في 31 مايو من عام 1934, انطلقت أول إذاعة رسمية عربية, وبدأ تقديم أول وصلة غنائية لأول مطرب عربي استمع الناس إلى صوته عبر هذه الإذاعة المصرية الجديدة في ذلك الوقت. هذا المطرب هو صالح عبدالحي.
إذا كان شهر مايو قد شهد الميلاد والتتويج الفني لصالح عبدالحي في عام 1934, فإن هذا الشهر قد شهد أيضًا غيابه عن الحياة ورحيله عن الدنيا في 3 مايو من عام 1962.
والدور الغنائي يكاد يغيب عن أسماع من يتابعون غناء اليوم, بل إن غناء صالح عبدالحي, أهم وأشهر من قدم هذا اللون الغنائي يكاد يكون غير متاح تمامًا على خريطة غناء اليوم إلا فيما ندر, وفي برامج مازالت تحرص على تقديم كنوز التراث الغنائي والموسيقي العربي.
كانت دهشتي واضحة خلال زيارتي في الخريف الأخير للحاضرة الهولندية أمستردام عند توقفي في شارع جانبي متفرع من طريق (لاند مارك) في الحي القديم, وحيث وجدت متجرًا كبيرًا للصوتيات والمرئيات يعرض في واجهته أغلفة أسطوانات (الليزر) المدمجة (CD) وعليها صور أساطين ورواد الغناء في العالم ومن بينهم أعلام الغناء العربي.
زادت دهشتي وأنا أجد من بينها أسطوانات مسجلة عبر معالجات تقنية حديثة لأعمال فنان الشعب سيد درويش ورائد الغناء المسرحي سلامة حجازي وأستاذ فن غناء (الدور) صالح عبدالحي.
ولعل من المنطقي أن أفصح عن أسباب دهشتي والتي يعود أبرزها إلى عبث محاولاتي البحث عن أعمال هؤلاء الرواد مسجلة بتقنية حديثة في متاجر بيع هذه المنتجات في أكثر من مدينة عربية في الإسكندرية وفي القاهرة وأيضًا في الكويت وفي دبي وفي مسقط وغيرها, حتى كانت مفاجأة طرحها للبيع في متاجر أمستردام.
ليه يا بنفسج
مضيت داخل المتجر الكبير لأستفسر عن محتويات هذه التسجيلات, ولأجد من يسبقني في السؤال, مستشرقًا ومستعربًا من المجر هو د.كاسبار الذي جاء ليطلب واحدة من أشهر ما غنى صالح عبدالحي ألا وهي رائعة رياض السنباطي (لحنًا) وبيرم التونسي (شعرًا) (ليه يا بنفسج) وليأتينا الصوت القوي, المعبر وهو يؤدي في أناقته وثقة غنائيته التي تقول:
(ليه يا بنفسج بتبهج
وأنت زهر حزين
والعين تتابعك.. آه
وطبعك محتشم ورصين).
ونسأل البائع الشاب عن جمهور مثل هذا الغناء فيقول لنا إنهم العرب من أهل المهجر الهولندي, وغالبيتهم من الشباب الذين يربطهم هذا الغناء بالشجن العربي, فيبحثون عنه وينصرفون عن الغناء الحالي بخلاعته وصخبه, وغياب روح الابتكار عنه ودورانه في مستنقع التقليد.
وفيما يشبه الاستفتاء بطريقة العينة العشوائية, وجدنا الركن الذي يعرض روائع غنائيات الماضي العربي القريب يزدحم بمن جاءوا لكي ينهلوا من مثل هذه الينابيع الأصيلة, ولنلحظ أن المسامع عادت لترحب بجميل غناء صالح عبدالحي وهو يطرح في تسجيلات جديدة ومن خلال تقنيات حديثة, تعيد للصوت رونقه وتحفظ للتسجيل جمالياته, وهو ما رصدناه في أكثر من عمل يحمل غناء أستاذ غناء الدور, وخاصة في رائعة (ليه يا بنفسج) التي كتب كلماتها في عامية أقرب إلى الفصحى, رائد شعر العامية وموليير السخرية العربية شاعر الشعب بيرم التونسي, ولحنها عملاق اللحن العربي الموسيقار رياض السنباطي.
وبالتنقيب عن أعمال صالح عبدالحي المتاحة في بلداننا العربية عبر تسجيلات الكاسيت والمتاحة في الأسواق الأوربية والأمريكية عبر الأسطوانات المدمجة CD نجد أن من بينها أدواره الشهيرة (عشنا وشفنا) - (حبيبي هو الآمر الناهي) - (دموع عيني) - (يا حادي العيس) - (القلب طاب) - (ليالي وآهات) - (القلب داب) وغيرها من الأعمال الشجية والبديعة.
ولما كان حظ صالح عبدالحي في وضع غير عادل بالنسبة لتقديم أعماله عبر الإذاعات المسموعة والمرئية, التي يسرف أغلبها في تقديم الألوان الإيقاعية, فقيرة التنوع وكأنه يتصور أن أغلب المستمعين والمشاهدين في عمر يقل عن الثامنة عشرة, فقد اهتم كاتب هذه السطور بالبحث عن مكانة صالح عبدالحي لدى أعلام الفكر والقلم في عصره, وقد وضح لي أن عملاق الأدب العربي عباس محمود العقاد قد عرف في كتاباته الأدبية والصحفية لعدد قليل من أعلام الغناء والموسيقى قدرهم ومكانتهم, فكان أن خص بعضهم بتقديره والاهتمام بتناولهم في كتاباته التي خاضت في فكر الموسيقى والغناء, ومثلما كان للعقاد وقفات مع فنان الطابع القومي في الموسيقى العربية الحديثة سيد درويش وهو يحلل أعماله ويتنبأ بخلود فنه عقب رحيله عن الحياة في عام 1923 في كتابه (سعد زغلول.. سيرة وحياة) والذي اعتبر فيه نغم سيد درويش وإيقاظه للمشاعر من بين إيجابيات ثورة 1919 في مصر, كان للعقاد أيضًا دور مهم في تحية عبقرية سيدة الغناء العربي أم كلثوم.
وكما كان للعقاد أيضًا أثر يذكر في تشجيع المطربة نادرة نجمة أول فيلم غنائي في تاريخ السينما العربية, وهو فيلم (أنشودة الأمل) إنتاج عام 1932 وعلى نحو أوضحناه تفصيلاً فيما نشر على صفحات (العربي) عدد ديسمبر 2003 فإن لعبقري الفكر العربي عباس محمود العقاد كتابات سخية في تناول فن صالح عبدالحي, الذي وصف العقاد صوته بأنه كالماء العذب, النقي, يأخذ من كل إناء لونه ومن كل وعاء شكله.
لقد اختصر العقاد بهذه العبارة معالم الصوت الأخاذ لصالح عبدالحي ومدى قدراته الأدائية عندما أشار إلى قدرة الغناء والتمكن من تلوين خامته الصوتية الطبيعية, وإحساسه الثري الذي يبرهن به على الاهتمام بالتعبير من خلال ما يتوافر له من سلامة التصوير, وما له من قدرة على التخيل المدعوم بالفهم والإدراك, الذي يجعله يجيد استخدام سبل التعبير والقدرة على تلوين الغناء وفقًا للمعاني والمواقف التي يتناولها النص الغنائي.
أبجديات الغناء الرصين
وغناء صالح عبدالحي نموذج للباقي في الأسماع من الغناء الرصين, الذي يقوم على الفهم الطيب, والجهد المكتسب في مهارة التعامل مع أبجديات الغناء العربي, ومن خلال المعروف عن قيام هذا الغناء على التلقين التقليدي, واستلهام وحفظ الأعمال التراثية, والمثابرة في التعامل الفطري مع الإمكانات الصوتية المتاحة, والاجتهاد في تجاوز مشاكل الأداء, وتدارك أغلبها بالمحاولة الذاتية.
وُلد صالح عبدالجواد خليل - وهذا اسمه في دفاتر قيد المواليد - في حي (الحنفي) المغرق في العراقة والشعبية في قاهرة المعز لدين الله الفاطمي, وذلك في 16 أغسطس من عام 1898, أي أنه يصغر فنان الشعب سيد درويش بنحو عامين, ويصغر المطرب والملحن محمد عبدالوهاب بنحو خمسة شهور فقط.
تربى صالح عبدالحي في بيت يعشق النغم, فقد كانت والدة صالح عبدالحي شقيقة للمطرب والصييت القديم, والمعروف عبدالحي حلمي, الذي كان يلتقي أقرانه من أهل المغنى في بيت العائلة, الذي وُلد وعاش فيه ابن شقيقته صالح عبدالحي, وفي الأجواء التي كان الخال يتدرب فيها على حفظ الألحان, تفتّحت مواهب صالح عبدالحي في طفولته عبر ترديده لأغاني الخال المطرب الشهير, وعندما اشتدّ عود الفتى صالح, اختار اسم خاله ليكون لقبًا فنيًا له بعدما احترف الغناء بتشجيع من عازف العود علي الرشيدي, الذي قدمه لجلسات الطرب في قصور الأمراء والوجهاء, كما درّبه على حفظ لحن الدور المعروف (ياما انت واحشني), الذي وضعه رائد تلحين الدور محمد عثمان.
وقد قرّبه هذا الغناء من مستمعي ذلك العصر في بدايات القرن الأخير عندما كان تقديم الفن, الطازج وردود أفعال عشّاق الطرب صفة تلك الحفلات التي تقام في قصور الكبراء, وأيضًا في حفلات السهر, وأفراح البسطاء والكادحين.
وعندما انتقل صيت صالح عبدالحي من الحفلات إلى عالم الاسطوانات, حرص على غناء تراث روّاد الطرب أمثال عبده الحامولي وسلامة حجازي ومحمد عثمان وعبدالحي حلمي, وقد أعانه هذا الجهد المتقن في تصدّر موائد الغناء في كل مصر, من الإسكندرية شمالاً, وحتى عواصم الأقاليم خارج القاهرة, وحيث ارتبط اسمه بلقب أمير الطرب ثم ملك الطرب, وبهذه الألقاب وتلك النشاطات, سبق صالح عبدالحي ابن جيله محمد عبدالوهاب في المجال الذي أخلص له, وهو إحياء ليالي وجهاء المجتمع وعلية القوم, وهو ما أتى له بعد ذلك بأحد أشهر ألقابه مطرب الصالونات ومغنى الملوك والأمراء.
ومثلما مضى عبدالوهاب على درب صالح عبدالحي في هذا المجال, اقتفى أيضًا أثره في طريق آخر أغرم به صالح عبدالحي, وهو مجالسة مشاهير السياسة ورموز الثقافة وكبار نجوم المجتمع, وحيث عرف عن صالح عبدالحي صداقته لشاعر النيل حافظ إبراهيم وأمير الشعراء أحمد شوقي, وكبير ظرفاء عصره الشيخ عبدالعزيز البشري, ومن نجوم العدالة والقضاء محمود غالب (باشا) وزير العدل (الحقانية), وراغب عطية (بك) النائب العام وغيرهم من أعلام النصف الأول من القرن الأخير.
وصل صالح عبدالحي لهذه المكانة من خلال موهبته, التي قامت على عناصر من الصوت الجميل, والذوق والفطنة والحسّ الأدبي, وعلى قدراته المكتسبة في الأداء, والتي تمكن منها بفعل تتلمذه على غناء خاله عبدالحي حلمي, وعلى إمساكه السليم بالمقامات الشرقية وتعرّفه عليها من خلال تأثره بالثقافة الموسيقية لعازف القانون الشهير الفنان محمد عمر, الذي صحب تخت منيرة المهدية ويوسف المنيلاوي وعبدالحي حلمي وعبداللطيف البنا وغيرهم.
تزداد شهرة صالح عبدالحي مع تطور صناعة الاسطوانات وانتشارها عربيًا, وتزداد هذه الشهرة مع ازدياد محطات الراديو الأهلية في الإسكندرية والقاهرة, وقبل أن تقدم السلطات الحكومية على إغلاق الإذاعات الأهلية, وافتتاح الإذاعة الرسمية في 31 مايو 1934.
وفي افتتاح الإذاعة الحكومية كان صالح عبدالحي أول مطرب يصافح صوته الأسماع بعدما قدمه الإذاعي الراحل محمد فتحي والملقب بـ(كروان الإذاعة), وهو يغني على الهواء مباشرة رائعة محمد عثمان (ياما انت واحشني).
أعانت الإذاعة صالح عبدالحي على تحقيق شهرة عربية كبيرة, حتى أن الناس, ومن فرط حماستهم وتقديرهم له, كانوا يقولون عنه (سي صالح), وليس صالح عبدالحي دون تصغير مفردات السيادة (سي)!
وبينما أعانت الإذاعة صالح عبدالحي على تحقيق جماهيرية كبيرة, لم تقبل السينما عليه, ولذلك لم يكن له إسهام في غنائيات الشاشة الكبيرة بعكس محمدعبدالوهاب الذي عرف من خلال المخرج الرائد محمد كريم, كيف يزيد من جماهيريته من خلال سحر تقديم الغناء عبر الفن السابع.
لم يتم لصالح عبدالحي فرصة تقديم السينما له إلا في سابقة واحدة عندما يسند له المخرج هنري بركات بطولة فيلم (الشريد) أمام زكي رستم وحسين رياض في عام 1942, وهو الفيلم رقم 132 في سجل أعمال السينما العربية في مصر. ويعد فيلم (الشريد) الحالة السينمائية الوحيدة لصالح عبدالحي والمسجل فيها غناؤه وتمثيله بالصوت والصورة, وعلى نحو يبدو أكثر ملاءمة من حالته التلفزيونية الوحيدة, التي ظهر فيها على الشاشة الصغيرة, عندما قرر التلفزيون العربي في زمن الوحدة بين مصر وسورية أن يسجل للمطرب القدير بعضًا من روائعه بعدما أقعده المرض خلال سنوات الخمسينيات, وكان أن وفق التلفزيون في بداية الستينيات في تصويره مع التخت الشهير بقيادة عازف القانون محمد العقاد, وهو التخت الذي صحبه أيام مجده وصحته.
غنى صالح عبدالحي في هذا التسجيل التلفزيوني النادر الذي سبق رحيله عن الحياة بفترة قصيرة, واحدًا من أشهر أعماله وهو (ليه يا بنفسج), كما غنى أيضًا من تراث الغناء البديع (لما انكويت بالنار, فرح العزول فيّه).
وما تابعناه في الحاضرة الهولندية أمستردام من العودة لسماع غنائيات الماضي الجميل, وما نلحظه من لهفة متابعة غناء صالح عبدالحي في التلفزيون, وفي فيلمه اليتيم (الشريد), يمثل حالا من حالات ما يسمى (Mostalgia), أي الحنين, ومنها مظاهر الحنين لغناء ذلك الماضي الجميل, فهل تستمر حال الانتعاش للغناء الرصين بالعودة إلى سماع رموز هذا الغناء عندما يعاد طرحه في تسجيلات فيها معالجة حديثة لتقنيات الصوت, وفي صور حديثة, مثل الاسطوانات المدمجة والكاسيت?!
يظل جميل غناء جيل الرواد, ورموز ذلك الغناء الجميل, ومن بينهم أمير الغناء في النصف الأول من القرن العشرين صالح عبدالحي, يصارع هذا الغناء الظروف من أجل فرص أفضل في الحفاظ عليها, وتوثيقها في مكتبة التراث الغنائي, وفرص أكبر من أن تتاح للكبار, فرص إنعاش ذكرياتهم, وإبهاج أيامهم الحالية بمثل هذه الألوان النادرة, وهي فرصة أيضًا للأجيال الحالية للتعرّف على كلاسيكيات الغناء, فلا تبدأ من فراغ, ولا ينتهي بها الحال إلى عدم التعبير, وغياب المعنى في غنائيات الفيديوكليب الحالية.
وعندما نعود إلى خزانة تراث الماضي الجميل, وتعود إلى المسامع أغاني صالح عبدالحي, بعدما توقف تدفقها لسنوات, لأمر لم يزل بعيدًا عن فهم أبعاده, وهو لم يزل أيضًا بعيدًا عن بحثنا وإدراكنا. عندما نعثر على هذه الغنائيات, نشعر بضرورة تلمّس أسباب الانقطاع في حياتنا الثقافية, ومنها قطع الجسور بين الموروث والمستحدث.
يعود بنا غناء صالح عبدالحي إلى زمن السخاء والتنوّع والعودة إلى الينابيع الصافية, التي مازلنا ننهل منها, مثل تلك الأعمال الطيبة, التي قدم من خلالها نجوم اللحن العربي أروع إبداعاتهم مثلما قدم رياض السنباطي (ليه يا بنفسج), ومحمود الشريف (حبيبي هو الآمر الناهي), وأحمد صدقي (قالوا الجمال ألوان), وداود حسني (حبك يا سلام), ومحمد عثمان (ياما انت واحشني), والشيخ عاشور (الورد مهما دبل), والشيخ أبو العلا محمد (أراك عصي الدمع), وعبده الحامولي (الله يصون دولة حسنك), وهي غير إخلاص صالح عبدالحي للأداء الرصين والشجي, ومتانة أحباله الصوتية وقدراته الأدائية العالية, وهو يغني (يا حادي العيس), (الليل عليّ طوّل), (يا ليل فيك ناس بيشكوا لك مواجعهم), (خليني أسير وحدي), وغير ذلك من مشاركات صالح عبدالحي لسلطانة الطرب منيرة الهدية في روائع مسرحها الغنائي, وبعضه مسجل بحال يمكن إنقاذه في إسطوانات من الإنتاج القديم.
يفجّر غناء صالح عبدالحي كوامن الحنين للماضي الجميل, خاصة وهو يصف غناء اليوم الذي لم يعاصره بقوله: (عشنا وشفنا, واللي يعيش ياما يشوف العجب)!!