قراءة نقدية
غي دراستها عن خليفة الوقيان تدق نجمة إدريس باب الشعر بيد متشحة بروح القصيدة وفراسة النقد حتى تدخل بنا إلى عالم من الدهشة والمفاجأة.
الكتابة الجميلة تفتح أمامك مساحات نبض حية وآفاقا رحبة تكون معها كأنك جالس تتأمل صفحة ماء بحر أو نهر جار, ترى سطحه المتحرك فترحل معه أو يرحل بك إلى عوالمه التي تنطلق فيها أخيلتك, رحلة وجدتني في لجتها, مع نهر الشعر المتدفق, وأنا أتصفح كتاب: خليفة الوقيان في رحلة الحلم والهم فتمثلت أمامي نفحة الشاعر جوته القائل:
من أراد أن يفهم الشعر
فليذهب إلى بلد الشعر
من أراد أن يفهم الشاعر
فليذهب إلى بلد الشاعر
(ت: عبدالغفار مكاوي)
إن هذه الدعوة تلخص وتعطي ملمحاً مضيئاً عن الباحثة الشاعرة د. نجمة إدريس, لم تحمل مبضع التشريح ولكنها ترسل عين التألق القادرة على التغلغل بين السطور, أشعة كاشفة تصل إلى الدقائق دون أن تمزق أنسجة أو تهتك أربطة, ناظرة نظرة تمتزج مع الشعر والشاعر, داخلة إليهما دخول من يملك معرفة تدرك دورها المفترض, ويملك الحس النقدي وأدواته.
اكتشاف إنسان
إن كتابة ترجمة حياة إنسان, بله شاعر, عمل مثير, فيه الكثير من الحب باندفاعه ومعاناته, يشيع في نفسك الرضا حينا ويملؤها بالقنوط والخوف حيناً آخر, تأتيك لحظات تشعر فيها أنك تلامس الحقيقة, وتأتي لحظات أخرى تحس فيها ومعها أنك أمام سلسلة من الأبواب المطلية بالأسرار, فالإنسان ليس ملمساً ظاهرياً, وإن بدا أمامك حاضراً, إنك تحتاج, كي تسبر غور بعضه, إلى صبر الباحث, وخيال الشاعر, وشوق المحب, وأنف المحقق الذكي, وضمير الأخلاقي.
إن الربط بين العمل الأدبي والحياة, وتكريس إنسانية الإنسان هو المعنى الجميل لمثل هذه الدراسة, فالإنسان الشاعر, ليس وعاء نقذفه خارجاً مثل أغلفة و بقايا الوجبات السريعة, ولكنه جزء من الغذاء نفسه, يعطي حضوره نكهة خاصة لا يحسن بنا أن نتجاهلها, وليس من المفيد أو الصائب أن نجعل المعاصرة حجابا, ولكن حري بها أن تصبح مفتاحاً ذهبيا لمغاليق كثيرة.
وهذه الدراسة التي بين أيدينا, كما أخذت الحياة إطاراً لفهم الشعر, فإنها أيضاً رأت أن شعر الشاعر هو حياته الحقيقية التي يمكن أن نصل إليها, فشعر الشاعر وسيلة لاستكمال الصورة, وتستدعي خلال ذلك وبعده كل الأدوات النقدية الممكنة للفهم والتجول في آفاق النصوص.
قامت الدراسة على أربعة أعمدة مثلت فصولاً أربعة, في داخلها العشرات من الزوايا والأركان واللمسات التفصيلية التي تواصل أجزاء البناء في الكتاب, ولم يكن الفصل الأول إلا توطئة لتحديد طرفي الأدب, حيث حددت الباحثة طرفي تجاذب حلقة الإبداع والمتمثلة في المبدع والناقد, وإن هذه المشاركة مقننة, بسبق الأول, المبدع, ولحوق الثاني, الناقد, وبعلاقة الإنشاء والخلق بالاستشراف والتأمل بالبناء والخلق, وأن الأول مثيرللمسائل بينما الثاني مستقرئ مستنتج مستجمع للخيوط وتهاويمها.
إن إعادة التوازن بين الإبداع والنقد هو المدخل الذي أرادت أن تبدأ به, مع تأكيدها أن هدف الكتاب تحدد في كونه دراسة وليس نقداً, ومقاربة بحثية وليس تطبيقاً على نظريات نقدية جاهزة.
بين الوثيقة والخيال
لم تكن أدوات النقد هي إزميلها الوحيد, أو ريشتها المنفردة في تشكيل الصورة, ولكن ثمة أداة, تتمتع الدارسة الباحثة بها, جعلتها أداة أساسية في تشكيل عمود الصورة وملء الفراغات الموحية, ونعني هنا ذلك الخيال المنتج الذي هو طاقة مهمة لتناول الإبداع, فأنت لا تستطيع أن تدخل عالم الشعر دون أن تملك أو تجاور خصائصه الأساسية, وهل هناك أداة أهم من الخيال الذي هو لحمة وسداة البناء الشعري, لذلك كان لخيال الدراسة - الشاعرة, دوره الخاص الذي أقامت عليه جزءاً من تلك الصورة.
بدأت مشارفة الباحثة للسيرة مثلما تبدأ الحبكة الدرامية القائمة على الاسترجاع بفصل تمهيدي من نقطة متأخرة تكر منها رحلة العودة إلى الخلف يلتقي عندها فجران, أولهما البادئ من النقطة المتأخرة, حيث إحدى محطات الختام التي وصلت فيها أحداث السيرة إلى إحدى ذرواتها, لحظة أنهى الشاعر جزءاً كبيراً من رحلته, فتشكلت وقفة (الحصاد: 1995): القصيدة والوقفة.
وتبدأ الخطوة الراجعة من اليقظة الأولى, من فجر قديم تعود إليه وتنطلق معه بخيالها, لحظة أو محطة خاصة من محطات حياة الشاعر يجتمع فيها فجران, فجر يوم ربيعي وفجر الصبا, لحظة تشكلت عنده فيها لمسات الحس الشعري الأولى.
وبضربة ريشة الدارس الحاذق تتابع تباشير مراحل التفتح والإحباط, تفتح الشعر في نفسه حين رأى أسس البناء الثقافي في بلده وهي تتشكل أمامه, فهذه وقائع مؤتمر الأدباء العرب الذي عقد عام 1958 على مقربة منه, وصافح وجوه رواد الجيل مثل عبدالرزاق البصير وخالد سعودالزيد, وخنقه الكبح حين رأى أن تفجر موهبته لم تجد إلا الصدود والإهمال, ثم عانى حسرة توقف شوط التعلم وتقلبات الحياة, حيث جاءت إليه المسئولية المبكرة التي تحولت بعد ذلك عنده إلى إحساس ملتزم إلى حد يفوق الطاقة, فتصبح لازمة من لوازم شخصيته.
يأتي الولوج إلى عالم الأدب بعد ست سنوات من الوقائع السابقة, وتتابع المحطات الرئيسة في حياة الشاعر, من الوظيفة إلى مقاعد الدراسة من جديد في الجامعة, ليس فيما كان يرغب, الحقوق, ولكن فيما رسمت له فيه أقداره: دراسة الأدب, ورافق هذا التحاقه بمؤسسة رابطة الأدباء, وتشكلت من حوله حلقة الذين سيصبحون مقاسميه في أيامه المقبلة.
في نقلة أخرى تلامس الفترة 76/1975 التي تشكلت فيها رؤى وعلاقات خليفة الوقيان وبرزت أفكاره في صورة مقالات وملاحظات بينما كان الشعر عنده يتأرجح بين فضاء دهشة الولوج الأولى إلى عالم لم تتضح معالمه, عالم يثير الحيرة والشك والقلق ويستدعي التساؤل والأحزان الغامضة وحس الاغتراب, فتكون الرومانسية ملمحاً نفسياً ووجدانياً يسم مرحلة التحول المبكر في عمر المبدع.
ويأتي بعد هذا فضاء آخر يتمثل في البحث عن شخصية صلبة ترفض التجيير والتبعية, وتطلب التميز والخصوصية, متوسلة إلى ذلك بالثورة على القوالب الجاهزة ونموذج الإنسان المدجن.
إني لأصنع من حطام نوائبي
شمساً تطل على شفا أهدابي
وأصوغ من غصص العذاب ملاحمي
وأقيم من أعواده محرابي
وتبدأ رحلة الإبحار مع رياح الحياة والسفر في إسار الإحساس بالمسئولية وتحملها بكفاءة المؤمن برسالته, فساهم مساهمة أساسية وبارزة في إنشاء المؤسسة الثقافية الأولى في الكويت (المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب), فقد كان أحد أعمدته, وما تخلل هذا من رحلة الحياة الشخصية التي شابتها نظرة فلسفية قانطة, ولكن حس الحياة كان أكبر, فتقلب بين الدخول في مسارها حيث منطقة الأبوة, وبناء الحياة إلى معاناة الفقد وتساقط الأحبة من حوله.
وتمر الأحداث والمواقف السياسية حتى الموقف الذي اختار فيه الاستقالة البائنة المسببة من الوظيفة, وفيها يتكشف طبيعة الموقف الحاسم عنده, فيتحرر الإنسان من ربق الوظيفة لينطلق الشاعر متفاعلاً مع وسطه, فقد برزت (تحولات الأزمنة) على مستوى الحياة والشعر, ففي الشعر يواجه تحديات الشكل الشعري والخروج من التقليد والنمطية إلى فضاء الكشف والإدهاش وصولاً إلى شخصية مميزة تخصه وحده.
في الشكل الشعري تتابع الباحثة محللة التغيرات والملابسات المحيطة بخروج الشاعر من إطار إلى آخر, ومعاناة (الخروج من الدائرة), فكان انحيازه لقصيدة التفعيلة التي جربها في محاولات مبكرة, أمسك بها وجعلها ركيزة لها مساحة واضحة في شعره, مع نص (تحولات الأزمنة) هذا النص الذي جاء (أكثر تمييزاً وتعبيراً عن روح القصيدة الحرة المتسمة بالكثافة الشعورية والإيماض دون السقوط في إغراءات لفظية مترهلة أو عبودية لقافية متواترة).
ويرتبط هذا بتحول الموقف الحياتي والفكري وأحداث سياسية واجتماعية شهدتها حقبة الثمانينيات التي افتتحت بالحرب العراقية ـ الإيرانية, إضافة إلى التحولات الداخلية حيث تعثرت الحياة النيابية الفاعلة, وصولاً إلى مرحلة الغزو العراقي للكويت وتداعياته.
صورة لحياة الشاعر خلصت إليها من خلال تجميع شذرات الأقوال المتفرقة من عارفيه والمقربين منه, سواء داخل أسرته الصغيرة, حيث صورة أبوته أو من الكلمات التي قيلت عنه وله من ملاصقين له عرفوه وخبروا معدنه.
اقتفاء الأثر
بروح المتقفي الصبور للأثر المتواري كانت رحلة البحث وراء الشاعر من خلال شعره, والشعر من خلال الشاعر, ذلك التوازن بين المعلومة الخارجية والدلالة الداخلية للنص, دون إقحام ممجوج أو خلط مشوش, لقد كانت المقولة جامعة: رحلة الحلم والهم:
أيهذا المسافر
في رحلة الحلم والهم
قد أرهقته الليالي
وأدمت خطاه
شفار الصخور
(الحلم يتخذ في وعي الشاعر وحدسه شكل (مشروع حياة) وتخطيط آمل لواقع أفضل وأكمل, ولكن مقاربة هذا الحلم تحتاج إلى عدة وتهيؤ ووسائل تتمثل جميعها بالأعباء والتبعات والكدح المضني الذي تتطلبه هذه (الرحلة - الحلم) وتستدعيه, ولذلك أردف (المترحل) (الحلم) بـ (الهم) ليدلل على الثمن المستحق الذي يقتطع من شأفة الصبر والعناد والمجالدة).
وتأتي الأسئلة النافذة إلى مراكز الإشعاع في الذات المتسائلة: من هو? أين موقعه? ما محيطه? ما اليقين الذي يحتاج إليه ما الصورة التي يراها لواقعه الحياتي وللوجود?
إن محطة الذات يتمحور اكتشافها في موقفين: الموقف من الحب, والتأمل في الموت. لقد بدا في موقفه من الأول - الحب - حومان حول التخوم والآفاق دون الوصول, بل يكاد يكون هناك لون من الزهد في الوصول, لون من العناد والإباء والجدل المستمر حول جدوى (اصطناع) قيم الحب في عالم فارغ منه.
الهم الوطني
إن الهم الوطني المتجاور والمتخاذل مع الهم العام في هذه المسيرة الطويلة يتفجر ويتميز موقفاً حين جاء الغزو العراقي للكويت, هذا الغزو الذي (كان في مباغتته ولا معقوليته) صادماً ومزلزلاً لكثير من قناعات أخوة الدم والجيرة ووحدة المصير ووشائج الحب التي دافع عنها خليفة الوقيان منذ انطلاقته الأولى وعبر عنها بشفافية وصدق وصلابة إلى حد التبتل:
أنا شاعر
لا أخبئ في حضن بيتي
في نبض قلبي/ في صدر طفلي
غير العروبة عشقاً قديماً
وهماً مقيماً
إن الوطن الصغير انتماء وهوية, هذا الانتماء الذي لا يتعارض مع الفهم الأوسع للقومية العربية أو يناقضها, ففي نصوصه ظل وفياً لمبادئ القومية فكرة ومعتقداً, رافضاً الزيف والتشويه الذي ألحق بها وأساء إلى معدنها الأصيل, فاضحاً تلك السياسات التي أساءت إلى القومية العربية:
أيها القادمون مع الليل
إن العروق التي نزفت/ فوق رمل الكويت
لم يكن نبضها/ غير خفقة العروبة/ في كل بيت
قضية الحرية
كيف نرى الحياة, وكيف يأملها شاعر أراد أن يكون في قلب الأحداث لا على أطرافها, يلمس بل يلسع وهجها أصابعه?. إن هذه الإرادة الواعية تعني حضور القضية الاجتماعية التي مثلت ملمحاً أصيلاً في تجربة الوقيان, هذا الحضور الذي قدمته النصوص الأولى في صورة تململ وضيق من سوء أحوال وانفلات موازين ومفارقات, هواجس وتهاويم مقلقة محيرة.
ويتجاوز الشاعر هذه التهاويم ليصل إلى التجسيد, حين يستخدم القناع أداة فنية يكون فيها الحديث عن الصبر والجلد والتفاني والتحمل الصامت, كما في (من مذكرات حمار), هذا النص رأت فيه الباحثة تلك المفارقة (الصارخة) بين حالين أو صورتين, أولاهما صوت يحاول الاحتجاج على وضع الاستصغار والنسيان فيقابل بالاستنكار والهزء فيعود إلى قوقعة الخيبة محطم الآمال, وفي مقابل هذه الصورة يصل صوت من لا يستحق ويعلو وتلمع هامته البغيضة وسط البهارج والصخب والأضواء الفاحشة حيث لا مكان للفقير الكادح المهمش في مجتمع لا يضج إلا بالمدّعين وفاحشي الثراء والمزيّفين.
أنكرتم صوتي
نعم / إن أنكر الأصوات صوتي / حين ترتجف الشفاه
أنا أنكر الأصوات / حين الهامة الغبراء تصدح / في الرياض اليانعات
وتطرز الغربان أنداء البراعم / بالنشيد
وتلوذ بالقفر البلابل / تندب الحلم الشريد
في مهرجان الليل / تنكرني المرايا / والسبايا
والجواري الراقصات / على التكايا
والدفوف البكم / والناي الهجين
إن هؤلاء البسطاء الذين تم تهميشهم هم وقود السياسة الإرهابية كما تجلى في قصيدة (مذبحة الفواكه) ويأتي نص (هنيئا لكم) بخطابه التهكمي اللاذع يعري المتاجرين بالشعارات المضللة ويقيس حجم جريمتهم المتناقضة مع بدهيات اليقين الإيماني الذي يدعون, وتتقابل المتناقضات في سياق النص وتطرد المفارقات الفاقعة, لتوسع شيئا فشيئا بين الادعاء والحقيقة. يخرج من التهكم إلى قياس حجم الفارق بين قسوة عمياء متشفية وضعف أعزل إلا من براءته وغفلته, وبين ممارسة همجية مريضة وضحايا ضاقت بهم الحيلة والمخرج...
إنها وقفة ضد الإرهاب الذي هو ابن فكر الغلو والانغلاق, التي لم يجسدها الوقيان شعرا فقط, ولكن تابعها كتابة وتحليلا, وقد اتخذ التحذير من ظاهر الغلو والإرهاب الفكري في شعره لغة أكثر حدة وأشد وقعاً متوسلا بالصورة المكثفة والتقطيع الحاد والموسيقى ذات الدوي والمفردات المشحونة بأصداء الغضب أو النفور أو التحذير, وكلها سمات واضحة تصدق على أهم ثلاثة نصوص في هذا المضمار (تعويذة في زمن الاحتضار) و (الطاعون) و (المجد للظلام).
المجد للظلام
للصوص السارقين من فم الرضيع
لثغة الكلام
الغاصبين من جفون الأم / شهية المنام
النصر للرمم
للخارجين من حفائر العصور
سطورهم شواهد القبور / وجوههم ملامح الحجر
كانت هي الركيزة الرابعة من ركائز الهم العام, حيث أكد على أحقية الإنسان بالاختلاف في نص مبكر (رأيي ورأيك), هذه الحرية التي كان أشد خصومها هم مطارديها وسجّانيها من الجواسيس والمخبرين, الذين يفجر في تناولهم إشكالية تثير الشفقة والتهكم بدت في نصه (رسالة إلى مخبر بدوي), وفيها شخصية (البدوي) حين تحول إلى ضحية فقدت فضيلة الاختيار, عاجزة عن التوفيق بين قيمه البدوية الأصيلة حيث انطلاق الروح وحقيقة كونه أسير مهنة التجسس, لقد جاءت لهجة الشاعر في هذا النص مشمولة بالعطف والشفقة, متفهمة لضعفه وأزمته الروحية مع القيم ومتغيرات البيئة والمجتمع:
يا صديقي يا غريب الروح / يا حزنا تكوم
وتزيا من نسيج الخوف / صمتا يتكلم
يا نقاء الرمل / لما شابه الزيت / ويا حسا تلعثم
همنا أن لا نرى وجهك / في كل مساء يتجهم
همنا أن نشهد الأطفال / في كوخك / كالأطفال في البيت المنعم
ولكن لهجة الشاعر تتشدد منددة في نص (كلاب الصيد) الذين جعلوا من أنفسهم رقباء على تطلعات الإنسان وانطلاقاته في التعبير عن رأيه ومعتقده, ويأخذ هذا التنديد بمصادرة الحرية أشكالا متعددة, من الحديث المباشر إلى اللجوء إلى توظيف الرموز التراثية والدينية أو يستحضر التعبيرات الدينية في مقام التململ من اضطهاد الرأي وقمعه.
ولا تقف قضية الحرية عند الهم الاجتماعي, ولكنها أيضا ذات ثقل إنساني لصيق بتجليات الذات وأشواقها الفطرية إلى التحرر والانطلاق, حيث تتشكل الحرية بمتلازمين بحياة منطوية على الخصوبة وإنسان يتوهج بالحب كما بدا في أربع مقطوعات جاءت متلازمة: (عصفورتان), (في الليل), (عوسجة), (خفقة). وفي هذه المقطوعات تتحقق معجزة السعادة بقلبين عاشقين يلفهمها محيط أمان ودعة, ولكن كف الإنسان الذي تنمو فيه عناكب الحجر التي تحطم هذه السعادة, كما أنه:
في الليل
حين ترقد الضغينة
يستيقظ العسس
أما (العوسجة) الملتفة بشوكها فإنها تنقض على فريستها (السوسنة) القتيلة, فلم يبق أمام جو المحاصرة والانتهاك إلا ذلك القلب الخافق العنيد الذي يواجه الحياة وانكسار الإنسان أمام جلاديه ومغتصبي حريته.
ويأتي السقوط الأكبر للحرية بحضور ذلك الغزو والاحتلال:
هاهم القادة الفاتحون
تسابقهم حشرجات الرصاص
يسدون كل المنافذ / والطرقات الحزينة
تجتاح نعلهم كل شبر ببيتي / ونبض بقلبي
تبعثر أوراقي الصامتة
تمزق ألعاب أطفالي الخائفين
في ظل هذه الأوضاع الناطقة بالقسوة والعنف, تتفتح كل الأسئلة حول (الحرية) باحثة عن مخارج ومواقع في زمن مجنون, سقطت فيه فضيلة الجدل وحل محلها الغضب والحزن والحوارات المؤجلة. ويقف الشاعر, مشدوها, معذبا بالأسئلة وعلامات الاستنكار, محاولا أن يكون - وسط ذلك الركام - شاهد عصره وعينه الشاخصة اللاقطة. من هنا غلبت على أسلوب المقطوعات التي قالها في هذا الظرف لغة الكاميرا وتقنية التصوير المتسارع اللاهث, مما يشي بزخم المشاهد واحتشادها بالروع والعنف, ووراء تلك المشاهد كان يتكدس الغضب والحزن, وبكائيات زمن صعب كانت (الحرية) ضحيته الأكبر والأفدح.
أدوات الشعر
عالم الشاعر الحديث يحتاج دائما إلى مداخل خاصة, فقد جعل ذلك البعد التراكمي لتجربة الشعر دروب التناول وطبقات التجربة من العمق والتشعب ما يستدعي من الدارس الانتباه إلى طبيعة الأدوات الشعرية وجس أوتارها الخارجية وأنغامها الداخلية كي يصل إلى عوالم التموية والتورية والمفارقة والسخرية والاختلاف, كل هذا يتم من خلال تطويع الشاعر لأداته الرئيسية, اللغة, والتي هي الفلك الذي تدور به وحوله عوالم الشعر, منها وإليها وبها يتم تفجّر التناول الشعري, ولذلك كانت وقفة الباحثة مع اللغة وقفة من يدرك هذه الآفاق غير المحددة بأطر يسهل الاتفاق حولها, وقد تلمست مسار لغة خليفة الوقيان الشعرية, فرأت فيها لمحة التطور التي تراوحت - في أول الأمر - بين لغة تقليدية تراثية ذات جذور نفسية وثقافية تفجّرت في النصوص القومية, وتجاورها لغة أخرى أخذت من رومانسية لغة العصر سماتها من تفرد وتأمل وحزن وحيرة, مستعيرة مفرداتها المألوفة من ليل وشجون ورؤى وحنين.
وتأتي لغة أخرى تندفع مع التعبير عن الهم العام فتعتمد تقنيات الحوار والمونولوج وتراسل الخواطر وتقنية القطع والوصل وتوظيف الأحلام والرمز والقناع واستحضار الشخصيات التاريخية والتراثية وإسقاط رموزها وأدوارها على الواقع الراهن, وكذلك توظيف القصص القرآني والميراث الديني والبيئي, وهي (لغة مفكرة) واعية فيها سمات الترتيب المنطقي الذي يتطلب درجة من الوعي. وبدت العناية بالجدل والميل إلى إيراد الحكمة والمثل وتجارب السابقين, إضافة إلى الوعي المفكر حين اصطناع الرمز والقناع حيث الحاجة إلى قدرة التفكير المنظم وعلى معرفة المتشابهات وحس المقاربة ووجاهة التوظيف.
وتأتي النزعة الدرامية ملمحا من ملامح شعره, وهي نزعة تستدعي حضور مكونات الفعل الدرامي, القائم على الصراع حيث حفلت نصوصه بتقابل المتضادات والمتناقضات, إضافة إلى الحركة والنمو كما في قصيدتي (المبحرون مع الرياح) و (الحصاد), ولا تقوم النزعة الدرامية إلا بحضور الشخصيات التي كان لها دورها المتميز في قصائده, فثمة جملة من الشخصيات, مثل المخبر والحمار والإرهابي, وفي رصده للمشاهد وسرده للأحداث يبدو حاضرا على مشارف الحدث, يستقصيه ويصوّره من موقع الاستشراف, مشيرا إلى مواضع التوتر والتأزم.
ويمثل الديالوج والمونولوج عنصرا ثالثا من عناصر الدرامية التي توزعت في نصوصه المختلفة. وهذه كلها تجمعها (الحبكة الشعرية), وهي تلك القدرة على تجميع مفردات التجربة الشعورية والنفسية المتناثرة, وخلق صورة نموذجية للحياة في مفهومها الفني, والخروج من الوتيرة الاعتيادية والارتفاع إلى درجة الصقل الفني, حيث يتوافر النص الناجح محاولة (لهندسة الشعور) فتتحقق له ميزة الكثافة والعمق والتأثير.
العاطفة والانفعال
وخلف هذا تأتي العاطفة والانفعال التي كان خط بيانها في الإيقاع الموسيقي الكامن في امتداد الحروف والكلمات أو الظاهر في الوزن العروضي, ويلعب الإيحاء والدلالة دورا كبيرا في مجال الإشارة إلى نمط العاطفة إضافة إلى وقع المفردة وحضور الصورة.
ويتبدى الانفعال في نصوص ناضحة بالتهكم اللاذع, متشحة بالمرارة أو الشعور بالخذلان والشفقة والغضب:
إيه يا أهل الوجوه الخشبية
والعيون المطفأة الحجرية
تفجر أيها الغضب المهجر / أيها الألق المغيب
في المدى المخنوق / في الأفق المعفر
والصورة عنده ليست كلمة محددة, ولكنها أداة طيعة, تأخذ أشكالا متعددة رأتها الباحثة في ستة تشكيلات, منها الصور الممتدة التي تأتي في لوحة كاملة (تتمثل في تحويل موضوع النص إلى لوحة تصويرية كبرى تنمو باطراد وتؤدة إلى أن تصل إلى آخر لمسة ريشة عند نهاية سطرها الأخير, كما في نصي, (مذبحة الفواكه), و(نزهة), المظهر الآخر لتشكيل الصور الممتدة هي التوقيعات, حيث تأتي مشاهد منفصلة, كل مشهد قائم بذاته, ولكنها تكتمل وتتلاقى لتكون مظاهر مختلفة لحقيقة واحدة, ظهر هذا في (تحولات الأزمنة) و(تسابيح) و (أربع قصائد).
ويكتمل عقد الصورة باستخدام المفارقة, فالنص بما أنه نص انفعالي, وليس إشاريا, فإن المفارقة تفتح آفاق السخرية وتجميع الأضداد وتستحضر البعيد, وتخلط الدلالات, فتمتلك القصيدة شيئا خاصا لا يملكه النص العادي, لذلك رأت الباحثة في المفارقة في نصوص الوقيان التي (غالبا ما تأتي متضمنة روح النص الذي عادة ما تبنى فكرته الأساسية على الإحساس العارم بوجهي التناقض والتضاد في مظاهر الحياة ومواقفها (مذكرات حمار), (إشارات)).
وتكتمل أدوات الشاعر بالرمز بكثافته وتجلياته, وتقنية القطع والوصل في المشاهد والصور, وهي صور ومشاهد تلاءمت مع محنة الاحتلال من حس التمزق والاختلاط والتشظي, وهي ملامح يصلح لها هذا النوع من التناول.
وبعد: هذا خليفة الوقيان كما مثلته الباحثة نجمة إدريس في رحلتها معه حلما وهما:
وحدك الآن
تحصد في مهرجان الغنائم
شوك القبور
شاعر يتململ فوق صهوة نضاله مثخنا بالألم والمرارة, طاويا جناحه على وحدة قاتلة ويتم مروع, هاهو يعيد ذات التساؤلات المضنية الأولى, فهل هو عود على بدء?!!!
وبعد:
يتبقى ما تساقط أمام العين من ملاحظات عابرة, أبدؤها بالوقوف عند حديثها عن الحب الذي حصرته في تلك العلاقة العاطفية المباشرة, وفي هذا الفهم إهدار لقيمة الحب في الحياة, فإن الأبعاد الأخرى المتصلة بالواقع والدخول في الهم الاجتماعي, ودفاعه عن البسطاء وتعاطفه مع المهمشين, كلها مؤشرات على اتساع مجال الحب عنده وتجاوزه حدود العاطفة المحصورة بين اثنين, تصل أحيانا إلى حالات مرضية, إلى عاطفة نامية متطورة, نقول هذا رغم علمنا أن التعبير عن نغمة الحب بدائرته العاطفية الشائعة كان حاضرا في شعر خليفة الوقيان حضورا لافتا للنظر ومنفتحا, ليس على طريقة جميل معمر أو عمر بن أبي ربيعة, فهذه حالات استثنائية لأن شعر هؤلاء هو حدود عاطفتهم الذاتية, وذاتيتهم هي شعرهم, وليس كل الشعراء كذلك, فالاستثناء, وإن اتسعت مساحته ليس قاعدة. إن في دواوين خليفة الوقيان وقفات عاطفية لمست الدارسة عددا منها, ولها أن تفسرها كما تشاء, ولكن هذا ليس بمانع من إخراجها من حيز الانغلاق إلى مفهوم الانفتاح بسهولة ويسر, إن النصوص التسعة من الاثنتين وعشرين مقطوعة التي جاءت في ديوانه الأول الممثل لمرحلته الأولى فيها الكثير مما يقال, فلو تأملنا, مثلا, قصيدة (عالية) ولنضم إليها (بيروت) وغيرهما سنجد عاطفة ثرة مفصحة عن ذاتها شعرا, ولم تخل دواوينه الشعرية اللاحقة, رغم انسياقه في الهم الاجتماعي وصخب المشاركة الإيجابية من وقفات يحسن تأملها من منظور عاطفي منفتح.
إن مساحة الحب في صورته العاطفية المعهودة كانت حاضرة بوضوح ما كان لها أن تغيب عن شاعرة تدرك خفايا السطور, والشعر لمح تكفي إشارته.
مراثي الحب
وتنبيه آخر قد يكون حاشية إضافية على ما قالته الباحثة نفسها حين تشير إلى أن المراثي التي قدمها الوقيان كلها تخرج من بوابة الحب الخالدة, إن دافعها هو ليس الحزن والحسرة المجردين, ولكنها خارجة من منبع حب راسخ عظيم. إن مراثيه عاطفة غير عادية - بل وفريدة في الأدب العربي - تدل على فيض متميزة يتجاوز التلميح والوقوف عند الحب في شكله العام. قالوا قديما إن الحديث عن الموت - الرثاء - يحرّكه الوفاء, بينما كانت مرثياته ينبض فيها حب يأبى أن يسقط الراحل من قلبه ويريد أن يبقيه حيا, إنها عاطفة حب غير عادية وليست وقفة فجيعة فقط.
تسامح الجوار
أما الشاعر, فمع أنها أدركت صلابته واعتزازه بذاته وتجربته, فإنها سرعان ما نسيت هذا وراحت تحكم عليه حكما غريبا حين فسرت سبب تمسك الشاعر في السبعينيات بشكل القصيدة العمودية بأنه يعود إلى (مسايرة) الجو المحافظ أو البيئة الأدبية في رابطة الأدباء!! مقدمات تفتقر إلى المعلومة والدقة, فالشاعر الوقيان عرف بصلابته وتفرده وثقته بنفسه التي تأبى الانقياد لأحد, كما أنها تعلم أن قصيدة التفعيلة كانت أكثر حضورا في تلك المرحلة, والمرحلة السابقة لها, فقد أصدر علي السبتي ديوانه الأول, وكان العدواني, الذي عرفه الوقيان أستاذاً ثم مجاورا له في السبعينيات قد أطل على إشراقات القصيدة الحديثة في أوائل الستينيات, بل إن الوقيان كان معجبا بتجربة الشاعر خليل حاوي.
وأهم من هذا فإن التجاور بين الأنماط الشعرية والأفكار المتباينة سمة من سمات ذلك المجتمع الثقافي, ولو نظرنا إلى ما كان ينشر في مجلة البيان - لسان حال الرابطة - لوجدنا ثمة اهتماما بكل الاتجاهات وإليها هذه اللقطة الدالة, في العدد 13 من مجلة البيان (أبريل 1967) نشر خليفة الوقيان قصيدته (الليل) وكان يجاوره في العدد نفسه أربعة نصوص ذات نفس حداثي لمحمد القيسي وعبدالله العتيبي ووليد أبو بكر وكمال طعمة وفايق عبدالجليل. وبعد خمس سنوات, ينشر قصيدته (رسالة) ومعها قصيدتان مثلها, وبجانبهما ثلاثة نصوص جاءت على نظام التفعيلة.
إذن لم يكن الوسط منغلقا, ولكنه يحمل تسامح التجاور, ولم يكن الوقيان ممن تحكمه أفكار الآخرين, ولكن الذي يقوده هو موقفه واختياره واعتزازه بنفسه وتجربته الخاصة. ألم تقل الباحثة هذا?!
ومثل هذه الأحكام قولها واصفة, على سبيل الانسياق الفكري والإرداف اللفظي, المجتمع الكويتي بقولها إنه في حقبة الخمسينيات كان مجتمعا يخرج من حياة البساطة والشظف - وهذا قول حق - ولكن الذي ليس حقا قولها: والمدينة المغلقة أسوارها على خصوصيتها ونكهتها... إلخ. وهذا قول تنقصه الدقة, فالمجتمع الكويتي لم يكن مغلقا, ولو انغلق لمات, لأن قوام حياته كان مبنيا على اتصاله بالمراكز التي كانت أكثر تطورا, هو مجتمع مدينة ساحلية بحرية تجارية, غالبية رجاله يقضون أكثر من نصف حياتهم متنقلين بين تلك المدن التي قطعت شوطا في مضمار التحضر, ليس للسياحة ولكن لكسب العيش والاحتكاك القاسي مع مجريات الحركة الاقتصادية والسياسية. لذلك كانت حركات الانفتاح سابقة جدا على المرحلة التي تتحدث عنها. إن المبررات المعلنة لغزو الكويت في أوائل العشرينيات كان انفتاحها الفكري والاجتماعي والديني, وكانت المواجهة والتحدي وإخراج الأظفار داخلياً وخارجياً دلالة على أن ثمة معركة فكرية كانت تضطرم آنذاك. أليس كذلك? أعتقد أنه كذلك?!
وأزيد قائلاً: إنني أتمنى لو أن جيل مطلع القرن الواحد والعشرين ساوى ذلك الجيل في تفتحه واتساع أفقه.