لقرون عديدة دأب بعض العلماء على قضاء حياتهم في تجارب مثيرة بغية الحصول على الذهب من تحويل العناصر الأخرى. لماذا كانت تلك المحاولات؟ هل نجحوا أو تمكن أحدهم من ذلك؟ وهل توقف البحث أم تراه مستمراً لا يزال؟
في وقت متأخر من الليل؟ وفي قبو بعيد عن مرأى المتطفلين، ينحني عجوز فوق قارورة يغلي بها سائل ملون، يحيط به- بلا نظام- مجموعة أخرى من الأواني ذات مقاسات وسعات مختلفة، وكذلك بعض المعدات، التي تشابه بلى حد كبير تلك التجهيزات التي من الممكن رؤيتها في المعامل المدرسية الحديثة، معلق على الحوئط بعض من جماجم حيوانات وخرائط منجمين. وتقبع في ركن الحجرة بومة محشوة في وسط خليط عشوائي من كتب تم تجليدها بالجلد، ومثبت عليها مشابك من حديد.
صورة قديمة
ويقوم هذا العالم بين وقت وآخر بتقليب السائل الملون، ويتمتم ببعض الكلمات غير المفهومة حتى لنفسه، وليس ببعيد منه يرقد رداء، ذو ياقة من الفراء في حالة بالية وعفا عليه الزمن، ويرتجف الرجل من برد قارس قادم إليه من شق غير محكم في نافذة مكسورة، حتى طعام عشائه أغفله وأهمله، وأصبح بارداً بدون أن يلمس على رف بجواره. وما من شئ يشتت تركيزه فيما هو فيه منهمك من ملاحظة غليان السائل وتبخيره في صبر وتؤدة.
وفي لحظة يعكس وجهه بضباب خيبة الأمل. يوسوس لنفسه بحدوث شيء ما بطريق الخطأ، ويبدأ من جديد إعادة آلنظر في مخطوط قديم، محاولا فك رموزه وحل ألغازه، حيث إنه مكتوب بلغة غريبة عليه وبرموز غير مألوفة لديه، وبلهفة الأمل يعيد تجهيز مزيد من المعدات، إذ ربما حبيبات أكبر من هذه، أو حبيبات أقل من تلك؟ محاولا تغيير نسب المكونات ومعاوداً إجراء تجربته المثيرة.
وتتواصل السنوات بدون أن يشعر بتلاحقها. فحياته كلها مكرسة لمهمة واحدة شاقة، هي اكتشاف السر الكائن في تحول العناصر إلى ذهب.
مع أن في هذا الوصف بعض الصدق، كما علمنا من التراث الفكري عن حياة العلماء الأوائل، ولكن فصولها لم تكتمل بعد. فهناك أبعاد أخرى للكيمياء والتي لا تنحصر فقط في الحصول على ذهب، فالكيميائيون الجادون لم يكونوا كهولا، بل كانت غالبيتهم من أبرز العلماء ورجال الدين في عصرهم.
حجر الفيلسوف حجر الخلود
شرع العلماء الأوائل في بحوثهم في مجالين متلازمين، واعتبوا النجاح في أحدهما هو النجاح في الآخر، الأول- يعرفه معظم الناس- فبحث الكيميائي في الحصول على الذهب من تحويل الفلز العادي، أما الثاني- ذو الانتشار الأقل- فهو السمو بالروح إلى المثالية، وهذا ما كان له الأولوية في تلك العصور.
ولعدة قرون انشغل العلماء في الغرب وبلا توقف لمحاولة اكتشاف والحصول على حجر الفيلسوف، وهذا الحجر لم يكن ضمن صخور الجلمود والتي جلس عليها وتأمل قدامى الحكماء، كما لم يكن حجرا منقوشا بكلمات الحكمة يحض أو يقي من الشرور، ولكنه كان مادة، غيى موجودة أصلأ إلا فى أفكار العلماء، الذين آمنوا بها وحداهم الأمل في الحصول عليها، وذلك عن طريق تعريض مواد أولية الى سيل من عمليات كيميائية متتالية وبمساعدة الكهنة.
ومع تواصل القرون فإن جميع التجارب التي قام بها العلماء كان يحدوها الأمل وتسيطر عليها الرغبة في النجاح في اكتشاف حجر الفيلسوف. ومن خلال العمل الدءوب والجهد والمثابرة توصل العلماء لترسية أسس مهمة وحقائق علمية قيمة كانت هي اللبنة. الأساسية للعلوم التي نعرفها اليوم، وقد فشلت في الحصول على حجر الفيلسوف في مفهومه القديم، ولكن أسهمت في إرساء قواعد الكيمياء الحديثة والدور الذي تقوم به في عالمنا المعاصر.
اهتمامات علماء تلك العصور
بسبب ضيق مجالات المعرفة، كان مشاهير العلماء حاذقين ومهرة في أفرع العلم المختلفة، لدرجة أن كثير من العلماء كان يبرع فيها كلها برغم تباينها، كالطب والدين والفلسفة والكيمياء والمنطق والسحر، وكان على طالب المعرفة ألا يرى هذا التنافر في ميادين الدراسة المختلفة. فمثلا لا تتعارض دراسة السحر مع الطب أو الفلسفة مع الدين. حيث كانت المعرفة وحدة كاملة وجميع فروعها تمثل جوانب مختلفة لتلك الوحدة، وتؤدي كلها بلى التعمق الكبير لتفهم العالم.
ويمكننا أن نتعرف مثلا على إسهامات العلماء العرب المسلمين مثل جابر بن حيان (722 م بلى 815 م) الذي برع في الهندسة والأدب والمربع السحرى والمنطق، علما بأن اهتمامه الرئيسي كان في مجال الكيمياء، وفي البحث عن تحويل الفلزات بلى ذهب. ولقد سجل كثيراً من الملاحظات العلمية القيمة، كما ساعد تصميمه للأجهزة والمعدات المعملية على نمو وازدهار أجهزة التقطير الحديثة. حيث يعتبر التقطير من عمليات الكيمياء المهمة، وكلمة " أليمبيك" لما- والتي مازالت تستخدم حتى الآن لتوضيح جزء من جهاز التقطير- هي كلمة عربية. ولقد قام العلماء العرب المسلمون بتقطيى الزهور والحصول على العطر منها، كما قطروا الفواكه والأوراق- وتستخدم تلك التطورات في أساليب التقطير اليوم في مصافي النفط الحديثة.
وهذا أبوبكر الرازي (866 م بلى 925 م) وله مؤلفات في الطب والعلوم الفيزيائية والرياضيات، والفلك والمنطق والفلسفة والدين، بجانب مجموعة كبيرة في الكيمياء، ويرجع الفضل الأول لمؤلفاته في تاريخ الكيمياء عن دقائق المواد والتفاعلات والمعدات المعملية، والتي قام بوصفها بعناية بالغة.
كما نجد فى أوربا وفي القرن الثالث عشر العالم البرتس ماجنسي، وبفضل إسهاماته العلمية فقد منح حديثا 1932 لقب " قديس" لما من الكنيسة الكاثوليكية، ويعتبر رائدا في اكتشاف تركيب المواد كالرصاص الأبيض والحنة وغيرها. أما برازيليوس وهو أحد أشهر علماء القرن الخامس عشر، فقد سخر الكيمياء في مجال العلاج الطبي، وحتى ذلك الوقت اقتصر العلاج على الأعشاب الطبيعية.
صعوبات في اكتشاف حجر الفيلسوف
أهمها المؤلفات والمخطوطات التي تصف المواد، والتي كتبت بلغة الرموز، والتي لم تكن متداولة ومعروفة لدى الجميع، والتي غالبا ما فسرت بطرق مختلفة، حتى اعتبرت نوعا من الألغاز للعامة بمن فيهم الكيميائيون. فالقارئ العادي يتعثر بعد الجملة الأولى. ويقودنا هذا المعيار بلى الغموض للكتب التي يرجع إليها طلباً للنصح والاستيضاح، وأحيانا كانت تتضمن بعض المبادئ الأولية والتي تعتمد على الأساطير المحولة أو المنقولة، فضلاً عن أن معظمها كان مكتوبا بخط اليد ومنقوشا بالزخارف المبالغ فيها، وهذا أدى إلى التشكيك في معلومات تلك المخطوطات، حتى لمن استطاع حل ألغازها، وذلك لكثرة ما تضمنته من غش وخداع.
لقد استخدم العلماء الحمام المائي (متدني الحرارة) والرملي (مرتفع الحرارة) أو تعرض المادة بلى اللهب مباشرة، وذلك لأن الخطوات المطلوبة للحصول على غايتهم كان أغلبيتها مركبا. كالتحميض والتسامي والتقطير. وهي ثلاث عمليات نعرفها جيدا، يتم في الأولى اختزال الفلز أو المعدن وتحويله بلى مسحوق، ويستمر التسخين في الثانية حتى يتحول إلى بخار، ثم يعود ثانية بالتبريد بلى حالته الصلبة، أما في التقطير فيتحول السائل بلى بخار بالغليان، ثم بالتكثيف يعود بلى سائل ثانية. وهذه العمليات وأخرى- تحتاج إلى حرارة مختلفة الشدة في العمليات المتباينة. لذلك كانت هناك مجموعة من الأفران، حيث التحكم في درجة الحرارة اعتبى عائقاً قبل اختراع الترمومتر. ولقد ضم وقود الأفران أشياء مختلفة تتدرج من الفحم بلى الخبث، وحتى النسيج وروث الحيوان لدفع درجة الحرارة. وساد اعتقاد في سرعة الوصول بلى الهدف (المراد) عند درجات الجرارة المرتفعة. ولقد استخدموا منفاخ اللهب حتى أطلق عليهم " النافخون " واقتصر هذا اللقب الآن على الباحثين عن الذهب. وليس على الكيميائيين هادفي الكمال الروحي.
استخدمت في رحلة البحث مواد مختلفة ومذهلة بنسب متباينة مثل النحاس والرصاص والكبريت والزرنيخ. أما البول أو عصارة البنكرياس فكان يضاف قليل منهما.. وكانت المواد تتحد وتنفصل، تسخن وتبرد، تتبخر وتتجمد، وأحيانا تترك حتى تتخمر.
ومما جعل مهمتهم أكثر تعقيدا واستهلاكا للوقت ذلك الإيمان بتكرار التجربة الواحدة لعدة مرات بالرغم من الحصول على المادة المطلوبة وبطريقة صحيحة. ومن ضمن ما استخدم من قوارير " بيضة الفيلسوف " وأطلق هذا على معوجة التقطير. وكان يحدوهم الأمل بأنه في النهاية سيتم الحصول على حجر الفيلسوف. وكثير ما استخدم في لغة الرموز خليط من إشارات دنيوية توحي بخروج حجر الفيلسوف من بيضة.
ولصعوبة الاتصال بينهم وحذرهم الشديد زادت صعوبة المسار. فلقد خبئت المعامل إما في قبو منزل أو أعلاه. حيث بريق الضوء المنبعث ليلاً لا يجذب الانتباه. فكان من عاداتهم التكتم على ما يقومون به من أعمال. لأنه عندما يعلم الناس بنشاطهم وسرهم كان يقضى عليهم في الحال ويعدمون تمشيا مع أوامر رجال الدين والقساوسة، بجريرة معتقداتهم الغريبة، أو يلاحقون من الجشعين من الناس الباحثين عن جمع الثروة والمال.
هل تحقق الهدف؟
من جملة المخطوطات كانت هناك بعض الوقائع المرضية، والتي يمكن إظهارها في صورة منطقية مقبولة. ومن تلك الوقائع التي كتبها عالم ألماني فيزيائي هو جوهان فريدريش شويتزر والذي عاش في القرن السابع عشر وأطلق عليه لقب هيلفيتوس.
ولد هيلفيتوس في عام 1625 وكان طبيباً متميز في عصره. وعندما بلغ واحدا وأربعين عاما تسلم هدية غريبة في عيد رأس السنة؟ جاء فيها قابلية تحويل الرصاص بلى ذهب. وعن رواية هيلفيتوس أنه في وقت متأخر من بعد ظهريوم 27 من ديسمبر 1666 حضر إليه زائر غريب، ومن ضمن ما ناقشوا واستعرضوا من موضوعات ذلك النقد والتشكيك الذي سبق أن أبداه وأعلنه هيلفيتوس عن زعم عالم إنجليزي بأنه توصل إلى اختراع دواء يشفي من جميع الأمراض.
وبعد مناقشات ودية، أخرج الغريب من بين طيات ملابسه صندوقاً منقوشا من العاج، فيه ثلاث حبات من الحجر. أبرها في حجم عين الجمل. وذات لون أصفر فاتح مثل كبريت العمود، وقال لهيلفيتوس إن بمقدورك تحويل تلك الأحجار من كمية كبيرة جدا من الرصاص بلى ذهب. ولقد توسل هيلفيتوس للغريب سائلاً إعطاءه أحد هذه الحجارة. ولكن الغريب سمح فقط له بخدش من الحجارة وأخذ كميات صغيرة منها. ولقد قام هيلفيتوس بإجراء عدة تجارب وعمليات كيميائية بهذه المادة واستطاع في النهاية الحصول على مادة لونها أصفر. وحين عرضها على بعض أصدقائه وأحد الفلاسفة أكدوا صدق هيلفيتوس ومنهم الفيلسوف إسبينوزا.
وهنا يشير هيلفيتوس في روايته بلى أن الغريب كان كيميائيا، وأعطى له قليلا من حجر الفيلسوف، ومع أن الفكرة غيى مألوفة، لكن هذه الرواية تقابل باندهاش وخصوصا أن هيلفيتوس وراء هذه الخديعة، حيث لم يؤكد أحد من معاصريه هذا السبق العلمي. أما بالنسبة للكيميائيين فهذا الكلام مقبول لديهم، ولا يجدون ثمة ما يدعو بلى التشكيك في نزاهة هيلفيتوس.
عشاق الكيمياء
استقطب المعمل الكيميائي وتجاربه العديدة مجموعات متباينة من البشر- الذين بهرتهم ألاعيب. وغموض وسحر الكيمياء- من دارسي العلوم الدينية، والعلماء المميزين بلى بعض البسطاء من العامة مثل الحدادين والفنين في تشكيل المعادن. حتى الملوك لم يستطيعوا المقاومة.
فهذا شارلز الثاني من إنجلترا- والذي كان معروفا عنه شدة انشغاله في علاقاته الداخلية- كان معمله أسفل حجرة نومه الملكية، ومزوداً بسلم خاص للوصول إليه. وهيراكوليوس الأول، إمبراطور القرن السابع للبيزنطيين، أهمل أعباء الحكم في سنواته الأخيرة لولعه بدراسة الكيمياء. ورودلف الثاني امبراطور روماني من 1576 الى 1611 انهار ماليا بسبب إنفاقه على التنجيم والكيمياء.
وستظل الكيمياء هذا الموضوع الساحر المحير، فتوحي النظرة الأولى عن خليط شاذ غير مألوف من التجارب، لكن ما أحوج عالمنا العربي المعاصر والمسلمين اليوم بلى استعادة عرش الأجداد.