كانت القرية الإفريقية على حافة الغابة. وأفزعتها النمور التي راحت تتسلل إلى أطراف القرية وتفترس بعضا من أهلها، فهاجت القرية. وبمساعدة البنادق الشمالية تم القضاء على كل النمور. لكن ما كادت القرية تستريح من فزع النمور حتى تجسد لها أرق القردة فقد انقرضت النمور التي كانت تفترس القردة، ومن ثم راحت هذه تتكاثر آمنة وتسخو في تكاثرها حتى فاضت عن حدود الغابة وراحت تغمر القرية. ولأنها قردة فقد استعصى القضاء عليها، وطفقت تملأ نوافذ البيوت وتسد الأبواب وتزاحم سكان القرية على موائدهم وفي أسرتهم، حتى لم يجدوا في نهاية الأمر بدا من هجرة القرية وتركها للقرود !
كان يمكن إبعاد النمور بطريقة أخرى غير القضاء المطلق عليها. لكن العقل البشري الذي لم يكن يدرك درس " التنوع البيولوجي " أرتكب الحماقة ، فحقت عليه اللعنة . فالقضاء على نوع من أنواع الحياة يقود إلى استشراء نوع آخر، ويهدد وجود أنواع يكتسحها هذا الاستشراء. ثم لا يلبث هذا المستشري حتى يصير مهددا بالفناء لانفراده الهش وهوانه على طواحين الزمن.
لقد أطلق مؤتمر القمة البيئي الأخير صرخة استغاثة لحماية التنوع الحيوي Biodiversity ، لكن الولايات المتحدة شاءت ألا تسمعها حماية لتجارتها الرائجة في منتجات التكنولوجيا الحيوية المعتمدة على الاغتراف بلا حدود من بعض الأنواع الحية والعبث بالشفرة الوراثية للأحياء بغية الحصول على مواد حيوية فلكية الأسعار.
ولأن العواقب المحتملة وخيمة على تكامل الحلقة المحكمة لاستمرار الحياة، فقد شجب البيئيون والديمقراطيون والمثقفون بعامة موقف الولايات المتحدة. لكن الغريب أن نجد الكثيرين من شاجبي الموقف الأمريكي بين مثقفينا يمارسون الموقف عينه، وإن بطرق أخرى، وفي مجالات تبدو أبعد. ففهم قضية التنوع الأحيائي كشرط لاستمرار الحياة يتضمن في جوهره مفهوم احترام الآخر، واحترام الاختلاف، واحترام الخصوصية في كل شيء . ومن ثم تتقدم مفاهيم التجاور والتكافل والتوازن والتراحم لتكون بديلا عن صياغات : الصهر، والدمج ، والإلغاء ، والنفي ، والإزاحة . وكل هذه اللافتات التي مهما تحلت بالنوايا الحسنة يثبت التاريخ أنها لا تؤدي إلا إلى الجحيم.
وما نجده في رءوس كثيرين من أهل التنظير نعثر عليه متجليا الآن بكثرة في أوساط الأدباء الذين ينتصرون لذواتهم عبر نفي جهود الآخرين والانتقاص من كل الأنواع حتى تسود أنواعهم التي تفتقر حتى إلى الإجماع النقدي أو الجماهيري. وهذه علامات أزمة ثقافية عميقة الغور ترتدي أقنعة شتى. ولا أحد يريد استلهام الدرس من البيئة التي تمنحنا الموعظة الحسنة وتدق نواقيس الخطر.
... حذار، فإن المآل هو النزوح، وطوابير الخروج الكبير إلى البيداء، بينما تكون القردة قد ملأت ليس فقط مدن البشر وموائدهم وأسرتهم ، بل أيضا صفحات الروايات وسطور القصص وأبيات القصائد.