مختارات من:

د. علي الراعي وفاروق عبدالقادر

المحرر

- محاولة اكتشاف الذات في عالم يتغير بشدة وسرعة
- عندي ولَع خَاصّ بالمهَرج والمُحتَال!
- دراما التلفزيون أدخلت المسٌرح الجاد في مأزق
- توفيق الحكيم سَيبقى علامة بارزة في تاريخ الدّرامَا والمسرح
- في النقد: أطالبُ بالإفراج عن النَّصّ!

قال في أحد أحاديثه "إنني لا أكتب نقدًا بقدر ما أحاول أن أرد الجميل للكاتب الذي أمتعني من خلال كتاباته.." من هنا كان الوصف الدقيق الذي أطلق على الدكتور علي الراعي بأنه ناقد محب. لا يقترب من الأعمال التي يكرهها. ولكنه يتعرض لتلك الأعمال التي تمس قلبه حتى تفجر كل ما في أعماقه من أفكار خصبة ومشاعر صادقة.

إنها رحلة طويلة خاضها ذلك الناقد المحب، منذ أن كان مذيعا لامعا في الإذاعة المصرية في مطلع الأربعينيات، ثم قرر أن يتخلى عن طريق الشهرة كي يعاود الجلوس في مقاعد الدرس والتحصيل، ويعود إلى مصر حاملا رسالة الدكتوراه من جامعة برمنجهام الإنجليزية عن مسرح برنارد شو عام 1955 ليبدأ رحلته كرائد ومعلم ومثقف تتسع اهتماماته لكل مجالات الثقافة، لا في مصر وحدها بل في كل أجزاء الوطن العربي. يشارك في الحركة النقدية، ويصبح واحدًا من أعمدة النهضة المسرحية في الستينيات، ثم يسافر الكويت في بداية السبعينيات، كي يشارك في إنشاء معهدها المسرحي، ويبقى بها تسع سنوات كاملة كأستاذ بجامعتها. وخلال هذه الرحلة الفكرية لا يتوقف عطاؤه عن تأليف الكتب فيقدم. بأسلوبه السهل الممتع عشرة كتب في النقد المسرحي منها " فن المسرحية" (1959)، و "دراسات في الرواية المصرية" (1964)، و "المسرح في الوطن العربي" (1980)، وآخرها هو مؤلفه الضخم والمهم "الرواية في الوطن العربي" (1992)، هذا غير العديد من الترجمات.

لقد فاز الدكتور علي الراعي بجائزة الدولة التقديرية هذا العام، وهي وإن كانت تأخرت عنه طويلا فإن الدكتور علي الراعي قد لاقى التكريم الذي يستحق من فرائه وتلامذته ومحبيه في كل أرجاء الوطن العربي.

ومحاوره هو الناقد المعروف فاروق عبد القادر، وهو واحد من الجيل التالي لجيل الراعي، والذي واصل حمل رسالة النقد الجاد، وقد أصدر ستة كتب منها " ازدهار وسقوط المسرح المصري" (1979)، و "أوراق من الرماد والجمر" (1988) وقام بترجمة العديد من النصوص والدراسات المسرحية.

صورة لإبداع العربي

دكتور علي: في عمليْك الكبيرين: "المسرح في الوطن العربي، الكويت، 1980" ثم "الرواية في الوطن العربي، القاهرة، 1992"، قمت بمسحٍ دقيق وشامل لرافدين رئيسين من روافد الإبداع العربي المعاصر (غاب الشعر تقريبًا، وفازت القصة القصيرة بمقالات متناثرة لم تجتمع في سياق).
هل يمكن الحديث عن صورة عامة للإبداع العربي المعاصر، وما سماتها التي تبدو لك؟
- أرى ازدهارًا دائمًا في مجال الرواية، يتمثل هذا الازدهار في وجود كتاب لهم إنتاج متصل: عبد الرحمن حنيف وحنا مينه والطاهر وطار وبهاء طاهر وآخرين. كما يتمثل كذلك في نوع الإنتاج، فثمة - لدى الروائيين - جرأة في التناول وطموح مشروع نحو تجريب كل الأشكال، في سبيل إيصال رسالاتهم إلى القارئ، في ظل شروط قمعية أو تعتيمية أو تجاهلية في بعض الأحيان. وهم يواجهون هذه الشروط كلها بالعمل والصمود ومواجهة الواقع.

والمشكلة التي تبدو لي أساسية في مجمل هذا الإنتاج هي القهر بكل صوره وأشكاله، والروائيون يتصدون لها بشجاعة بالقطع. ثمة إبداع عربي متقارب السمات. أهمها عندي الإصرار على معايشة الواقع، والحياة في الآن. خذ المسرح مثلاً: إلى جانب النماذج التي نعرفها بالكوميديا الانتقادية أو النقدية، ستجد ظاهرة التعبير عن حيرة الفرد بين النظم والحكومات، وتفاوت رد الفعل الفردي، من الصمود إلى الموت والانكسار. وفي الرواية، فإن ظاهرة انكسار البطل وفشل الثورات، تمثل خطا عامًا يمتد من شرق العالم العربي لغربه.

سمة أخرى هي البحث والتحقيق الفكري والفني في هوية الأمة العربية، لا في حاضرها فقط، لكن أيضًا في ماضيها القريب أو البعيد. هذا البحث هو محاولة لاكتشاف الذات في عالم يتغير بشدة وسرعة. والثقافة العربية فيه مهددة بأخطار- حقيقية: النكسة أو التشويه أو الإبادة في النهاية. من هنا أصبح البحث في جذور الأمور مهما بالنسبة للمبدع والمتلقي جميعًا من أمثلة هذا البحث عن جذور الأشياء: خماسية عبد الرحمن حنيف وثنائية خيري الذهبي وثلاثية نبيل سليمان، بلى جانب أعمال مثل "السائرون نيامًا" لسعد مكاوي، و "العودة إلى المنفى" لأبي المعاطي أبي النجا، و "1952" لجميل عطية، وسواها.

إن هذا البحث لم يعد - كما ساد الظن حينًا- لونًا من الترف أو الحذلقة أو التفكه أو ارتداء الأزياء الأدبية الجديدة، فلدى المثقفين الجادين شعور ملتهب بأنها قضية اليوم، وأنها قضية حياة أو موت بالنسبة للثقافة العربية، وأمة العرب.

الولع بشخصية المحتال

قارئ أعمالك يلمس ولعًا خاصًا بشخصيتي المهرج والمحتال، حتى إنك خصصت هذا الأخير بكتاب كامل "شخصية المحتال في المقامة والحكاية والرواية والمسرحية" 1985.
هل يمكن أن نسألك عن سر هذا الولع الخاص؟..
- فعلا، على المستوى الشخصي أنا مفتون بشخصية المهرج، لأنه بجانب قدرته على الترفيه والإضحاك، إضحاك الكبار قبل الصغار، فهو يمثل دائمًا نوعًا من "ضمير" الأمة. ولنذكر أن مهرج البلاط كان يحمل مقرعة كبيرة، ويتناول أفراد الحاشية بالنقد اللاذع، ولا ينجو من لسانه الملك ذاته. وقد حفر المهرج لنفسه طريقًا عميقًا في المسرح، حيث إنه- كما نعلم- واحد من الشخصيات الرئيسية في الدراما العالمية المهمة (الملك لير).

ثم إن المهرج - وهو يدخل ضمن زمرة الممثلين الجوالة- كان له، ولهم، الفضل الأكبر في حفظ فن المسرح من الضياع، فبعد أن أصدرت الكنيسة أمرًا يحظر النشاط المسرحي حظرًا تامًا، تحول الممثلون إلى مقاتلين في حركة سرية، يقدمون أعمالهم على طريقة حرب العصابات، من حيث الظهور والاختفاء، ثم معاودة الظهور حيث لا يتوقع العدو.. إلخ، وحمل هؤلاء الممثلون الجوالة فن المسرح على أكتافهم عبر الجبال والوديان والسهول حتى أوصلوه إلى أوربا عصر النهضة، ومن ثم اندمج المهرج في فن المسرح المكتوب عند موليير وشكسبير ومن جاء بعدهما.

كما أنه تسلل إلى أشكال أخرى مثل السيرك و "الميوزيك هول"، وهذا الشكل الأخير إليه يرجع الفضل في ظهور أعظم مهرجي هذا القرن: شارلي شابلن، الذي تعلم فنون "الميوزيك هول" وأجادها، ثم طورها في أفلامه القصيرة الصامتة..

ماذا يفتنني في المهرج؟ أقول: إنه هذا الالتصاق الشديد بالفقراء وعامة الناس، والدفاع عن مصالحهم، والتعبير عن آرائهم ومواقفهم، فعل هذا شابلن، ومنه التقط الريحاني شخصية المواطن المسحوق الذي يسعى لأن يكسب عيشه، ويدافع عن نفسه، وعن مصالح المحيطين به، ويهاجم أعداءه من الأغنياء الذين لا يستحقون النعمة التي يرفلون فيها دونهم.

أما المحتال فيمثل جانبًا آخر من جوانب اهتمامي، واهتمامي هنا منصب على شخصية متمردة، تعيش في مجتمع ظالم، تتكدس فيه الثروات عند القلة، ولا يجد الفقراء سوى الفقر والجوع، والأدب الاحتيالي في مجموعه ثورة ضد الظلم، ومحاولة لكيل الصاع صاعين، وهو سخرية مرة من الزيف الاجتماعي والنفاق والتشدق بالشرف، والتمسك بشكل الاحترام لإخفاء الانهيار الخلقي لأولئك "الشرفاء المحترمين"!.

ثورة المحتال، إذن، هي ثورة فرد واحدٍ ضد الأوضاع الظالمة، وإذا كانت ثورته تلك تشوبها ممارسات غير أخلاقية، فإن مردها إلى سوء تنظيم المجتمع، فهو دافعه بلى الانحراف.

ومثل المهرج، كان للمقال أثره في الفن القصصي وتطوره، فمحتال "المقامة" هاجر بلى إسبانيا، وبعد هجرته ظهرت أول رواية احتيالية مجهولة المؤلف، بعدها جاء سيرفاتنيس، ثم بن جونسون... إلخ.

ومازلت أجد ملامح المهرج عند بعض ممثلينا المعاصرين: عبدالمنعم مدبولي، هو رأس المصدر بالنسبة للكوميديا الشعبية بغير منازع، عنده تجتمع ملامح الأراجوز والمهرج معًا، عن الأول أخذ بعض حركاته مثل تخشب الجسد أو نظرة العين، وعن الثاني أخذ سماته التقليدية: حب النساء وأطايب الطعام، والنزوع الأحمق للدخول في المآزق والخروج منها، بجراح أحيانا. عادل إمام على عكسه، يميل نحو شابلن أكثر من ميله لأداء الأراجوز، إنه المهرج المتطور المعاصر، بالمعنى العلمي والمحدد.

المسرح الحي والدراما الجامدة

لك رأي شهير حول ل"الدراما التلفزيونية" التي ازدهرت خلال السنوات الأخيرة، من حيث علاقتها بفن المسرح من ناحية، والدور الذي يمكن أن تلعبه، من الناحية الأخرى.
وفي ضوء الأعمال المتميزة، والتي أثارت الجدل أخيرًا، كيف ترى هذه الدراما، وآفاق تطورها؟
- " الدراما التلفزيونية" اسم انتشر وأصبح مقبولاً، لكن الأقرب للدقة أنها "رواية تلفزيونية"، من حيث إنها شكل درامي قوامه أحداث متتابعة ( episodes).وهي- مثل كل شيء يقدمه التلفزيون- وعدٌ وخطر: فهي في أيدٍ قوية وواعية وفاهمة ( والنموذج - بامتياز- أعمال أسامة أنور عكاشة ) استطاعت أن تصبح قوة خطيرة الشأن، واسعة الانتشار، وفيرة الجمهور.وفيها استطاع هذا الكاتب أن يقدم أخطر الموضوعات التاريخية والسياسية والاجتماعية.. إلخ، وأن يعرف جمهوره الكبير بمشاكل بلادهم في الماضي والحاضر، وأن يقدم لهم فن التمثيل يؤديه ممثلون كبار، في أدوار أُحْسِنت كتابتها وصياغة ملامحها، وبهذا كله استطاع أن يحشدهم كل يوم أمام التلفزيون، داخل مصر وخارجها على السواء.

وتلك هي القيمة الإيجابية. وعلى هذا نستطيع القول إنه إكمال لرسالة المسرح الجاد الذي نعرفه باسم "مسرح الستينيات"، لقد سحب البساط من الصيغة التقليدية لهذا المسرح، وجعل المسرح الحي- بوجه عام- يواجه مشكلة البحث عن صيغة تستطيع أن تستهوي الناس، وتغريهم بمغادرة مقاعدهم وخوض أهوال المواصلات..إلخ.

ولست بحاجة للقول إن النماذج الرديئة لهذه الدراما أو الرواية التلفزيونية تؤدي إلى العكس تمامًا. وفي كل الأحوال، فإن على المسرح الاعتماد على حقيقة أنه حي، بمعنى أن المتفرجين يشاهدون الممثل، ويحتكون به، ويتحكمون - من خلال ترحيبهم أو عزوفهم - في مستوى العرض، وهم مدعوون- نظريًا على الأقل- للمشاركة وإبداء الرأي.

مرتكزًا على هذه الركيزة القوية، يستطيع المسرح أن يعاود انطلاقه لو أنه استطاع حل مشاكله: على رأسها اختيار النصوص ومدى ملاءمتها للمناخ المسرحي السائد، وعدم الاكتفاء بمسرح يقوم على الكلمة وحدها، بل لا بد من العودة إلى شجرة المسرح التي تحمل الثمار جميعًا: الكلمة والرقص- والغناء والاستعراض والمواقف المتراوحة بين الجد والهزل، وزيادة استخدام الجسد في التعبير، وتحويل الممثل إلى أداة تدعم قوة الكلمات..أي باختصار الجمع بين الفكر والفرجة في عمل واحد..

لكن المسرح التجاري - فيما أرى - قد اختار وسائل أخرى في هذه المنافسة..
- المسرح التجاري لجأ لكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة، ثم اختار أن يلجأ لأسوأ مكونات الكوميديا منذ نشأت في أحضان الاحتفالات الداعرة بالآلة باخوسي. أعني البذاءة والإشارات الجنسية، مع الاستعانة ببعض "النمر" من مخزون الكوميديا الشعبية (مقرعة فؤاد المهندس التي يستخدمها دائما لضرب الأرداف!)، والرقص الموحي والنكات المفتوحة...إلخ والهدف: نشل محافظ المتفرجين، لا أكثر!.

صمود توفيق الحكيم

هذه الأيام، تنقضي خمس سنوات على رحيل توفيق الحكيم، وقد خصصته بكتاب ناقشت فيه مسرحه مناقشة مستفيضة، مفتوحة للمناقشة والجدل ( فنان الفرجة وفنان الفكر، 1969 )..والآن.. ماذا بقي من توفيق الحكيم، أو ماذا سيبقى؟
- أقول على الفور: بقيت منه الخدمة الكبرى التي أداها لفن المسرح، وهي صموده لسنوات طويلة، وإصراره على الاستمرار في كتابة المسرحيات، في وجه ظروف تتفاوت من العتمة الكاملة إلى الازدهار، فحين أصيب المسرح بالكساد في سنوات الأربعينيات، نقل نشاطه إلى "مسرح الورق"، ونشر عددًا هائلاً من مسرحيات الفصل الواحد، وهو يتحين الفرصة لعودة المسرح الحي، ولم تتحقق هذه العودة إلا بثورة 1952 .

وجوده على خشبة المسرح، ونذر حياته كاملة لهذا الفن، وإصراره على أن يخدمه، رغم أن شخصية الكاتب المسرحي كانت مدعاة للمهانة. هذه خدمة برى لا سبيل لإنكارها.

من هذا الحكم العام إلى التخصيص، بعض مسرحياته ستبقى، خاصة تلك التي أسميها "أوبريتات بلا موسيقى"، لأن فيها كل عناصر الأوبريت، ولا تنقصها سوى المعالجة الموسيقية: "الصفقة"، "الأيدي الناعمة"، "الورطة"، "السلطان الحائر" وما إليها..

وأود أن أقول هنا إن المشاهير حين يموتون، يسقطون مباشرة في المحاق، كما لو كان الناس يتنفسون الصعداء لرحيلهم، والذين يتقدم بهم العمر فهم يصبحون كالجبال الراسخة على الصدور، وما أن يستريح الناس من إلحاح وجودهم وثقله، حتى يشرعون في تقويمهم من جديد، حدث هذا لبرنارد شو، وسيحدث للحكيم وعبد الوهاب عندنا..

وماذا عن الأعمال "الأساسية" في مسرحه مثل "شهر زاد" و "أوديب" و "أهل الكهف"..إلخ؟
- ستبقى في سجل الحكيم كأعمال مطبوعة، والباب ليس موصدًا أمام تقديمها مسرحيًا في معالجات جديدة، إن الحكيم قدم- في أكثر من ستين مسرحية- مخزونًا دراميًا هائلاً، ومن الممكن، والواجب، الإفادة منه. وأنت تعرف ما يجرى الآن لشكسبير في إنجلترا، حيث يقدمون أعماله في صياغات مختلفة، بل يقلبون بعضها رأسًا على عقب..

باختصار: سيبقى توفيق الحكيم علامة بارزة في تاريخ الدراما والمسرح المؤدي على السواء.

النقاد والالتفات إلى جوهر النص

هذا سؤال كبد منه، فكلانا مَعْني به على نحو من الأنحاء: كيف ترى حال النقد والنقاد؟
- فيما يخص النقد، ألاحظ تبرمًا واضحًا لدى المتلقين للأعمال الأدبية من نوع من النقد، لا يستهدف الوصول بالعمل الفني إلى المتعاملين معه، قدر ما يستهدف الإفراج عن معلومات ونظريات قرأها وتمثلها النقاد، ثم أصروا على تطبيقها على الأعمال بتعسف يؤدي في كثير من الأحيان إلى الإساءة للعمل الفني وللمتلقي وللناقد نفسه.

لذلك أرى واجبًا على النقد أن يلتفت إلى النص في جوهره، بعيدًا عن التطبيقات النظرية التي يريد النقاد أن يجروها على هذا النص. بعبارة أخرى: إنني أطالب بالإفراج عن النص، لصالح النص والمتلقي والناقد جميعًا. أما لو استمر الحال كما هو عليه، فإن هذا سيؤدي إلى انعدام الثقة بالنقد والنقاد، ونحن مطالبون بأن نكون أكثر وضوحًا وأرحب صدرًا وأكثر تقديرًا للعمل ولصاحبه وللمتلقي.

إذا نحن ركزنا جهدنا على النص، وجلوناه، وحببنا القارئ فيه، أصبح للنقد مبرر للوجود، وإذا لم نفعل، فما أيسر أن يتحول عنه القارئ. مهمة الناقد - في المحل الأول - أن ينير جوانب العمل ويقدمه لقرائه، بل ولمبدعه، التقديم الذي يخدم الطرفين. إذا انتهى من ذلك، فإن من تمام الخدمة أن يضع النص في سياقه المشروع: أي مقارنته ببقية أعمال الكاتب، وبأعمال مماثلة لكتاب آخرين، عرب أو سواهم.

كنت أقول دائمًا للمبدعين: "اذكر أنك حين تتناول القلم لتكتب مسرحية، أنه نفس القلم الذي كتب به شكسبير وتشيكوف وابسن وسواهم، بمعنى أن المبدع مطالب بأن يتمثل مجموع الأعمال التي ظهرت في فنه، ومن باب أَوْلى، أدعو الناقد لهذا التمثل، وهذا من تمام الخدمة كما قلت.

وكلٌ وقدر اجتهاده، وإذا لم يستطع تقديم الصورة كاملة، فلا أقل من تقديم الجزء الأساسي منها، وهو النص نفسه..

في هذا الضوء، كيف ترى العلاقة بين النص وصاحبه، وإلى أي حدٍ يجوز للناقد أن ينصرف من هذا إلى ذاك؟
- إذا كانت تصرفات الكاتب خارج أعماله تعود بالنفع أو الضرر على هذه الأعمال، تؤدي خدمة لها، أو تلحق الأذى بها، فمن واجب الناقد التصدي لها بالتحليل، ثم الحكم عليها بالمدح أو الشجب، فالنقد لا يتم في فراغ، كما أن العمل الأدبي لا يُنتج في فراغ، ولا يُقَدم في فراغ، وقد انتهى زمان القول بأن العمل "شيء في ذاته"، مقطوع الصلة بالمجتمع وأفراده.

وفي كل الأحوال، علينا أن نذكر دائما أن إحدى المهام الكبرى للنقد هي حراسة الحركة الأدبية، بمعنى حمايتها من الأدعياء والمتطفلين والمتسلقين...إلخ. وتلك كانت من ممارسات النقد في الستينيات..

ثوابت ومتغيرات

أخيرًا،، اسمح لي أن أسألك عن رحلة الحياة: قرأت كثيراً، وطوفت كثيرًا، وكتبت كثيرًا، وتقلبت في مواقع مختلفة من العمل الثقافي والفكري..
ماذا بقي، وماذا راح؟..أين الثوابت وأين المتغيرات؟..
- كل أحلام الشباب كانت تتركز حول تغيير العالم والمجتمعات والأفرد كذلك. كانت مرتبطة بالإيمان العميق بأن الإنسان قادر على تغيير مجتمعه، ومن ثم تغيير نفسه، ولا يزال هذا الحلم قائمًا في نفسي. فرغم كل شواهد السلب مازلت أعتقد أن الإنسان سوف يتخطى العقبات القائمة في وجه نشر العدالة الاجتماعية، وخدمة الناس خدمة كاملة بصرف النظر عن اللون والجنس والمعتقد، ومازلت أعتقد أن الله خلق الأرض ليتمتع بخيراتها الناس جميعًا، لا فئة محدودة تمتك كروشها وجيوبها، وتفرغ عقولها، وتعيش أرواحها في خواء.

إلى جوار هذا أشعر دائما أنني مدين لبلادي، ولأصدقائي، بالكثير: درست في جامعات بلادي، هنا وفي الخارج، على حساب الشعب الفقير، لهذا أشعر نحوه بالامتنان، تحفزني الرغبة - وقد حفزتني دائًما - لرد الجميل، بأن أكون ذا نفع للناس.

في كل مهمة توليتها حرصتُ على أن أترك عملي وهو أفضل مما تسلمته: في الجامعة ومؤسسة المسرح والصحافة الأدبية والكتابة النقدية..

أشعر أنني مدين للناس، وأنني مهما فعلت فلن أرد الدين كاملاً. عزائي أنني أحاول. وأن محاولاتي هذه تحظى بتقدير ذوق النفس الطيبة الصافية من جميع الأعمار: الشيوخ والشباب على، السواء.

المحرر مجلة العربي نوفمبر 1992

تقييم المقال: 1 ... 10

info@3rbi.info 2016