مختارات من:

الحياة تعود إلى أهوار العراق

أحمد الشربيني

في عدد (العربي) من شهر نوفمبر الماضي, أشرنا إلى الكارثة البيئية والمحنة التي تعيشها أهوار العراق منذ مطلع تسعينيات القرن العشرين, عندما قام نظام صدام حسين بتجفيفها عقابا لأهلها المتمردين. واليوم تدب الحياة مجددا في شرايين الأهوار. فهل ستتعافى تماما, أم أن جانبا مما فقدناه قد ضاع إلى الأبد?

الأهوار العراقية هي أكبر الأنظمة الطبيعية للأراضي الرطبة في العالم. وكانت في لحظة من اللحظات تغطي مساحة تتراوح بين 15 و20 ألف كيلومتر مربع, أي ضعف مساحة مستنقعات إيفرجليدز في ولاية فلوريدا الأمريكية, وهي موطن لحضارة وثقافة ضاربة في أعماق التاريخ تمتد لأكثر من خمسة آلاف عام.

وتعود بدايات المشاكل التي واجهت الأهوار إلى خمسينيات القرن الماضي عندما بدأت مياه الصرف الزراعي تتسرب إليها. لكن التهديدات الأكثر جدية جاءت في العام 1991, عندما شرع نظام صدام حسين في تأديب عرب الأهوار الذين تمردوا على حكمه بطريقة فريدة: تجفيف الأهوار لحرمانهم من سبل العيش والبيئة الطبيعية التي تسهل لهم الانتقال والاختباء, وذلك من خلال بناء شبكة كبيرة من السدود والقنوات لتحويل المياه عن المنطقة, التي قدرت مساحتها آنذاك بنحو تسعة آلاف كيلومتر مربع.

وترافقت جهود نظام صدام لتجفيف الأهوار في تسعينيات القرن الماضي مع مشاريع تحويل المياه وتخزينها, التي أقيمت على نهري دجلة والفرات في الدول المجاورة للعراق, الأمر الذي أفضى إلى تراجع كبير جدا في كميات المياه المتدفقة إلى الأهوار.

وكان الدمار شاملا على البيئة والبشر, ليس في العراق وحده, وإنما في المنطقة بأسرها. وتشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن نحو 200 ألف من عرب الأهوار أجبروا على الرحيل من موطن أجدادهم: البعض لجأ إلى مخيمات اللاجئين في إيران, والبعض الآخر هاجر باتجاه المدن والبلدات العراقية.

ويقول كلاوس توبفر المدير التنفيذي لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة: (إن الدمار الشامل الذي أصاب الأهوار العراقية أثناء نظام صدام حسين كان كارثة بيئية وإنسانية هائلة, سلبت عرب الأهوار قرونا من ثقافتهم ونمط معيشتهم, كما حرمتهم من غذائهم المتمثل في الثروة السمكية, ومن أهم الموارد الطبيعية, أي ماء الشرب).

وقد تنبه المجتمع الدولي للمشكلة متأخرا نسبيا. ففي العام 2001, قام برنامج الأمم المتحدة للبيئة بتنبيه العالم إلى هذه الكارثة ونشر صورا بالأقمار الاصطناعية, تظهر أن 90 في المائة من هذه المناطق الرائعة قد زال, وهي الموطن الأصلي لأنواع نادرة من الكائنات الحية, مثل طائر أبو منجل أو الحارس, وهو طائر مائي طويل القائمين والمنقار, وهي أيضا مكان لمبيض وتفريخ أسماك الخليج ومحطة مهمة للطيور المهاجرة.

وأظهرت صور الأقمار الاصطناعية في العام 2002 أن المنطقة قد انكمشت لتصل مساحتها إلى 760 كيلومترا مربعا فقط. وقدر عدد عرب الأهوار الذين أجبروا على الانتقال قسرا للإقامة في مخيمات اللاجئين في إيران بما يتراوح بين سبعين وثمانين ألفا.

وفي بداية العام 2003, أشار برنامج الأمم المتحدة للبيئة إلى أن حالة الأهوار تسير من سيئ إلى أسوأ. وأظهرت الدراسات أن 3 في المائة مما تبقى من الأهوار, أي ما يعادل 325 كيلومترا مربعا, قد زالت أيضا. وخشي الخبراء زوال الأهوار نهائيا بحلول العام 2008.

ميلاد جديد

كان سقوط نظام صدام حسين في منتصف العام 2003 بمنزلة لحظة الميلاد الجديد لمنطقة الأهوار التي كانت بتنوعها الحيوي وتراثها الثقافي الغنيين قد تلاشت كلية تقريبا. فقد سارع أبناء الأهوار إلى فتح السدود التي كانت تمنع المياه عن المنطقة. وأخذت المياه تعود بالتدريج إلى الأهوار وتدفقت الحياة مجددا إلى شرايينها.

ومن صدف الأقدار أن العام 2003 كان عاما جيدا بالنسبة لكميات المياه المتدفقة إلى الأهوار, وهو ما ساهم في تسريع عملية تعافيها.

واليوم, وبعد عقد من التدهور الذي كاد أن يذهب بأهوار العراق, عادت حوالي 40 في المائة منها إلى حالتها الأصلية في السبعينيات. وهذا المستوى المهم من التحسن أظهرته بجلاء الصور الأخيرة التي التقطتها الأقمار الاصطناعية للمنطقة بالإضافة إلى الدراسات الميدانية التي أجراها برنامج الأمم المتحدة للبيئة.

وقد أظهرت صور الأقمار الاصطناعية الجديدة زيادة سريعة في مساحة المناطق المائية والنباتية خلال العامين الماضيين. بينما تدعو الحاجة إلى دراسات ميدانية أكثر تفصيلا لنوعية التربة والماء, لمعرفة الحالة الدقيقة للأهوار. ويعتقد علماء برنامج الأمم المتحدة للبيئة أن هذا التحسن هو إشارة إيجابية إلى أن مناطق الأهوار العراقية في طريقها لاستعادة حالتها الأصلية.

وبعد أن كانت مساحة الأهوار في العام 2002 لا تتجاوز 760 كيلومترا مربعا, وصلت مساحتها في أغسطس 2005 إلى نحو 500ر3 كيلومتر مربع, أي نحو 37 في المائة من مساحتها. وكانت المساحة التي عادت إليها الحياة في ربيع العام الحالي قد وصلت إلى 50 في المائة, لكن هذه المساحة تراجعت قليلا بسبب معدلات البخر العالية في شهور الصيف.

وتعكس هذه الأرقام المختلفة التغيرات الموسمية المهمة في النظام الطبيعي للأهوار, حيث يصل الغطاءان المائي والنباتي إلى أعلى مستوى لهما في شهر مارس, بعد الأمطار الشتوية وذوبان الثلوج الربيعية في منابع نهري دجلة والفرات.

المياه ليست كل شيء

لكن المياه ليست كل شيء, فسكان الأهوار, الذين عادوا إلى المنطقة بعد تهجيرهم القسري, يحتاجون إلى مصادر لمياه الشرب النقية, وشبكات الصرف الصحي وتأمين موارد الغذاء.

ويقول كلاوس توبفر إن التحسن السريع الواضح في حالة الأهوار هو إشارة إيجابية إلى أن مناطق الأهوار العراقية في طريقها إلى استعادة حالتها الأصلية.

ويضيف: (بينما تبشر إعادة غمر الأغوار بالخير, سوف تستغرق إعادتها إلى حالتها الأصلية سنوات عديدة.يجب أن نستمر في مراقبة الأوضاع والحرص على تمويل وإدارة الأهوار على المدى البعيد).

ويرى توبفر في نجاح تجربة الأهوار أملا في استعادة بيئة مناطق أخرى منكوبة في العالم. وهو يقول: (علاوة على ذلك, آمل في أن الدروس التي تعلمناها, في إعادة هذا النظام الطبيعي وخدماته المهمة اقتصاديا تساعدنا على إعادة وإنعاش الأنظمة الطبيعية المتردية والمتضررة في مناطق أخرى من العالم, وهكذا نتوصل إلى أهداف الألفية الإنمائية Millennium Development Goals).

ويسهم بقسط كبير في عملية إعادة إعمار الأهوار نظام مراقبة الأهوار العراقية Iraqi Marshlands Observation System. وهذا المشروع الذي بدأ قبل سنة واحدة بتمويل من الحكومة اليابانية سيساعد العراق على استعادة بيئته وتأمين مياه الشرب النقية لحوالي مائة ألف من عرب الأهوار.

وهناك تحد آخر يتمثل في إعادة الحياة البرية إلى المنطقة. وتشير تقديرات الخبراء إلى أن 60 في المائة من الحياة البرية قد عادت إلى الأهوار. وبالرغم من أن كثيرا من مناطق الأهوار أصبحت الآن تغطيها المياه والنباتات, فإن بعضا منها أصبح مشبعا بالأملاح والبعض الآخر ظل مسطحات موحلة.

وقد أظهرت تحليلات التربة والمياه زيادة تركيزات الأملاح الطبيعية في بعض المناطق التي جفت. وفي بعض الحالات, كانت هذه التركيزات عالية جدا, حتى أنها حالت دون نمو النباتات عندما عادت المياه إليها.

كما عثر أيضا على تركيزات عالية جدا من السلينيوم, وهو معدن سام يتكون طبيعيا. ويتخوف العلماء من أن هذا المعدن قد يتراكم في السلسلة الغذائية ويسمم النظام الإيكولوجي.

غير أن التخلص من كل هذه التراكمات يحتاج إلى غسل التربة بالمياه النظيفة لإزالة الأملاح وكبريتيد الهيدروجين. والسؤال هو من أين ستأتي هذه الكميات الإضافية من المياه?!

وتقول الأمم المتحدة إن إعادة المنطقة إلى طبيعتها الأصلية تحتاج إلى اعتمادات مالية كبيرة وسنوات طويلة من الجهود الدءوب, لكن الأمر لن يحل في العراق فقط, فجانب كبير من المشكلة مرتبط بدول الجوار.

والحقيقة أن مستقبل المنطقة بأسرها يعتمد على المياه, التي تتحكم في معظمها إيران وتركيا. بل إن بوسع تركيا أن توقف كل إمدادات المياه المتدفقة إلى نهر الفرات. والوضع الإقليمي الحالي لا يسمح بالتفاوض حول قضايا المياه.

أحمد الشربيني مجلة العربي نوفمبر 2005

تقييم المقال: 1 ... 10

info@3rbi.info 2016