مختارات من:

ذكريات سكرتير مخلص

جابر عصفور

قضى أحمد أبوالعز اثنى عشر عاماً وهو يعمل سكرتيراً لأمير الشعراء وقد اصدر كتاباً يعد وثيقة مهمة عن حياة هذا الشاعر

توفي أمير الشعراء أحمد شوقي في فراشه بمنزله (كرمة ابن هانئ) المطل على النيل ما بعد منتصف الليل في الرابع عشر من أكتوبر سنة 1932, وقد أحزنت وفاته الحياة الثقافية العربية بأسرها, حتى أولئك الذين هاجموه بوصفه رمزًا إبداعيا للقديم الذي لابد أن يخلي الطريق للجديد الواعد. وانهمرت مئات المقالات والقصائد في تأبين الفقيد الكبير الذي استحق لقب أمير الشعراء بجدارة, وسارع الجميع إلى كتابة ذكرياتهم عن الفقيد, وإعداد الكتب عنه, لكن كان أسرعهم إصدارًا لكتاب هو سكرتيره الخاص أحمد عبدالوهاب أبو العز الذي قضى اثني عشر عاما في صحبة أمير الشعراء الذي أحبّه ورعاه, واصطفاه لصحبته كل هذه السنوات التي حفرت آثارها العميقة في وجدان السكرتير المحب. فكان من الطبيعي أن يعجّل إلى إصدار كتابه الوثيقة (اثنا عشر عاما في صحبة أمير الشعراء). وقد فرغ أحمد عبدالوهاب أبو العز من كتابه في الحادي عشر من نوفمبر سنة 1932, أي بعد شهر وعدة أيام من وفاة راعيه, تنفيسا عن حزنه, ووفاء للصحبة, وتسجيلا لما ينتسب إلى التاريخ من وقائع وأحوال.

وقد حصلت على نسخة من كتاب السكرتير المحب من سور الأزبكية القديم في مطلع الشباب, وأنا أقلّب الكتب التي كانت تباع بقرشين للكتاب في مطلع الستينيات. واستوقفني كتاب صغير الحجم, أنيق الطباعة, تتصدر غلافه صورة كبيرة لأحمد شوقي جالسا في شرفة الدور الأول من منزله, ويقف خلفه سكرتيره أحمد أبو العز كالحارس الأمين, ممشوق القوام, توحي استقامة جسده بالصحة والعافية, على النقيض من صورة أحمد شوقي التي كانت تبين عن شيخوخته التي تزايدت أمراضها في الأشهر الأخيرة من حياة شوقي, والصورة مأخوذة في عامه الأخير, لكنها لم تحجب أناقته ولا مهابته, مُظهرةً البابيون الدي يحيط بالرقبة, والنظرة الحالمة التي ظلت علامة على أحمد شوقي. وفي خلفية الصورة, تبدو حديقة المنزل (كرمة ابن هانئ) موحية بالامتداد الذي يكمل عراقة المنزل وعمارته. ولم تكن هناك صور على ظهر الغلاف, فقط, إشارة إلى أن الكتاب يطلب من المكتبة التجارية بشارع محمد علي ومن المؤلف أحمد عبدالوهاب أبو العز بشارع جلال نمرة 8 بالقاهرة. أما ثمن الكتاب فكان خمسة صاغ, وهو ثمن مرتفع نسبيا في ذلك الزمان, لكن يبدو أنه كان يرجع إلى ارتفاع تكاليف طباعة الصور التي يمتلئ بها الكتاب, ومنها صورة لأحمد شوقي مع سعد زغلول, وفي خلفية الصورة الأستاذ عبدالرحمن الجديلي, ويرجع تاريخها إلى أول يونيو 1926, حين حضر زعيم الأمة للتهنئة بزفاف الابن الأكبر لشوقي وصورة ثانية لأمير الشعراء وبجانبيه صاحبا جريدتي المعرض والأحرار ورجال عصبة العشرة, وثالثة ورابعة وخامسة لأمير الشعراء في مراحل مختلفة من حياته, ولم ينس السكرتير صورة غرفة النوم التي توفي فيها أمير الشعراء, وفيها السرير النحاسي الذي لا يزال موجودا, وبعدها صورة لأعضاء رابطة الأدب الجديد وأبولو يحملون نعش أمير الشعراء, وصورة للجنازة يتصدرها كبار الأمة. وبعد ذلك صورة للجنة وزارة المعارف لتأبين الفقيد, وفي الصفحة الأخيرة صورة أحمد عبدالوهاب أبوالعز المؤلف وسكرتير المغفور له أمير الشعراء.

نسمات زمن جميل

واختطفت الكتاب من موضعه التائه بين أكوام الكتب, ودفعت للبائع حقه وانصرفت به, وأفدت منه كل الإفادة في إعداد أطروحتي عن شعراء الإحياء, ولم أنته منه بانتهاء الأطروحة, فقد ظل الكتاب قريبا إلى نفسي, أرجع إليه بين الحين والحين, لأسترجع نسمات زمن جميل مضى, ومعلومات تاريخية مهمة يمكن لها أن تلقي الضوء على أشياء كثيرة في شعر شوقي, وتكشف عن معنى إشارات لا يمكن فهمها إلا بوضعها في سياقها التاريخي, ومعرفة الظرف أو المناسبة التي أدّت إلى نظم هذه القصيدة أو إضافة هذا البيت أو ذاك. ولا ينفصل عن ذلك بالطبع القصص التي يرويها السكرتير والتي تجعلنا نقترب من شخصية شوقي, ونراه في حياته اليومية في أدق تفاصيلها.

ولا يكشف الكتاب عن تفاصيل حياة شوقي وحدها, بل يكشف بالقدر نفسه عن مشاعر السكرتير إزاء سيده, والعلاقة الحميمة التي ربطت بينهما. وهي علاقة يستهلّها أحمد عبدالوهاب في المقدمة عندما يتذكر حزنه الشديد يوم وفاة والده, وما قاله شوقي مواسيا: أما ترضى أن أكون لك والدا منذ اليوم? فاقترب منه الشاب المحب, واقترب منه الشاعر العطوف, ولم يكن السكرتير يفارقه إلا في أوقات النوم, فقد كان يقابله في كل صباح ولا يتركه إلا بعد نصف الليل بساعة أو بساعتين, خصوصا في السنوات الأخيرة التي كان يتبع فيها شوقي مثل ظله ويشهد أحمد عبدالوهاب أن شوقي لم يعش ساعة واحدة لنفسه, وإنما كان عاملا في ما هو مسيَّر له من ناحيته الأدبية والفكرية لخير الملايين الذين يقرأون العربية في جميع أقطارها. ومن حق هذه الجماهير أن يعرفوا كل شيء عن الشخصية التي وهبتهم إبداعها, فيروه والدا لأبناء, وأخا لإخوة, وجَدّا لأحفاد, وصديقا لأصدقاء, في كل دروب الحياة ومجالاتها, مع التركيز على الكيفية التي كان ينظم بها شوقي شعره, وعلى أي صورة كان ذلك, وفي أي الأوقات كان يحبب إليه النظم, وكيف كان يلهو أو يحب أو يكره, ففي كتابة ذلك ما يقوم بواجب الوفاء الذي ينهض به السكرتير بحماسة المخلص وانفعال المحب وفاء لمولاه والحق والتاريخ.

ويبدأ الكتاب بإعادة نشر المقدمة المطولة التي كتبها شوقي للشوقيات القديمة التي صدرت في أواخر القرن التاسع عشر, ويستعرض فيها حياته وأصوله العائلية, وعلاقته بالأسرة الحاكمة, ومنها حماية جدته لأمه التي دخلت به طفلا على الخديو إسماعيل, وكان شوقي في الثالثة من عمره, لا ينزل بصره عن السماء لاختلال أعصابه, فطلب الخديو بَدْرَةً من الذهب, نثرها على البساط عند قدمي الطفل الذي وقع على الذهب, واشتغل بجمعه واللعب به, فقال الخديو للجدة تمراز: اصنعي معه مثل هذا فإنه لا يلبث أن يعتاد النظر إلى الأرض, فقالت الجدة قولتها الحكيمة: هذا دواء لا يخرج إلا من صيدليتك يا مولاي, فابتسم الخديو قائلا: جيئي إليّ به متى شئت. إني آخر من ينثر الذهب في مصر, وهي قصة تدل على ولاء شوقي لبيت إسماعيل الذي احتضنه, الأمر الذي صاغه شوقي في بيته الشهير:


أأخون إسماعيل في أبنائه
ولقد ولدت بباب إسماعيلا


شاعر القصر

وقد ظل شوقي شاعر القصر منذ أن رعاه إسماعيل صبيّا, واحتضنه توفيق الذي أرسله إلى فرنسا, وعاد منها ليظل قرين القصر حتى بعد ذهاب توفيق ومجيء السلطان عباس حلمي الثاني الذي وصلت علاقة شوقي به إلى الذروة, فأصبح (شاعر الأمير) وصفيّه, وظل كذلك إلى أن قامت الحرب العالمية الأولى, واستغلت إنجلترا المحتلة لمصر سفر الخديو إلى الخارج فخلعته من العرش, وأسندت الحكم إلى السلطان حسين كامل, ونفت أحمد شوقي الذي قضى سنوات المنفى ينظم شعره في وطنه, خصوصا درّته السينية التي يقول فيها:


وطني لو شغلت بالخلد عنه
نازعتني إليه في الخلد نفسي


ويبدو أن اختلال أعصاب عين أحمد شوقي ظل يعاوده, الأمر الذي جعل الشيخ علي الليثي يستشهد بمصراع المتنبي: (محاجر مسك ركبت فوق زئبق), وهو اختلال يلحظه المتمعّن في صور أحمد شوقي القريبة التي تبدو معها العين حالمة, قلقة, ناظرة إلى أفق غير محدد.

ولا أترك مقدمة الشوقيات القديمة دون أن أنقل عنها حكاية شوقي مع الخديو توفيق الذي كان يعمل في معيّته براتب قليل, فتصادف أن كان عائدا إلى منزله مجتازا ميدان عابدين, فبصر بالخديو في بهو السراي يشرف منه, فنزل عن دابّته إكراما له, وأمر الخادم أن يبتعد بها ويلاقيه خلف القصر, ثم مشى على قدميه حتى انتهى من الميدان, فاعترضه رسول يدعوه إلى الأمير, فوافى حضرته, وتجلَّى الحليم بصورة الغضب فيما يقول شوقي, وقال: أليس لي أن أطل من بيتي حتى نزلت عن حمارك وألجأتني إلى الانثناء, فقال شوقي: عفوا يا مولاي, هكذا أدَّبنا الأوائل حيث يقول شاعرهم:


وإذا المطيّ بنا بلغن محمدا
فظهورهن على الرجال حرام


فتبسَّم ضاحكا ثم قال: إنكم معشر الشعراء تتفاءلون بالغيوم وهذا اليوم من أيامكم. وسرعان ما علم شوقي أن أفندينا عيَّن أباه مفتشا في الخاصة الخديوية, ويتم تعيين ابنه في منصب لائق, ومَدّ الخديو يده إلى شوقي الذي قبَّلها واجما وقد غلبه السرور بما أنساه الشعر.

والمؤكد أن علاقة شوقي بالقصر كانت الأصل في ثرائه الذي جعله يعيش عيشة الأمراء. ولذلك لم يعرف شظف العيش أو قسوة الحياة التي عانى منها حافظ إبراهيم المولود لأسرة فقيرة, فلم يعرف مشاهد الذهب. ولذلك ظل حافظ إبراهيم الشاعر القريب من الشعب القادر على تصوير آلام الفقراء والمحتاجين, بينما ظل شوقي - إلى سنة نفيه - شاعر القصر الذي ينعم بحياة الرفاهية, كما ينعم برضا القصر الذي أرسله إلى فرنسا كي يتعلَّم, كما وضعه في أهم المناصب.

الشعر غلاب

ولكن دعنا من ذلك العيش المرفَّه إلى الكيفية التي كان ينظم بها شوقي الشعر. وهي الكيفية التي يكشف عنها أحمد عبدالوهاب بقوله إن أمير الشعراء ينظم الشعر في أي وقت شاء, وفي أي مكان أراد, فكان ينظمه جالسا وماشيا ومسافرا ومقيما, وكان ينظمه وهو وحده, وأيضا وهو مع أصدقائه أو زوَّاره, وكذلك كان ينظمه فرحا وحزينا, كما كان ينظمه وهو مُجِدّ في أي عمل أو لاهٍ بأي منظر. ويذكر السكرتير المحب بهذه المناسبة أنه دخل السينما في صحبة شوقي, وكان دأبهما في ذلك أن يقطعا تذكرتين مختلفتين, إحداهما أمام الشاشة, وهي لشوقي ليتمكن من رؤية المناظر عن قرب, والثانية للسكرتير كي يجلس حيث يشاء. واتفق مرة أن كانت الرواية ضعيفة, احتملها السكرتير إكراما لسيده, ولكن لم يسعه بعد انتهاء العرض إلا التعبير عن رأيه في الرواية الرديئة, ففوجئ بموافقة شوقي على رأيه, فسأله السكرتير عن سبب بقائهما إلى النهاية, فأجابه شوقي: تركتها من أول نظرة وشرعت أنظر, ونظر في وجه السكرتير قائلا: لا تظن أن رؤية رواية ضعيفة تمر دون فائدة, فقد تعرف بها قيمة غيرها الجيد. وكان شوقي في مكتبه الخاص الذي كان في مكان مغاير لسكنه العائلي, وأملى السكرتير ثمانية وعشرين بيتا من قصيدته التي مطلعها:


قفي يا أخت يوشع خبِّرينا
أحاديث القرون الغابرينا


وتوقف بعدها قائلا: لا تبعد عني حتى إذا جاءني شيء أمليته عليك, وخرج يمشي حول العمارة, وكل بضع دقائق يعود فيملي خمسة أو ستة أوسبعة أبيات. وأخيرًا, دخل المكتب, وجلس على مقعد, وأخذ يمر براحته اليسرى على رأسه, ففهم السكرتير أنه ينظم في سره, فكثيرا ما كان يفعل, ثم قال: أكتب, فكتب السكرتير, وكتب إلى أن أتمَّ أربعة وثمانين بيتا.

ومن الطرائف التي يرويها السكرتير أن شوقي كان يشتغل في رواياته الأربع: (قمبيز) و(علي بك الكبير) و(البخيلة) و(الست هدى) معا, فيملي على سكرتيره شيئا في رواية (قمبيز), ويضيف شيئا ثانيا إلى رواية (علي بك الكبير). وكان يحدث أن يدخل زائر أو زائرون فيحدثّهم ويحدثونه حتى إذا انتهت الزيارة التفت إلى السكرتير وأمره بالكتابة, ويملي عليه كأنه لم ينقطع, ولم يكن مشغولا باستقبال أحد, بل كأن أحدا لم يقطع عليه ما كان ذهنه يعمل فيه. وفي مرة لاحظ الدهشة على وجه سكرتيره فقال له: لا تظن أن محادثتي للناس تعطلني عن عملي.

وليس من الضروري أن أنقل الحكايات الكثيرة التي يرويها أحمد عبدالوهاب عن كيفية نظم الشعر, فكلها تدل على قريحة سيَّالة, وذهن مشغول بالشعر لا شغل له سواه. ومن الواضح أن حالات الإبداع كانت تأخذ الشاعر من دنياه العادية, وتضعه في وضع التدفق الذي لا ينتهي إلا بانتهاء القصيدة. وحتى لو توقف هذا التدفق بفعل عامل خارجي, فمن الواضح أنه كان يعود إلى سيرته التي كان عليها قبل الانقطاع كالنبع الذي يحافظ على تدفقه, ولا يأبه بالعوائق المؤقتة التي تحول دونه والتدفق.

ويبدو أن البعد الإنساني الذي ينطوي عليه شعر شوقي كان انعكاسا للأبعاد الإنسانية في شخصيته على نحو ما يحكي أحمد عبدالوهاب, خصوصا عندما يتوقف على علاقة شوفي بأبيه وأمه, وبرّه بأخته الوحيدة. أما في منزله فكان يقابل الجميع هاشّا باشّا, كثير المزاح والمداعبة لأهله, إذا رأى واحدا منهم مقطّبا اهتم بأمره وظل يستدرجه إلى أن يعرف السبب فيعالجه, ولم يشعر خادم من خدمه بذلّ الخدمة مطلقا, فقد كان يعطف على الجميع ويساعدهم ويجاملهم, وكان يتصدق كثيرا, لكنه كان يكره أن تمس يد السائل يده, خصوصا إذا رآه قذرا, وكثيرا ما كان يكلِّف سكرتيره أن يناول السائل حتى لا يلمسه, ويقول له في أقرب فرصة: طهِّر يدك بالكولونيا, وكان لا يرمى عود ثقاب ولا السيجارة قبل أن يطفئها, أو يكلِّف السكرتير بذلك إذا لم يتمكن, وكان يشرب نوعا من السجائر رفيعة جدا, ثم انتقل منه إلى نوع آخر بالقطن, وكان لا يدخّن إلا بمبسم قبل المرض وبعده, ولكنه بعد المرض كان يكتفي بنصف السيجارة فقط ويلقيها, وكان دائما يستبدل المبسم في الصباح بغيره يكوه قد نُظِّف بالكحول, وكان يحب المطاعم الفرنجية لنظافتها, وأحب الأنواع إليه في الخضار الفاصوليا الحمراء والسبانخ بالبيض والبامية, أما الفواكه فجميعها, وكان يأكل من كل شيء بقدر.

ولم يكن شوقي ينام بعد الغداء قطعيا, بل كان دائما وأبدا يجلس على مقعد طويل بعد الغداء يقلب في عدة كتب, وأحب الكتب إليه قبل مرضه (المثل السائر) لابن الأثير و(العقد الفريد) لابن عبد ربه و(الكشكول) لبهاء الدين العاملي و(الأغاني) للأصفهاني ودواوين الشعراء القدماء التي كانت تأتيه من كل مكان, ومن الواضح أن قراءاته العربية كانت أكثر بكثير من قراءاته الفرنسية, كما كانت علاقاته بكتب التراث هي الأصل الذي لم يتزعزع قط.

ويضيف أحمد عبدالوهاب إلى الكتب التي كان يطالعها شوقي بعد مرضه (تاريخ الجبرتي), وفي أواخر أيامه (القرآن الكريم) و(تفسير النسفي) وكتب الغزالي وكتاب (إظهار الحق).

قوة الذاكرة

وكان شوقي قوي الذاكرة إلى درجة أنه لا يكاد ينسى شيئا, فقد يحدث أن تذكر أمامه بعض المسائل التافهة, ويمضي الوقت الطويل فينساها الجميع إلا هو, ومن ذلك أنه كان لا ينسى اسم مزارع في عزبته, أو مستأجر ذكر اسمه أمامه مرة على كثرة أسماء المزارعين والمستأجرين وعلى كثرة ما كانت أسماؤهم تتغير وتتبدل. وقوة الذاكرة التي يتحدث عنها أحمد عبدالوهاب دعامة قوية من دعامة الشاعرية عند أحمد شوقي, لا لأن الذاكرة هي أساس الموهبة وهي وقود الخيال الذي لا إبداع شعريا من دونه, ولكن لأن ذاكرة شوقي استطاعت حفظ آلاف القصائد من الشعر القديم. ويروي صديقه الأمير شكيب أرسلان في ذلك أنه كان في شبابه يحفظ ديوان المتنبي بأكمله, كما كان شديد الإعجاب بأبي نواس الذي أطلق اسمه على منزله, تقديرا له. وقس على ذلك غيره من الشعراء الذين اتسعت لهم ذاكرة أحمد شوقي, فمنحته من المعطيات ما كان الأصل في تشكيل الكثير من شعره, ويبدو أن اتساع محفوظ شوقي التراثي كان ينتهي به - أحيانا - إلى أن يختلط عليه الأمر بين ما له وما للقدماء, كما كان يصف المشهد المعاصر بأعين القدماء, ومن ذلك ما فعله في قصيدته عن (أم المحسنين) التي قال فيها:


ارفعي الستر وحيّي بالجبين
وأرينا فلق الصبح المبين


فوصفها كما لو كانت داخل هودج وليست سيارة جديدة, ومن ذلك قوله في انتصار أتاتورك:


الله أكبر! أكم في الفتح من عجب
يا خالد الترك جدِّد خالد العرب


والأصل فيها مطلع قصيدة ابن النبيه:


الله أكبر ليس الحسن في العرب
كم تحت لمة ذا التركي من عجب


وقد كان هذا الجانب أضعف ما في شعر شوقي, وعندما كانت تصفو قريحته, وتصهر نار خياله محفوظة لتذيبه في وقدة الإبداع الجديد, كان شعر شوقي يبدو في أحسن أحوال أصالته وروعته, ولا أدل على ذلك من قصائده العديدة التي لا تزال تقاوم الزمن كأنها الآثار الفرعونية التي وصفها في قصائده, متمردة على الزمان, باقية على الدهر, كأنها الوجه المقابل لأبي الهول الذي لم يجاوز حد الصغر.

ولكن من الواضح أن ذاكرة شوقي كانت تفيده في أحوال الحرص الذي اتسم به, فقد كان حريصا على صحته, أورث محمد عبدالوهاب هذا الحرص الوسواسي, كما كان حريصا في نظافة مطعمه, فلا يختار إلا أنظف المطاعم لأنه كان يؤثرها على المنزل, وحريصا في تدبير أموره المالية, الأمر الذي يصفه أحمد عبدالوهاب بقوله إنه كان شديد العناية بإدارة أعماله وتدبير أمواله وحسن الإشراف على تصريفها, حتى لقد كان بعض أصدقائه يستغربون كيف تصطحب ملكة الاقتصاد المالي هذه مع ملكة الشعر كل هذا الاصطحاب البديع, ولقد وصف ذلك بعضهم فقال: شوقي بك له رجل في السماء وأخرى في الأرض, ومن الواضح أن الرجل التي في الأرض لم تقصِّر في تنمية الثروة الزراعية في عزبته, ولا العقارات التي امتلكها, ناهيك بمصادر الثروة الأخرى التي أعانته على حياته الرغدة.

أما الرجل التي في السماء فتتصل بالروح الشاعرة, والذوق الذي يحب الجمال في كل مظاهره, وكانت هذه العناية تتجلى كثيرا مادام هذا الجمال صغيرا فيما يقول محمد عبدالوهاب يقصد إلى إعجاب شوقي البالغ بالأطفال الملاح الذي كان مرآهم يصنع على أسارير وجهه شعاعا يتجلَّى بكل معاني البراءة والحب والحنان, وكان حبه للجمال, بوجه عام, يتجلى في إعجابه بجمال الخطوط بوجه خاص. وكان إذا ورد إليه كتاب ينظر فيه, فإذا كان خطّه رديئا قال لسكرتيره: اقرأه أنت وأبقه عندك وذكِّرني به بعد, حتى لو كان الكتاب من عند صديق. أما إذا كان الخط حسنا فإنه كان يقرؤه بنفسه, ويثني على كاتبه, وربما حمل هذا الخطاب أكثر من يومين في جيبه, وربما عاد فنظر إليه أكثر من مرة. وقد قال لسكرتيره مرة بمناسبة حديثه عن الذوق العام: خمسة أشياء في الفرنجة جعلتني أقدِّرها لهم, وأنظر إليهم بالإكبار عندما دخلت بلادهم لأول مرة: تقديرهم للنوابغ, ونظافتهم, وحبهم للنظام, ورفقهم بالحيوان, وقلة الغيبة في مجالسهم, ولا فرق بين أغنيائهم وفقرائهم في احترام هذه الأشياء.

عشق الجمال

وظني أن حب الجمال هو الوجه الآخر من الذوق المرهف داخل الشخصية التي كانت معتدة بإبداعها, فخورة به, وترجو دائما أن يقدِّره الآخرون ويعرفوا تميزه, ولذلك كانت هذه الشخصية تكره النقد القاسي لشعرها والهجوم الصريح على توجهها, ولا يخفي أحمد عبدالوهاب هذا الجانب مع أنه يمر عليه مرور الكرام, فلا يفوته أن يذكر أنه في شتاء سنة 1932 كثر القدح والنقد في إحدى الجرائد اليومية من بعض الأدباء,وكان السكرتير يخفي عنه هذا النقد لما يراه عليه من ضعف الصحة, وفي ذات يوم عثر على جريدة في المنزل, وكان السكرتير غائبا, فقرأ ما فيها من نقد قاس, وعاتب السكرتير لإخفائها, محاولا الترفّع على الموقف بقوله: إن هذا لا يؤثر عليّ بل يرضيني لأنه عند العالمين المنصفين منعكس, وما كنت أول من يُنتقد, ويكتفي السكرتير بهذا القدر الذي يلمّح ولا يصرّح, فلا يقول لنا إن شوقي كان يتأثر فعلا بالنقد, خصوصا بعد أن اشتد هجوم العقاد وطه حسين وميخائيل نعيمة وأقرانهم عليه, ومن المؤكد أنه لم يندفع إلى التأليف المسرحي إلا ليثبت لخصومه أنه قادر على التجديد.

ويمضي كتاب أحمد عبدالوهاب في سرد ذكرياته التفصيلية عن حياة أحمد شوقي إلى أن يصل إلى المشهد الأخير للعشاء الأخير. وكان ذلك في الثالث عشر من أكتوبر, بعد أن تناول الطعام في مطعم سلستينو في التاسعة والنصف, وذهب إلى منزل صديقه إسماعيل بك شرين فلم يجده, فعاد إلى جريدة (الجهاد) مؤكدا على سكرتيره ضرورة تذكيره في الغد بإرسال خطاب شكر لجلالة ملك اليمن على هديته (إذ أهداه أربعين زمبيلا من البن). وتركه السكرتير ليقابل توفيق دياب صاحب الجهاد, ويجلس معه إلى أن يعود إلى المنزل الساعة الحادية عشرة, ويرتب له خادمه الخصوصي أحمد محمد خليل كوشة كل ما يريد كعادته, ويصعد إلى سريره صارفا الخادم. وقبل الساعة الثانية بقليل يستيقظ الخادم على صوت الجرس المتوالي, فيصعد إلى سيده, ويقول له سيده: عندي ضيق في النفس فأحضر ماء ساخنا وورق كافور, ويحضر الخادم ما طلب, فلا ينفع الدواء العاجل, ويقول شوقي للخادم: لا فائدة, انقطع الأمل, سلِّم لي على الأستاذ عبدالوهاب وسلِّم لي على أحمد أفندي وعلى جميع أصدقائي, وأيقظ الهانم وولدي, ويفعل الخادم ما أمر به, ولكن عندما وصل الجميع كان شوقي صامتا, فأرسلوا في طلب الدكتور جلال الذي لم يتأخر, ولكن كان الروح قد صعد إلى بارئه.

ويذكر أحمد عبدالوهاب أصداء وفاة أحمد شوقي في الأقطار العربية كلها, معدِّدا ما ذكر في صحف كل قطر, ويختم مقتطفاته بمشهد ما بعد الموت, حول القبر, في الساعة العاشرة من صباح الجمعة الذي أعقب الوفاة, فقد زار القبر أعضاء رابطة الأدب الحديث, وهم حضرات الأساتذة كامل كيلاني ومحمود أبو الوفا والدكتور أبو شادي وعلي محمد بركة وسيد إبراهيم وسليم قبعين وغيرهم من الشعراء والكتَّاب, وزاره أيضا أعضاء جمعية الشبان الحجازيين ومحفل الشرق الكبير وهيئات أدبية أخرى وطلبة من دار العلوم والأزهر الشريف, وقرأوا جميعا الفاتحة على روح الشاعر الكبير, ونثروا على قبره الأزاهير, وألقى الأستاذ محمود أبو الوفا وهو يطوف بالضريح هذه الأبيات:


طوفوا بقبر العبقرية وانشقوا
أرج الخلود الساطع الفوَّاح

طوفوا به وتنسَّموا من روحه
ما كان من نبل به وسماح

يثوي هنا شوقي الذي لو يفتدى
لفداه خير الناس بالأرواح

يثوي هنا شوقي العظيم فيا له
قبر حوا جيلا من الإصلاح

شوقي يزملك الخلود بنوره
والذكر كل عشية وصباح

نم في جوار الله وانزل عنده
من جنة المأوى بخير جناح

سيظل اسمك للبيان كأنه
في جبهة الأيام نجم ضاح

جابر عصفور مجلة العربي يوليو 2004

تقييم المقال: 1 ... 10

info@3rbi.info 2016