسي.
- الليل إذا عسعس إنما هو يسعى كي يصبح سلوانًا لك, النهار لا يمكنه أن يفعل ذلك.