مختارات من:

الحكيم والزمن الجميل وأنا*

دنيس جونسون ديفيز

المستشرق والمترجم دنيس جونسون ديفيز الذي ساهم في نقل العديد من عيون الأدب العربي إلى اللغة الإنجليزية يحكي في هذا الكتاب جانبا من تجربته ونقدم فيما يلي الفصل الخاص بذكرياته مع أديب العربية الكبير توفيق الحكيم.

يعد الكاتب المسرحي توفيق الحكيم، بالطبع، أحد قادة النهضة الأدبية في مصر، وكان له مكتب في صحيفة «الأهرام»، ولكنني كنت في بعض الأحيان أجلس معه صباحاً في أحد الأماكن التي يؤثر التردد عليها، وهو الرصيف الواقع خارج مقهي ريتز في نهاية شارع قصر النيل، قبالة مبنى البنك الأهلي. وكنت قد قرأت كتابه «يوميات نائب في الأرياف»، وساورني الشعور بأنه سيكون كتاباً طريفاً في ترجمته، وسيشكل اختباراً لقدراتي في الترجمة، خاصة أن جانباً كبيراً من الحوار كُتب بالعامية. غير أنني عندما فاتحته في هذا الشأن أبلغني بأنه مما يؤسف له أنه كان قد قام خلال الحرب بالسماح بالترجمة لأبا إيبان، الذي كان في ذلك الوقت ضابطاً من ضباط المخابرات البريطانيين وقدِّر له في وقت لاحق أن يصبح وزيراً لخارجية إسرائيل. وفي وقت لاحق ظهرت الترجمة تحت عنوان «متاهة العدالة» ولاتزال متاحة للقراء في طبعات متداولة.

بعد أن قرأت هذه الرواية مترجمة، واستمتعت بها، قررت تقديمها إلى جمهور قراء الإنجليزية من خلال حديث عبر هيئة الإذاعة المصرية التي بثت برامج باللغة الإنجليزية (كنت مساهماً منتظماً في هذه البرامج، وترجمت للقائمين عليها عدداً من القصص القصيرة لكتاب ذلك الوقت، ونشر بعضها في مجلة «كايرو كولينج»). غير أنني بعد كتابة ما مفاده أن هذه الرواية صورت الفقر الذي عاش في ظله الكثير من الفلاحين المصريين أدهشني أن أجد كلماتي منشورة في جريدة «الزمان» المصرية، حيث اتهمت بالانتقاص من شأن مصر. ولدى ذهابي في صبيحة أحد الأيام إلى الجامعة قوبلت مقابلة حماسية من طلابي، الذين قالوا: «لقد اقتضى الأمر وجودك، أنت الأجنبي، لتملك ناصية الشجاعة لقول مثل هذه الأشياء». لما لم أكن من الحريصين على متابعة الصحف، فقد بادرت بالتساؤل: «أي أشياء؟». وكان مثيراً للسخرية أن أُتهم بانتقاد مصر، في غمار ذلك القول، وذلك في المقام الأول لأننا كنا نعيش في زمن الرقابة الحكومية، وقد أجاز الرقيب ما كتبته للإذاعة، بالطبع. وتم إبلاغي فيما بعد بأن الملك فاروق نفسه قد استبد به الحنق حيال هذا الأمر، إلى حد أن خطوات كانت بسبيلها إلى أن تتخذ لإعلاني شخصاً غير مرغوب في وجوده في مصر. وقد كان هذا آخر ما أريده، فمضيت أقدح زناد فكري لتبين من عساه، من بين معارفي، يمكنه مساعدتي في الخروج من هذه الورطة، وفي التو قفز إلى ذهني اسم يحيى حقي، الكاتب والدبلوماسي الذي ربطتني به أواصر الصداقة، فزرته في مقر وزارة الخارجية، وبادر بالاتصال هاتفياً بادجار جلاد مالك صحيفة «الزمان» ورئيس تحريرها، الذي وافق على مقابلتي. ومضيت للقائه في حالة من الغضب الشديد، وهددت برفع دعوى قضائية على صحيفته، إذا لم ينشر في التو تفنيداً لما نشرته مع اعتذار عن النشر. ولما كان رجلاً يفوقني حنكة، فقد تلقاني باسماً، وأبلغني بأن الصحيفة لم تنشر تفنيدات من هذا النوع قط، ولكنه وعد بأنه في وقت لاحق سينشر مادة تتضمن إشادة بي وبخدماتي للأدب العربي، وهو ما قام به فيما بعد.

أزمة الراقصة

هكذا انتهى احتكاكي الثاني مع رجال السلطة. وكان الاحتكاك الأول قد طرأ من خلال الصفحة الأسبوعية التي كنت أكتبها لمجلة «سفنكس». وقد تألفت هذه الصفحة من مواد عدة تدور بصفة أساسية حول شخصيات مصرية، وذلك في محاولة لاطلاع القارئ الإنجليزي لهذه المطبوعة التي تصدر على غرار «تاتلر» على الحقيقة القائلة إن القاهرة بها أيضاً شخصيات مصرية مثيرة للاهتمام، وأنها لا تسكنها فقط زمرة صغيرة من الإنجليز الذين يقيمون حفلات شاي بصورة منتظمة. وفي أحد الأسابيع ذكرت أن بعض أعضاء الجالية الإنجليزية قد دعوا راقصة مصرية لتقديم الرقص الشرقي. وتعرضت للهزء والسخرية، وأحست بالإهانة، عندما سعى العديد من الرجال في صفوف الجمهور لتقليدها. وكتبت أقول إننا نحن معشر الإنجليز ضيوف في بلد أجنبي، وإننا ينبغي أن نحترم كل جوانب الحياة من حولنا. ويبدو أن هذا أثار غضب السفير البريطاني. وفي وقت مبكر من صبيحة أحد الأيام ألفيت على بابي أحد رجال الشرطة العسكرية. وعندما طلب مني مرافقته إلى السفارة، أبلغته بأنني لا اعتزم القيام بذلك، لكنني غيرت رأيي عندما أشار إلى أن السفير نفسه مستاء من شيء كنت قد كتبته، وأنه لديه سلطة إعادتي إلى إنجلترا على متن طائرة. وأقلتني سيارة جيب إلى السفارة، التي دخلتها آنذاك للمرة الأولى، حيث قابلني من يدعى ميجور سانسوم، الذي فهمت لاحقاً أنه شخص يتمتع ببعض النفوذ في البلاد، والذي رسم صورة كئيبة لورطتي، فأشرت إلى أن الكلمات التي أثارت الضيق كانت الرقابة قد سمحت بها جميعها، لكن ذلك لم يكن أمراً كافياً بالنسبة له، وأبلغني بأنه ربما يمكن حسم الأمر من خلال قيامي بكتابة خطاب اعتذار للسفير.

سألته عما إذا كان يمكن أن يكون من رقة الحاشية بحيث يملي عليَّ مثل هذا الخطاب، حيث لم تكن لديّ فكرة عن نوعية الوثيقة التي يمكن أن ترضي السفير. وفي التو حررت هناك بالكتابة العادية الخطاب الذي أملاه عليَّ ميجور سانسوم. ولم يطرأ أي جديد عقب ذلك على هذا الحدث. غير أنه أوضح لي كيف أن ما اعتبرته تعليقاً عادياً في صحيفة كان يمكن أن يتسبب في إلحاق ضرر جسيم بي.

هل هو بخيل حقـًا؟

أحرز توفيق الحكيم على نحو ما سمعة قوامها اتسامه بالبخل، ولم تتح لي قط المناسبة التي يمكن أن تضع ذلك موضع الاختبار، ولكنه كان موضوعاً للتندر على الدوام بين معارفه. وغالباً ما كنت أزوره في مكتبه بصحيفة «الأهرام»، حيث برهن على الدوام على كرم الوفادة. ولما كان قد أنجز دراسته العليا في فرنسا، فإنه كان يتحدث الفرنسية بطلاقة، بالطبع، وكان ضليعاً في الأدب الفرنسي. وذات يوم عندما كنت أزوره في «الأهرام» فتح درج مكتبه وأخرج، بابتهاج ظاهر، رسالة من المستعرب الفرنسي الكبير لويس ماسينيون، الذي اشتهر بدراسته للصوفي والشهيد الحلاج. ودهشت لرؤية الرسالة مكتوبة بالعربية ومتضمنة عدداً من الأخطاء في النحو، وكانت هذه الأخطاء هي التي أراد توفيق الحكيم إطلاعي عليها. ورحت أسائل نفسي: لماذا خاطر ماسينيون بالكتابة باللغة العربية إلى شخص كان يعلم تمام العلم أن بمقدوره قراءة رسالة بالفرنسية؟ وقد حرصت أنا نفسي على تجنب الكتابة باللغة العربية ما لم أكن مضطراً للقيام بذلك، حيث كنت على وعي تام بالابتهاج الذي يثيره أي خطأ قد أقع فيه.

اشتهر توفيق الحكيم في المقام الأول، بالطبع، بكونه كاتباً مسرحياً. ولما كنت قد وجدت الرواية التي رغبت في الاشتغال عليها مترجمة بالفعل إلى الإنجليزية، فقد انطلقت في ترجمة العديد من المسرحيات التي كتبها، وذلك على الرغم من إدراكي أن الطلب ليس كبيراً على الكتب التي تضم مسرحيات. وكانت أول مسرحية تنشر من هذه المسرحيات هي عملاً ينتمي إلى مسرحياته الأخيرة، وهي مسرحية من مسرح العبث بعنوان «يا طالع الشجرة»، نُشرت في طبعة ذات غلاف ورقي ضمن إصدارات مطبعة جامعة أكسفورد. وكان الرأي المحلي بشأنها منقسماً، وذلك على الرغم من أنني أرى اليوم، بعد سنوات عدة من كتابتها، أنها لاتزال تعرض على خشبة المسرح في القاهرة، ثم نشرت أربع مسرحيات أخرى ـ هي مسرحيتان طويلتان ومسرحيتان من ذات الفصل الواحد ـ في سلسلة «مؤلفون عرب» الصادرة عن دار هاينمان، تحت عنوان «مصير صرصار ومسرحيات أخرى عن الحرية». وأنتجت مسرحية «السلطان الحائر» الطويلة ضمن برامج الخدمة الوطنية لهيئة الإذاعة البريطانية، وشقت طريقها أخيرًا إلى إحدى طبعات «روائع العالم» من إصدار دار نورتون. وشأن كل ترجماتي من الأدب العربي الحديث فإن أياً من هذه الكتب لم يدر مالاً يذكر، سواء عليَّ أو على المؤلف، وكان الترتيب الذي اعتمدته دار هاينمان هو اقتسام المؤلف والمترجم لعائدات حقوق الملكية الفكرية مناصفة، من دون الحصول على مبلغ على سبيل الأتعاب مقدماً. وفيما يتعلق بموضوع المكافآت المالية أتذكر قيام توفيق الحكيم، في إحدى زياراتي لمكتبه، بفتح درج مكتبه وإخراج شيك لوَّح به أمامي. وكان من دار هاينمان ناشرة سلسلة «مؤلفون عرب»، بقيمة إجمالية قدرها 3.06 جنيه إسترليني، هي عوائد الملكية الفكرية عن ستة أشهر. قال مازحاً: «سيكون عاراً حقيقياً صرف هذا الشيك. أعتقد أنني سأتخذ له إطارا لاتمكن من تعليقه».

الترجمة فن أم علم؟

بعد سنوات عديدة ـ حوالي نصف قرن ـ دُعيت لإلقاء محاضرة في جامعة بسورية. وقبل خروجي لتوجيه الحديث إلى جمهوري سألني مضيفي، رئيس قسم اللغة الإنجليزية، عن الموضوع الذي سأتناوله، وأعتقد أنه قد أزعجه أنني لم أحمل معي رزمة من الأوراق المليئة بالكتابة ذات السطور المتقاربة التي سأقرأ منها، وهو أمر وجدته مضجراً على نحو معذب عندما كنت أجلس في صفوف الجمهور. وأبلغته أن موضوعي العام هو شيء من قبيل أن «الترجمة فن». فبدا عليه الكدر في التو، وقال: «إننا هنا نعلم أن الترجمة علم». وبدا جلياً أننا على طرفي نقيض، حتى قبل أن ابدأ محاضرتي. أبديت احتجاجي بالقول: «ولكن يقيناً يتغير معنى الكلمة أو العبارة بحسب السياق» فطرح الاستفسار بإصرار: «ما الذي تقصده؟». قلبت الأمر في ذهني وخرجت بالقول: «على سبيل المثال، فإنه في اللغة العربية ما تجلس عليه هو كرسي، وهذا يترجم عادة بكلمة «chair» ولكن الله، في القرآن، لا يستوي على كرسي، وإنما على عرش، وهكذا فإن آية الكرسي ينـبغي أن تترجم (The Verse of the Throne) وليس (The Verse of the Chair). كذلك فإن كلمة (كرسي) يتصادف أنها تعني القاعدة في «الجوزة» (الشيشة) حيث يضع المدخنون «التعميرة». تطلع الرجل إليَّ غير مصدق ما يسمع، وقد بدا جلياً أنه يتساءل أي نوع غريب من المستشرقين أنا. ثم قبيل انطلاقي وراءه إلى قاعة المحاضرة سألني في أي جامعة إنجليزية أقوم بالتدريس. وجوبهت بنظرة عدم تصديق أخرى، عندما أجبت بأنني أقيم في مصر ولا أدرس في جامعة.

بعد انهائي محاضرتي الموجزة (باللغة الإنجليزية) فتحت المجال أمام الاسئلة. ومضى أحد أعضاء هيئة التدريس يوبخني لقيامي بترجمة مسرحية توفيق الحكيم «السلطان الحائر» إلى «The Sultans of Dilemma» بدلاً من «The Perplexed Sultan» ولفت نظري إلى أن العنوان في اللغة العربية يضم اسماً وصفة وأنني كان ينبغي أن أترجمهما على النحو ذاته. ودافعت عن ترجمتي بالتساؤل: «أليس العنوان «The Sultans of Dilemma » يعطي في آن المعنى ويطرح عنواناً أكثر جاذبية؟. وقد ألفيت أن جمهوري من الطلاب قد بدا أنه في صفي، وشعرت بأنه قد ناله ما يكفي من تعليمه أن الترجمة علم!.

--------------------------------
* العنوان للمترجم بموافقة المؤلف. والنص جزء من كتاب «ذكريات في الترجمة».

دنيس جونسون ديفيز مجلة العربي سبتمبر 2006

تقييم المقال: 1 ... 10

info@3rbi.info 2016