الشرير الشوكي الذي لا ظل له مع صداقته التاريخية للناس
يبدو شجر السنط مصابا بالإرهاق والأنيميا إذا ما قورن بأشجار القرى: الكافور والنخيل واللبخ، لكنه - مثل الشر - ينمو خارج إرادة البشر، ثم لا يلبث البشر أن يبحثوا تحت أغصانه المعروقة الشوكية عن الظل، فقد رأيت أبي وهو يجمع في صبر شجيرات (الحراز) التي اخترقت بواطن حقله، (والحراز هو شوك شجر السنط فقط في منطقة ديروط - وسط الصعيد المصري - التي أنتمي إليها، وقد تابعت أثر لفظ الحراز في القواميس والمصطلحات بمعنى الشوك فلم أجد)، وأهل المدن قد لا يدركون أن واحدا في الريف نادرا ما ينجو من لدغة عقرب أو زنبور أو شوكة سل النخل أو حراز السنط، ونادرا أيضا ما تخلو منطقة مدارية - أي بين مداري السرطان والجدي وحول خط الاستواء - من شجر السنط، حتى في الجبال الشاهقة على البحر الأحمر سوف تدهش أن الفسيلة النامية في قلب الصخور هي من شجر السنط، وحينما تأخذ القطار من القاهرة إلى أسوان - جنوبا - لمسافة تصل إلى ألف كيلومتر، سوف تلاحظ تغير وتباين أشكال المباني والأزياء وملامح الناس والمزروعات والتضاريس واللهجات، تختفي أشجار الجميز وتظهر أشجار الدوم، يقل البلح الأصفر الصغير ويبرز البلح الأحمر الكبير، تتراجع الحلي في صدور الإناث ومعاصمهن لتغزو مداخل الأنف وأعلى الرأس، تختفي مزارع البرتقال واليوسفي ثم تتألق مزارع الرمان، إلا عنصران يظلان ثابتين: أبو قردان وشجر السنط.
وفي ظاهر الأمر فإن السنط يظل شجرا شوكيا شريرا مؤلما لا ظل له، غير أن أشجاره استخدمت من قديم الزمان عند الفراعنة في تصنيع أخشاب الأثاث المنزلي والأدوات الزراعية، ويجمع أحمد كمال استخدامات الفراعنة للسنط في كتابه الصغير الجميل: اللآلئ الدرية - الذي طبع بمدرسة الفنون والصنائع سنة 1306 هـ (وقد حسبتها فوجدتها سنة 1890م)، ويقول إن نقوش آثار إدفو ودندرة وما جاء في الباب التاسع عشر من (كتاب الموتى) الفرعوني، تؤكد أن السنط كان منتشرا في مصر منذ البكور - أي في فجر التاريخ، كما أن القدماء كانوا يعدون نار خشب السنط هي الأقوى ولا سيما بسبب رائحتها النفاذة الناجمة من احتوائه على سوائل ومواد راتنجية، لقد استخدمت أخشابه مبكرا في صناعة الآلات الحربية - مع أن أغصانه شديدة التعقيد والالتواء.
والمواد الراتنجية هي الصمغ المشهور، والذي كان يدخل في تركيبات الأثاث وإضفاء اللون القاتم على الكتابة العميقة فوق المقابر وتشكيلات زخارف وتوصيلات العاج، يذوب بعضه في الماء، كما أنه يمتص كميات كبيرة منه، وكان يستعمل أيضا في صناعة الأحبار والمواد اللاصقة، وتذكر الموسوعة العربية الميسرة أن الصمغ يدخل أيضا في صناعة الحلويات، كيف؟؟ لا أعرف، ومالئا في صناعة النسيج، وملطفا في الأدوية.
لكن بلاد الريف أكثر اهتماما بالقرظ من الصمغ، والقرظ هو ثمرة شجر السنط التي تحتوي على بذوره وتشبه قرون شجر الخروب الشهيرة، إذ يستخدمون القرظ في الطريقة الموروثة من قديم في دباغة الجلود، ولعل جلد قربة حفظ الماء، وقربة خض اللبن أكثرها انتشارا، كما يدخل القرظ في كثير من الأدوية القروية لعلاج أمراض الجلد، وبالمناسبة فثمة مرض يصيب الجلد بالدمامل والعقد الجافة السوداء ويسمى طبيا وشعبيا: السنطة.
كذلك فإن بيوت العرسان الجدد لا بد أن تخلو من ثمار السنط - بذور السنط بالتحديد - وهي التي يستعملها خبراء صنع التمائم والأحجبة في تكوينات (الأعمال) التي تحيق بالأعداء الشر، ومع أن رائحة زهر السنط الأصفر زكية ومقبولة، إلا أن كثرة الحراز - أي الشوك - الذي يطوف بها، وانتشار الدود المسمى - كلاب السنط - زاحفة حولها، يجعل هذه الأزهار في موقع الخوف والتوجس، ذلك أن كلاب السنط هذه تتسلل إلى أقرب المخلوقات الحية وتلدغها مما يثير ذعرها واضطرابها، وحتى دون لدغ فإن الحركة الدودية بما في جسد الدودة من شعيرات خشنة يجعل الجسد الحي يقشعر، كتبت قصة مبكرة - وشهيرة - بعنوان كلب السنط. ويستعمل شجر السنط حتى الآن في صناعة السواقي والمحاريث والنوارج والطبالى - وما إلى ذلك من أدوات ريفية - لكنه يظل شجرا شريرا وكريها رغم كل ما أفاد به الناس، حيث لا يرتاح إلى جذوعه أحد، لأنه أيضا بلا ظل.