تغيُّر المناخ.. تقلُّب الطقس.. أنماط جوية جديدة لم نعهدها من قبل. والعلماء يرجعون ذلك إلى ظاهرة جوية تتعلق بتذبذب المناخ في منطقة شمال المحيط الأطلنطي «ناو» (North Atlantic Oscillation).
بالرغم من أن هذه الظاهرة ليست في شهرة ظاهرة النينو المدمرة في آسيا وأمريكا، فقد بدأت تلفت أنظار الباحثين في السنوات الماضية لما لها من تأثير على دول أوربا وشمال أفريقيا وشمال شرق أمريكا.
وظاهرة «ناو» ليست جديدة على العلماء، فقد اكتشفها عام 1920 اثنان من علماء المناخ، النمساوي فريدريش إكسنر Friedrich Exner والإنجليزي جيلبرت ووكر Gilbert walker، وذلك أثناء محاولة للكشف عن أهم مراكز الضغط المرتفع والمنخفض. وقد سميت بتذبذب المناخ Fluctuation of Climate تعبيرًا عن انتقال تيارات الهواء من مركز لآخر. ويمكن قياس هذا التذبذب واختلاف الضغط الجوي بين لشبونة وريكيافيك، عاصمتي البرتغال وأيسلندا، خلال فصل الشتاء من يناير إلى مارس.
والاضطرابات الجوية تتجه أكثر نحو الجنوب، فتسبب هطول الأمطار على المناطق الواقعة على البحر. ويرى العلماء أن ظاهرة «ناو» تُفسر أيضًا سبب التغير المناخي الشتوي في أوربا، وتمتد آثارها إلى القطب الشمالي وشمال إفريقيا.
وهذه الظاهرة قد تكون إيجابية أو سلبية. فعندما كانت إيجابية، تميز شتاء بريطانيا بتيارات هواء شديدة أكثر من المعتاد، وهطلت الثلوج بمعدل أكبر على الدول الاسكندنافية، كما جاءها فصل الربيع قبل موعده بـ 20 يومًا. وعلى النقيض، تؤدي «ناو» السلبية إلى زيادة إنتاج محاصيل الزيتون والعنب في إسبانيا والبرتغال.
وبالرغم من معرفة آثار هذه الظاهرة، لاتزال أسباب حدوثها لغزًا بالنسبة لعلماء المناخ، فهل تحدث بصفة دورية أم بشكل عشوائي؟! وهل تنتج عن تذبذب حالة الجو أم أن للمحيط الأطلنطي دورًا في حدوثها من خلال تبادل الحرارة بين الهواء وسطح الماء؟! وما السبب الحقيقي وراء تغير المناخ في العالم؟ هل هو طفرة جوية، أم واقع جديد لابد من التعايش معه ومواجهته؟!
توضح نظرة شاملة للمناخ في جنوب الصحراء الكبرى بإفريقيا أنه يتبع دورات متعاقبة من الجفاف والأمطار الغزيرة. فعلى سبيل المثال، شهدت منطقة جنوب الصحراء في إفريقيا الجنوبية حالة من الجفاف امتدت من عام 1968 إلى 1973. وفي أواخر الثمانينيات حتى أوائل التسعينيات، شهدت منطقة أعالي النيل سبع سنوات متتالية من الجفاف لدرجة أن المياه الموجودة في بحيرة السد العالي بمصر انخفض منسوبها بشكل كبير، ووصل الأمر في العام السابع للجفاف إلى التفكير في إغلاق التوربينات التي تولد الكهرباء من السد العالي لعدم كفاية المياه، ثم هطلت الأمطار وارتفع منسوب المياه وشهدت المنطقة سنوات ممطرة.
أما ظاهرة تذبذب المناخ فوق شمال المحيط الأطلنطي «ناو»، فتؤثر أساسًا على أوربا، حيث تتجه تيارات الهواء شرقًا من منطقة الأطلنطي نحو أوربا، وأحيانا تتجه جنوبًا نحو جنوب أوربا ودول حوض البحر المتوسط فتسبب هطول الأمطار عليها. وهذه الظاهرة مازالت تحتاج إلى مزيد من الدراسة والبحث لمعرفة أسبابها وتوابعها. وقد أطلق العالم السويسري «د. بينيستون»، الخبير العالمي في قضايا المناخ، على هذه الظاهرة اسم «ابن عم النينو الصغير»، حيث إن تأثير «ناو» يُعتبر محدودًا إذا قورن بظاهرة «النينو» الشهيرة، والتي تسبب كوارث طبيعية مثل الأعاصير والفيضانات في أمريكا وآسيا.
وتحدث ظاهرة «النينو» (El Nino) نتيجة لتغير مؤقت في مناخ المنطقة الاستوائية بالمحيط الهادي، وهو ما يُحدث بدوره تأثيرات متباينة على مناطق كثيرة في أنحاء العالم من جفاف وحرائق للغابات، وأمطار غزيرة، وسيول وفيضانات. و«النينو» تعني بالإسبانية «الولد أو ابن المسيح، وقد أطلق الصيادون في الإكوادور وبيرو على تلك الظاهرة هذا الاسم لأنها كانت تأتي قرب أعياد الميلاد، وكانت تجعل المحيط الهادئ أكثر دفئًا، وتُغير اتجاه التيار بالمحيط فتقل الأسماك بشكل ملحوظ، وهو ما يساعد الصيادين على قضاء هذه الفترة في البيوت مع أسرهم، لكن الاسم لم يعد يُستخدم للتعبير عن هذه التغيرات الموسمية الطفيفة فقط، لكنه تجاوزها للتعبير عن التغير المتواصل في جو المحيط الهادئ, وذلك باقترانه بما يدعى التذبذب الجنوبي Southern Oscillation، فأصبح يطلق عليه (ENSO EL Nino Southern Oscillation).
وكان العالم الإنجليزي جيلبرت ووكر أول من توصل إلى تفسير هذه الظاهرة، التي لطالما حيرت العلماء، عندما كان في الهند في الوقت الذي كان العلماء مشغولين بتسجيل آثار النينو. فقد لاحظ أن هناك ارتباطا بين قراءة البارومتر (جهاز قياس الضغط الجوي) في بعض المناطق في الشرق ومثيلاتها في الغرب. فعندما يرتفع الضغط في الشرق ينخفض في الغرب والعكس صحيح، وأطلق عليه Southern Oscillation أو «التذبذب الجنوبي». وقد لاحظ أيضا وجود علاقة ثلاثية الأطراف تربط بين هبوب الرياح الموسمية (Monsoon) في آسيا وحدوث جفاف بكل من أستراليا، وإندونيسيا، والهند، وبعض المناطق في إفريقيا، ودفء الشتاء نسبيا في غرب كندا.
وقد هوجم ووكر كثيرًا لربطه بين هذه الظواهر التي تحدث في شتى بقاع الأرض وعلى مسافات شاسعة من بعضها بعضًا. ولكن بعد مرور خمسين عامًا، جاء العالم النرويجي جاكوب جركنز ليثبت وجود هذه العلاقة بتلك التغيرات الجوية، وأطلق عليها EL Nino Southern Oscillation. وهكذا اتضح ما يحدث من اضطراب في نظام الضغط الجوي فوق المحيطات أثناء النينو؛ حيث يبدأ الاضطراب من المنطقة الاستوائية للمحيط الهادئ، ثم ينتشر ليؤثر على حالة الجو فوق الأرض بشكل عام.
وتجتاح «النينو» العالم بالعديد من التأثيرات المختلفة والمتباينة؛ فبينما تسبب زيادة سقوط الأمطار في المناطق الجنوبية للولايات المتحدة وبيرو ووسط أوربا بما يتسبب في حدوث فيضانات مدمرة، تكون وراء حدوث الجفاف في مناطق غرب المحيط الأطلنطي، وفي بعض الأحيان تصاحبها حرائق مدمرة في أستراليا وجنوب شرق آسيا وأعاصير في وسط الولايات المتحدة. وبناء على العديد من الأبحاث والدراسات، اتفق العلماء على أن ظاهرة النينو هي تغير عنيف في درجة حرارة الجزء الشرقي من المحيط الهادئ على طول خط الاستواء، وهي تحدث بشكل روتيني كل أربع إلى عشر سنوات.
وفي العادة تهب الرياح التجارية تجاه الغرب على طول خط الاستواء، وهذه الرياح تجمع مياه السطح الدافئة غرب المحيط؛ فيرتفع السطح حوالي نصف متر عما في الشرق. وعندما تتجمع مياه السطح في الغرب، تصعد المياه الباردة فتحل محلها آتيةً بالمواد الغذائية Nutrients من قاع المحيط إلى السطح؛ فتكثر الأسماك عند ساحل الإكوادور، وبيرو، وكولومبيا. أما المياه الدافئة المتجمعة، فتُسخن الهواء الذي يعلوها. وتكون كمية بخار الماء الكبيرة سحبًا تأتي بالأمطار لجنوب شرق آسيا، ويبقى الساحل الغربي لأمريكا اللاتينية خاليا من الأمطار.
أما عندما تبدأ «النينو»، فإن الرياح التجارية تفشل في إزاحة مياه السطح الدافئة. وهو ما يعكس النظام الجوي لهذه المنطقة الواسعة بالكامل، فيظهر الجفاف في جنوب شرق آسيا، وتعم الفيضانات أمريكا اللاتينية، كما تقل الثروة السمكية على شواطئ بيرو، والإكوادور، وكولومبيا.
لقد كان أقوى نينو في القرن العشرين، بل على مدار التاريخ، ذلك الذي حدث عام 1982-1983. فقد تسبب في حدوث كوارث بمعظم قارات العالم، منها: الجفاف والحرائق في كل من أستراليا وإفريقيا وإندونيسيا، والأمطار الغزيرة في بيرو والتي لم يُشهد مثلها من قبل في المنطقة. وقد قُدرت الخسائر بحوالي 13 مليون دولار، وقُتل حوالي 1300 إلى 2000 شخص.
كما انتشرت بعض الأمراض مثل الالتهاب الدماغي Encephalitis الذي انتشر بشدة في الساحل الشرقي للولايات المتحدة. وساعد هذا الجو على انتشار البعوض والفئران والثعابين، وتكرر هجوم أسماك القرش على ساحل أوريجون بالولايات المتحدة. وربما كان أغرب التأثيرات التي أحدثتها هذه النينو وأذهلت العلماء ما اكتشفه فريق من العلماء في جامعة كمبريدج بولاية ماساشوستس من تغير زاوية عزم الأرض وزيادة طول اليوم بمقدار 0.2 ملي ثانية.
وكنتيجة مباشرة لتلك التغيرات الشديدة في المناخ التي يحدثها النينو، تنتشر العديد من الفطريات والبكتيريا والفيروسات، وبالتالي تنتعش الأمراض المعدية مثل: التهاب الكبد الوبائي، والتيفود، والكوليرا، والملاريا؛ كما تكثر الآفات الزراعية مثل القوارض والحشرات. لهذا اهتم العلماء كثيرا بالتنبؤ بالنينو؛ فطوروا العديد من أجهزة الرصد لترصد بداية ارتفاع درجة حرارة سطح ماء المحيط الهادئ، وهو ما مكّنهم من التنبؤ بالنينو 1997 / 1998 قبل حدوثها بستة أشهر، وكانت تُعد من أقوى النوبات ونتجت عنها خسائر في الولايات المتحدة وحدها تُقدر بـ2,4 مليار دولار، وتسببت في مقتل 189 شخصا غير الجرحى.
النينو والنينا ظاهرتان مناخيتان تختلف كل واحدة منهما عن الأخرى. فالنينو تتصف بانتقال كتل هائلة من المياه الساخنة في المحيط الاستوائي من الشرق إلى الغرب. أما النينا فتعمل العكس، فهي تنشأ من اندفاع هذه المياه الساخنة نحو الشرق من المحيط الهندي وآسيا وإندونيسيا وأستراليا. والنينو تيار مائي دافئ يتحرك شرقًا في المحيط الهادئ المداري بحركة متراجعة غير عادية، ويستغرق وصوله حوالي ثلاثة أشهر مقتربًا من سواحل الإكوادور وبيرو، ومسببا توقف تيار المياه البارد وحركات التقلب الرأسي السائدة عمومًا هناك. والنينو ظاهرة مناخية غير عادية ترافقها عملية تسخين غير طبيعية لطبقة المياه السطحية في المنطقة الشرقية من المحيط الهادئ. وقد أطلق عليها صيادو السمك في هذه المنطقة اسم «الطفل المسيح» لحدوثها الشائع في فصل الشتاء في تزامن مع أعياد الميلاد, كما يطلق عليها «الطفل المذكر» تمييزًا لها عن الوجه الآخر للنينو الذي يُدعى «الطفل المؤنث» (النينا) والتي تمثل حالة غير طبيعية أخرى في المنطقة نفسها. وتمثل هذه الظاهرة بشقيها الوجه الآخر للتذبذب الجنوبي الذي يعني تأرجح نظام الضغط الجوي في المنطقة الجنوبية من المحيط الهادئ.
وهناك الانحراف الحراري، وهو التغير في درجة الحرارة بين المكان ودائرة العرض التي يقع عليها ذلك المكان، ويوجد انحرافان: انحراف حراري موجب يرتبط بوجود التيارات الدافئة في المحيطات، وانحراف حراري سالب يرتبط بوجود التيارات الباردة في المحيطات.
وقد برزت الحاجة الملحة لدراسة الظواهر الطبيعية غير العادية في الغلاف الجوي لمعرفة مدى تأثير تلك الظواهر على تغير درجات الحرارة. ومن بين تلك الظواهر، بدأ الاهتمام بظاهرة النينو المناخية التي تحدث في شرق المحيط الهادئ وبدأت تلقي بظلالها بشكل كبير على عناصر المناخ، بحيث توسع الباحثون في دراستها منذ التسعينيات لتشمل دوائر العرض الجغرافية الوسطى، إذ ثبت نتيجة الدراسات الموسعة والمكثفة أن نظرية التأثير عن بُعد من خصائص ظاهرتي النينو والتذبذب الجنوبي.
وهاتان الظاهرتان معروفتان لعلماء المحيطات والأرصاد الجوية منذ عشرات السنين أيضا، ولكن بما أنهما تحدثان في أقل مناطق العالم المأهولة بالسكان، فقد بقيتا لأمد طويل مثار اهتمام فئة قليلة جدًا من الباحثين. وكان من المحتمل أن تبقى هاتان الظاهرتان غير معروفتين لولا تكرار حدوثها بعنف، وما ترتب على ذلك من تأثيرات بيئية عدة. وبالرغم من أن النينو والنينا تحدثان في المنطقة نفسها، فقد حظيت النينا باهتمام أقل مقارنة بالنينو؛ وذلك لقلة تكرار حدوثها نسبيا خلال العشرين سنة الماضية من القرن العشرين، ولأن آثارها أقل حدة من آثار النينو.
ولذلك لاقت هذه الظاهرة اهتمام الباحثين، وأشاروا في دراساتهم إلى تأثير هذه الظاهرة على عناصر الطقس في مناطق عديدة من العالم؛ إذ تؤدي إلى التذبذب في درجات الحرارة، وخروجها عن معدلاتها الطبيعية المعروفة خلال السنوات التي لا تحدث فيها.
وظاهرة النينو ليست من الظواهر الجوية الحديثة، فقد دلت الدراسات على أنها موجودة منذ مئات السنين؛ حيث أدت ملاحظة الغطاءات الجليدية وطبقاتها فوق جبال الإنديز، واتساع مستعمرات المرجان ونموها في البحار الدافئة، إلى التأكد من أن تاريخها يرجع إلى أكثر من 1500 سنة. وكان أول تسجيل موثق لها في القرن الخامس عشر، في بداية اكتشاف المستعمرين الإسبان، المستكشف جيرو نيمو بنزوتي، خلال الفترة 1547-1550 لأمريكا الجنوبية.
ولكن... ما الفرق بين ظاهرتي «النينو» و«الناو»؟ يعتقد علماء المناخ والأرصاد الجوية، المختصون بدراسة الأحوال المناخية في المحيط الأطلسي، أن هناك ظاهرة مماثلة للنينو تحدث في المحيط وأخذت تزداد وضوحًا في السنوات القليلة الماضية وتُعرف بتقلبات شمال المحيط الأطلسي «ناو» وترتبط بكل التغيرات التي تحدث في المحيط، بدءًا من الأمطار التي تسقط فوق مدينة بوردو الفرنسية إلى الأعاصير الحاملة للرمال فوق الصحراء الكبرى والتي تصل إلى جزر الباهاما، وصولاً إلى سواحل جزيرة أيسلندا بثروتها السمكية. وتؤثر هذه الظاهرة أيضا على جريان البحار عند التخوم الشمالية للمحيط، كما أنها تترك بصماتها على شكل أعاصير حلزونية ضبابية تسود مناخ الجزء الشمالي من المحيط، إضافة إلى أنها تؤثر فعليا على معدلات الحرارة في أنحاء العالم كافة. وفي عام 1996، أجرى الباحث جيم هوريل Gem Horil في كولورادو بحثًا مناخيا أثبت فيه أن كل المواسم الشتوية المعتدلة التي شهدتها أوربا وآسيا ترجع أسبابها إلى ارتفاع الحرارة على كوكب الأرض والذي لعبت ظاهرة «ناو» دورًا كبيرًا فيه. وكانت النتائج كافية لكي تقوم الولايات المتحدة الأمريكية بتقديم الدعم الكامل للباحثين في مجال ظاهرة «ناو». ويُعتبر التنوع الطبيعي للمناخ إحدى المسائل المعقدة التي لم يتم إيجاد جواب شافٍ لها حتى الآن.