مختارات من:

الموسيقى الميكانيكية اكتشاف عربي قديم

منى سنجقدار

كان للعرب دور كبير في تطور الموسيقى، حيث أضفى العلماء العرب خصائص امتازت بها موسيقاهم عن موسيقى سائر الشعوب الأخرى، فنشأت الموسيقى العربية بأبعادها وإيقاعاتها وخصصت لها الآلات، وأطلق اسم التخت الشرقي العربي على مجموعة منها مثل: العود والقانون والناي والطبلة والدف.

انطلقت الموسيقى العربية مع انطلاقة الفتوحات الإسلامية وانتشرت انتشارا واسعا في مصر والعراق وبلاد الشام و بلاد الأندلس، وظهر أول موسيقي في الإسلام الذي أطلق عليه اسم طويس (الطاووس الصغير) واسمه الكامل أبو عبد المنعم بن عبد الله الذائب (236 - 17 م) الذي نشأ في دار أروى أم الخليفة عثمان.

في عهد بني أمية امتدت الإمبراطورية الإسلامية شرقا حتى نهر جيحون وجبال الهندوس، وغربا حتى المحيط الأطلسي وجبال البرنس، وبدأ ركب الحضارة الإسلامية يشق طريقه إلى المجد، فازدهرت بذلك الفنون والعلوم، وانتقلت الموسيقى إلى مرحلة جديدة. ومن أبرز المغنين العرب، في أول الحكم الأموي، سائب خائر، الذي صبغ الغناء الفارسي بروح عربية، واستخدم العود بدل القضيب في الغناء، وسار على النهج نفسه آخرون ممن تتلمذوا عليه أمثال ابن سريج ومعبد. وفي عهد الأمويين أيضا وضع يونس الكاتب «كتاب النغم» فمهد بذلك لانطلاق حركة فكرية موسيقية في العهود التي تلت.

في العهد العباسي بلغت الموسيقى العربية ذروة مجدها وظهرت مجموعة مهمة من المغنين الذين اشتهروا بحسن أداء الغناء أمثال اسحق الموصلي وإبراهيم الموصلي وزلزل ويحيى المكي. كما ظهر أيضا أعلام عرب هم طليعة الفكر الموسيقي والإنساني ليس في العالم العربي فحسب إنما في العالم أجمع. حيث تركوا لنا مصنفات قيمة في علم الموسيقى وآلاتها أهمها:

- رسالة في خبر تأليف الألحان للكندي (المتوفى عام 478 م) وهي تشتمل على أول بحث في نظرية الموسيقى العربية وفيها طريقة خاصة بالتدوين الموسيقي.

- كتاب الموسيقى الكبير للفارابي (المتوفى عام 950م) وهو أعظم الكتب الموسيقية التي كتبت على الإطلاق.

- الجزء الخاص في كتاب الشفاء للرئيس ابن سينا (المتوفى عام 1039 م) ويحتوي على شروح مهمة عن نظريات الموسيقى العربية.

- كتاب الأدوار لصفي الدين الأرموي (المتوفى عام 1294م) ويعترف كروسلي هولند أن كل من كتب في النظريات الموسيقية بعد صفي الدين اعتمد اعتمادا كبيرا على «كتاب الأدوار» وجعله أساسا لبحوثه ودراساته.

وفي الأندلس حيث قامت خلافة أموية منفصلة عاصمتها قرطبة (عام 557 م)، أنشأ المغاربة مدارس أرادوا بها التفوق على المدارس التي أنشئت في بغداد فأصبحت بذلك قرطبة مركزًا ثقافيًا وموسيقيا ممتازا. ومن أبرز الموسيقيين العرب الذين ظهروا في ذلك الوقت زرياب الذي لقب بإمام الغناء العربي والذي اعتبر من أهم المغنين الذين ظهروا خلال الحضارتين العباسية في بغداد والأموية في قرطبة.

ومن الآلات الموسيقية التي كثر استعمالها: العود ذو الخمسة أوتار والطنبور والقيثارة والقانون والرباب والمزمار والسرناي وغيرها.

إن الموسيقى العربية تطورت بعلمائها ومصنفاتهم تطورًا ملحوظًا بين القرنين الثالث والتاسع الهجري، لكن لم يرد ذكر الموسيقى الميكانيكية في جميع المصنفات التي حققت حتى هذا التاريخ.

ما هي الموسيقى الميكانيكية؟

الموسيقى الميكانيكية هي الموسيقى التي تنبعث من آلات موسيقية دون وجود عازف. ففي مطلع القرن السابع عشر ميلادي ظهرت في الأسواق الأوربية آلات مسلية كعلبة السجاير الموسيقية وصندوق المجوهرات الذي يصدر نغما معينا عند عرض ما في داخله، كما ظهرت آلات موسيقية عازفة كالبيانو والأرغن والناي وغيرها.

ما هو العنصر الرئيسي المشترك بين جميع تلك الآلات؟

ورد في كتاب الفريد شابوي ما يلي: إن الموسيقى الميكانيكية أبصرت النور في مطلع القرن الرابع عشر مع قرع الأجراس الكبيرة والجلاجل الضخمة وفي مخطوط في مكتبة (Rouen) محققة من قبل (Z.Wins) ذكر أنه في عام 1321 وجدت جلاجل تعزف لحنا موسيقيا بطريقة ميكانيكية.

ويعزى إلى B.De Koecke مؤسس الأجراس في Alost Flandre أنه أول من ركب بربخا ذا شظايا لتحريك المطارق التي تضرب على الأجراس وذلك وفق لحن معين، وقد سمع هذا اللحن لأول مرة عام 1487.

كما تفيدنا الموسوعة الفرنسية (Larousse) بأن البربخ الموسيقي لم يكن له وجود قبل أواخر القرن الخامس عشر ، وانه لم يظهر في أي آلة موسيقية قديمة ، وان أول من استعمله في تصميم الأرغن هو (Salomon De Caus).

نستنج مما تقدم بأن العنصر الرئيسي في آلات الموسيقى الميكانيكية هو«البربخ الموسيقي حامل الشظايا».

هل اكتشف العلماء العرب هذا البربخ ؟

من خلال دراسة تقنية وتحليلية لمخطوط «الآلة التي تزمر بنفسها» لبني موسى بن شاكر (محمد وأحمد والحسن الذين عاشوا في القرن الثالث الهجري واشتهروا بعلوم الرياضيات والفلك والموسيقى) تبين بأن أبناء موسى استعملوا البربخ في آلة الزمر ويمكن اعتبارهم مكتشفي أسس الموسيقى الميكانيكية.

ما هي تلك الآلة ؟

يتألف المخطوط من تسع عشرة صفحة كتبت بلغة عربية قديمة تخللتها بعض العبارات الفارسية وخلت من أي رسم يوضح معالم الآلة رغم ان عبارة «كما صورنا» ترددت بين السطور. لكن الوصف الدقيق والمنظم لأجزاء آلة الزمر أتاح لنا فرصة إعادة الرسم بالأبعاد الثلاثة وفقا للرسم الصناعي الحديث كما سمحت لنا التكنولوجيا الحديثة المتبعة على الحاسوب بإعطاء الحركة المناسبة لتلك الآلة فظهرت بذلك عبقرية هؤلاء العلماء الذين سبقوا علماء الغرب في هذا المجال بعدة قرون.

كيف تعمل الآلة ؟

إذا ما نظرنا إلى (الشكل المرفق) وتابعنا الشرح أدناه خطوة خطوة نستطيع أن نتفهم بسهولة طريقة عمل الآلة .

من الحنفية الكبيرة التي تتصل مباشرة بخزان الماء الكبير (الموجود في أعلى الرسم شمالا) ينصب الماء على الدولاب الكبير ذي البيوت فيدور بفعل ثقل الماء عليه. بدورانه يدور اللولب أي الدندانجة المركزة على محوره ومن ثم الدائرة (ف) ذات الأسنان المتشابكة مع أسنان اللولب. بفعل هذا الدوران تدور نصف الحلقة (ص) فتفتح الباب المطحون المركز على أنبوب مجرى الماء ويبدأ هذا الأخير بالتجمع في أحد قسمي المضخة الهوائية، عبر الوعاء الصغير المثبت في أسفل الأنبوب. عندما يمتلئ هذا الوعاء يفيض الماء منه إلى وعاء أكبر ثبت على طرف الرافعة التي تنحني لجهته مما يساعد على إغلاق الباب المطحون المركب في أسفل أحد قسمي المضخة الهوائية. يتجمع الماء في القسم الأول طاردا الهواء من الأنبوب المخصص له إلى الكرة الضاغطة. ثم يعقبه العمل في القسم الثاني من المضخة عند امتلاء القسم الأول.

أما الهواء الذي يتجمع ويضغط في الكرة فليس له مخرج سوى الأنبوب المخصص له والمتصل مباشرة بالسرناي ذي الثقوب التسعة.

كيف يعمل السرناي؟

إن ثقوب السرناي تفتح وتقفل، وفق نغم معين وزعت على أساسه الشظايا على ظهر البربخ، بواسطة روافع متحركة حول محور ثابت. عندما تغمز الشظية أحد أطراف الروافع ينفتح الباب المطحون المركب على الطرف الآخر ويفتح ثقب السرناي المقابل له وتخرج النغمة من هذا الثقب.

أما البربخ فيدور دورانا مستويا بواسطة دواليب متشابكة تدور هي أيضا بفعل ثقل الماء الذي ينصب عليها من خزان مرتفع.

ما هو الدولاب الموسيقي؟

نعتمد في وصف البربخ على ما ورد في المخطوط. يقول بنو موسى: «إن بربخ تأليف النغم هو عبارة عن أنبوب ضخم قطره شبر أو أكثر، وطوله بقدر المسافة التي بين الثقوب الثمانية الموجودة في السرناي. يدور هذا البربخ على محور ثابت في وسطه. ثم نرسم على ظهره ثماني دوائر، مسامتة للثماني مساطر التي ذكرنا أن أطرافها تسد وتفتح الثقوب الثمانية، التي في السرناي. وننصب على كل دائرة من هذه الدوائر التي على ظهر البربخ شظايا دقاقا تكون حروفها قسيا ومصححة من دائرة واحدة. ونجعل في كل دائرة عددا معينا من هذه الشظايا يتلاءم مع عدد المرات التي تستعمل بها نفس النغمة. أما طول الشظية فيكون مناسبا للمدة التي تستعمل بها النغمة.» لقد اعتمد بنو موسى مذهبا خاصا لتوزيع الشظايا على البربخ وفق نغم معين نختصره كما يلي: «لنتخذ بكرة كبيرة من الخشب ونطلي رقبتها أي مكان موضع الحبل بالشمع الأسود، ثم نجعلها تدور حول محور ثابت دورانا مستويا. ثم نركز أمام تلك البكرة أطراف المساطر أو الروافع بحيث تلامس الشمع، ونجعل تلك الروافع تتحرك حول محور آخر مواز لمحور البكرة بينما تتصل الأطراف الأخرى من هذه المساطر بأصابع الزامر الذي يعزف اللحن المطلوب على سرناي ثابت. وهكذا فإن أطراف المساطر أو الروافع الملامسة للشمع الأسود تخط اللحن بكامله ومن ثم نستطيع توزيع الشظايا وفقا للخطوط المرسومة كما نستطيع قياس طول كل شظية من خلال الآثار الواضحة على الشمع. ثم نخرط تلك الشظايا ونثبتها على البربخ الموسيقي بعد أن نكون قد خططنا على هذا البربخ دوائر موازية لثقوب السرناي».

أول دمية موسيقية

وفي مقطع من المخطوط يقول بنو موسى: «وإذا أردنا أن نتخذ ذلك في صورة إنسان يزمر، فإننا نصير هذه الآلة كلها مستورة في داخل بدن تمثال أو في موضع آخر ويظهر السرناي وهو مركب في فم التمثال ونجعل تلك المساطر التي على أطرافها الأبواب وهي التي تسد وتفتح ثقوب السرناي الثمانية هي أصابع التمثال، ونعطف أطراف المساطر في داخل ساعدي التمثال حتى تنتهي الشظايا المنصوبة على البربخ في داخل التمثال لكي لا يظهر من جميع الآلة إلا السرناي فقط، وأصابع التمثال المشكلة بالأصابع. فإذا ما أطلقنا في الآلة الماء وصيرنا مسكن الريح إلى فم التمثال وخرج من الحبة وأدى الصوت في السرناي ثم تحركت الأصابع على السرناي كما وصفنا فقد يزمر التمثال تلك الألحان التي ألفناها كما يزمر الإنسان الزامر».

هذا ولا بد من مقارنة هذا الزامر مع الزامر المماثل له الذي صممه الميكانيكي فوكنسن (Vaucanson) الذي قدم تصميمه ضمن أطروحة إلى أكاديمية متخصصة عام 1738 شرح فيها التقنيات التي اعتمدها لتحقيق هدفه فقال: «كان يجب أولا تحريك شفاه التمثال وكذلك الأصابع. لهذه الغاية فإن ثلاثة أصابع من اليد اليسرى وأربعة من اليد اليمنى للتمثال قد ركبت على مفاصل بحيث تستطيع فتح وإغلاق ثقوب السرناي لإعطاء النغم المطلوب. وهذه المفاصل تتحرك بواسطة روافع وتتصل بمساطر تمر في سواعد الزامر. والشفاه أيضا متحركة باتجاهين عموديا وأفقيا وقد اتصلت الرقبة بأنبوب هوائي من المطاط. ثم استعيض عن اللسان بالصمام المثبت بالرقبة. أما حركة الروافع فتتم عبر البربخ الموسيقي حامل الشظايا».

لقد لاقى زامر فوكنسن إعجاب العلماء وتم تركيب الآلة وعرضت في أحد المتاحف الفنية. وبمقارنة بسيطة نلاحظ بأن فوكنسن اعتمد على التقنيات نفسها التي اعتمدها بنو موسى أعني بذلك:

- طريقة إدخال المساطر داخل سواعد التمثال

- حركة الروافع تعتمد على بربخ الألحان

- البربخ يدور بواسطة الدواليب المتشابكة الأسنان

- آلة الزمر هي عبارة عن سرناي ذي حبة مصوتة

- أنابيب الهواء وضعت داخل التمثال.

نستنتج مما تقدم ان زامر فوكنسن لا يختلف عن زامر بني موسى إلا في حركة الشفاه. لكن علينا أن لا ننسى بأن تصميم فوكنسن يعود إلى القرن الثامن عشر حيث كانت تكنولوجيا الموسيقى الميكانيكية قد قطعت شوطا مهما في التقدم والتطور وهناك مسافة تسعة قرون تفصل بين التصميمين.

إضافة إلى ذلك فإن زامر بني موسى يستطيع تغيير اللحن بحركة خاصة للبربخ الموسيقي بينما زامر فوكنسن يستدعي تغيير البربخ بهدف تغيير اللحن.

لقد برهنت الدراسة التحليلية والتقنية لمخطوط بني موسى «الآلة التي تزمر بنفسها» بأن تلك الآلة هي عبارة عن أرغن مائي ميكانيكي وآلي.

خلاصة القول أن أبناء موسى بن شاكر هم واضعو أسس الموسيقى الميكانيكية والدمى الموسيقية، التي ظهرت في مطلع القرن السادس عشر.

منى سنجقدار مجلة العربي اكتوبر 2006

تقييم المقال: 1 ... 10

info@3rbi.info 2016