وخير جليس في الأنام كتاب
فكيف إذا كان هذا الجليس هو: المقامات الحريرية المزيّنة بإبداعات الواسطي؟
هذا الكتاب الذي حلمت يوما أن أتصفّحه ولكن دون جدوى, وذلك عندما كنتُ أتابع دراستي في باريس, وكان موضوع أطروحتي: (توارد إبداعي بين الواسطي وبول كلي (Paul Klee)(1). وعندما تداولت الموضوع مع المشرف على أطروحتي وأطلعته على بعض النماذج من منمنمات الواسطي, وأخرى لبول كلي, اقترح عليّ اسم بول كلي في بلاد الواسطي ورسم عندها كلي راكبا الحمار.
وشكوتُ يومها من قلّة ما لديّ من مراجع عن الواسطي وتخمة ما لديّ لبول كلي! وخاصة أن أعمال الواسطي الموجودة في الكتب الفرنسية مجتزئة ظنّا منهم أن عمله هو فقط ما رسم وليس ما خطّط حول المنمنمة من كتابات بأشكال واتجاهات متنوعة وألوان تختلف بين الأحمر والأسود.
فطلب منّي أن أذهب إلى المكتبة الوطنية لرؤية المخطوطة, والحصول على شرائح ملوّنة (Slides) أو صور عنها.
في اليوم التالي كنت صباحا في المكتبة الوطنية, حيث أُفاجأ برفض طلبي وإعلامي أنهم يستطيعون مدّي بعشر صور فقط. وهذا كل ما لديهم ,وأنهم لا يستطيعون فعل أي شيء آخر لأنه غير مطلوب. أحسست بأن رأسي يضجّ بصخب هو خليط من قهر وإهانة, طوال طريقي إلى الجامعة. وإذ بي أستفيق من ذلك الصّخب أمام الأستاذ المشرف أخبره ما حدث. طلب منّي مرافقته إلى غرفة المدير في الجامعة وشرح له ما جرى معي.
أخذ المدير السماعة وتكلّم: هَلْ وصلنا إلى مرحلة منع الطلاب من متابعة أبحاثهم? لمن ولماذا هذه الأكوام المكدّسة لديكم? يؤسفني سيدتي أن أخاطبك بهذه اللهجة, وأطلب منك أن يُلبَّى طلب تلميذتنا بكل ما تحتاج إليه لبحثها وبأسرع وقت ممكن, وإلا سنرفع تقريرنا بشأن هذا الموضوع إلى جهاتكم المختصة في المكتبة.
بعد يومين فقط كان لديّ 101 شريحة تمثل كامل أعمال الواسطي الموجودة في مقامات الحريري.
أذكر أنني بقيت لأكثر من ثلاث ساعات متتالية أشاهدها في غرفة مضاءة فقط بنور الواسطي.
والآن أشعر بأن هذا الحلم تحقّق وأنا أتصفّح بغبطة لا توصف الكتاب الذي أصدرته دار Touch @rt بنسخة طبق الأصل لمخطوطة مقامات الحريري(2), برسوم يحيى الواسطي, ولأنه نسخة طبق الأصل أُرفق بكتاب آخر يُمثّل شروحات للمقامات باللغات: العربية والفرنسية والألمانية والإنجليزية.
مقدمة هذا الكتاب المرفق كانت لأوليج جرابار (Oleg Grabar) ومراجعة بول نيفيل.
عرّف جرابار المقامات بالتالي: (من بين كنوز المجموعة الفنية من المخطوطات في المكتبة الوطنية بباريس ثمة مخطوطة من 168 ورقة (5847 arabe) مع 101 رسم توضيحي تحتوي على النص الكامل لما تُدعى المقامات الحريرية في إطار مزخرف موضوع بشكل أخرق(3) على الجزء العلوي من الورقة الأولى).
تضم إذن مخطوطة باريس 168 ورقة من القطع الكبير وبشكل غير عادي (38-27سم), وتحتوي الصفحة بشكل وسطي على خمسين سطرا.
يلي العنوان صفحتَان متقابلتان لشخصيّتَيْن متمايزتَين.
فالأولى ربما كانت لشخصية نافذة يومذاك (634هـ - 1237م) وهي بالتالي غير مدنية أو غير عربية, ويُعرَف ذلك من خلال القبّعة التي يضعها على رأسه. على عكس الشخصية المقابلة التي ترتدي الزيّ العربي.
والسؤال الذي يطرح نفسه: لماذا الاستهلال بهذه الشخصية غير المدنيّة أو ربما غير العربيّة? الأحداث السياسية آنذاك تُجيب عن هذا السؤال. والمعلوم أن بغداد سقطت بيد المغول سنة 1258م.
ربما هذا الاستهلال كان لا بدّ منه. ولإعطاء مزيد من الأهمية, عُكس المنظور, فرُسمت الحشود الأمامية بمقاسات صغيرة نسبة للشخص المتربّع على منصّة مع هالة كبيرة حول الرأس. وكان اللون الذهبي هو الطاغي في هاتيْن الصفحتيْن المؤطّرتيْن بإطاريْن مزدانيْن برسوم للحيوانات وزخارف شرقية.
واللافت, أن العناصر الموجودة في داخل الإطار تُشعرنا بضغط لم نتعوّده في منمنماته, حيث اللون حرّ في مساحته وفي تفاعله مع اللون الآخر حتى ولو كانت هذه المنمنمة مُغلقة الزوايا, عكس ما كان موجودا بهذه الصفحة.
والواضح أن الواسطي هو الذي نسخ النص أيضا لأن الصفحة متقنة التفاعل بين خط ورسوم. كان حرّا في خطه كما في لونه كما في التواء عنوانه على الصفحة الأولى.
المفاجأة كانت بجمال صفحاته المكتوبة (أي النص) فلكل صفحة تقريبا تصميمها المغاير, يخطّها بعض الأحيان باللونيْن الأسود والأحمر: الأسود للنص والأحمر لتفسير ما يجب تفسيره لبعض الكلمات, وفي بعض الصفحات كان التفسير باللون الأسود ولكن إيقاع كتابته يختلف عن إيقاع كتابة الشعر.
التفاعل مع الفراغ
من هنا كان حرص الواسطي على أن يمتع أعيننا كلمة وتوزيع كلمات, وجملاً, وتوزيع قوافي. وأحيانا لإبراز الجمالية لفضائية الصفحة. ففي بعض الأحيان يُشغل السطر في الصفحة التي هي بعرض 27سم بأربع أو خمس كلمات محافظا على إيقاع واحد لبيتيْن من الشعر يفصلهما عما يليهما بجملة تتكرّر: ثم... وقال.
خطّها من أول الصفحة إلى آخرها. وبهذه الطريقة يُمكنك قراءة الشعر دون المرور إن أردت على السطر المدوّن فيه ثم... وقال.
وفي بعض الأحيان يُوزّع الشعر على الصفحة بأربعة أعمدة منسّقة. أما الشّرح فجاء بمنزلة فرصة ليترك ليراعه العنان, فيستعمل أحيانا اللون الأحمر ليُفسّر ما التبس وباتجاهات متنوّعة, وبعض الأحيان يرصفها إلى جانب أبيات الشعر ولكن بخط أرفع وحرية أكثر. وأحيانا أخرى يكتب سطرا من الشعر, والشرح يكون بسطر موازنٍ لسطر الشعر مع تمييزنا الفوري قبل البدء بالقراءة. أو يُزاوج الكلمات مع الصورة كما في المقامة الثانية حيث يُنهي المقامة بصورة ويبدأ مقامة جديدة كتابةً على صفحة واحدة.
توزيع رائع للكتل اللونية مع الخط واتجاهاته, مشكّلا كتلا فضائية في الصفحة توحي شعرا قبل أن تقرأ شعر أبي زيد. ومن ثم كيفية ربطه للمقامة هذه مع بداية المقامة الثالثة, كي لا تحسّ بالانقطاع, فتنغرس أكثر في متابعتك لرحلته مع المقامات. احترام للعين واحترام للجمالية الشعرية, وعدم وقوعه في التّكرار المملّ. وهذه هي السّمة الأساسية لأسلوب الواسطي. فصفحاته كانت متنوّعة إن في طريقة كتابته للنص الأصلي أو للتفسيرات الجانبية.
إن جمالية اللون الأسود عند الواسطي تخطّت كونه لونا للتعبير عن الظلمة كما في مدخل المبنى في (المقامة الخامسة والعشرين), ليصبح لونا يمتلك شخصية مستقلة وقوة تعبيرية تُبرز أهمية باقي الألوان, وخاصة عندما تتقارب قيَمها (كالأمغر والأحمر والرمادي المزرق). ففي هذه المقامة بالذات وبالرغم من وجود مبرِّر مادي يفرض نفسه وهو التعبير عن العتمة, فإن هذا التبرير يُصبح محض تشكيلي عندما يُكمَّل هذا العمل الجميل على الصفحة المقابلة, ملوِّنا الحصان باللون الأسود, هذا اللون الذي تحرّر واسترجع شخصيته في القرن العشرين مع كثيرين من أمثال ماتيس (Matisse) الذي أجاب عن سؤال بأن الأسود لم يعد لونا مساعدا في دراسة الظل أو إبراز الحجم, بل هو لون قائم بحدّ ذاته متناغم ومتحاور مع بقية الألوان. واللافت ايضا أن تفاعل الواسطي مع المقامات لم يكن متساويا: فالمقامة 27 والمقامة 35 غير ممثلتيْن بالرسوم. وفي بعضها الآخر تُزيَّن بأكثر من صورة, بعضها متقابل على صفحتين وبعضها الآخر على صفحات متفرقة ولكنها تعود للمقامة ذاتها.
ولكن المؤسف هو ما طرأ على هذه المنمنمات من ترميم سيئ, وخاصة في تعابير الوجوه, حيث لم تراع حيوية الوجه بعد أن فقد لونه الأصلي, ولم يعد الخط المحدِّد للوجه والعين في المكان التعبيري لهما, ما يفقد الحدث معناه الأدبي, ويمكن القول إن المرمِّم لو استطاع معايشة النص الأدبي لكان بمقدوره تحاشي الأخطاء هذه, فالذي ميّز هذه التحفة الفنية: (الحريري - الواسطي), هو هذه القدرة الفذّة من قبل الواسطي على تذويب الفرق بين النص الأدبي والنص التشكيلي من الناحية الانفعالية.
--------------------------------------------------------
(1) فنان تشكيلي سويسري (1879 - 1940)
(2) المقامات عنوان كتاب كتبه أبو محمد القاسم بن علي الحريري (1054 ـ 1122) يحتوي على 50 قصة قصيرة بطلها متشرّد متجوّل هو أبو زيد السروجي.
(3) لم أفهم ما المقصود بكلمة أخرق فعدت إلى النص الفرنسي فوجدت جملة -Le titre est inscrit dans un cartouche enluminé - ولم أجد باللغة الفرنسية ما يُقابل كلمة أخرق.
ملاحظة: إن الإطار الأخرق هذا يعني أنه موضوع بطريقة مائلة قليلا عن خط الأفق المستقيم.