مختارات من:

التهديد الإسلامي.. خرافة أم حقيقة؟

جون ل. إسبوزيتو

مؤلف الكتاب أحد أهم الأكاديميين المتخصصين في دراسة (الحالة الإسلامية في الغرب). ويبدو تميزه الواضح في كونه (مغرداً خارج السرب), ويبدو صوته بعيداً

عن أصوات الجوقة الغربية الزاعقة, التي أراحت نفسها,

واحتفت بالصيحة القائلة (المسلمون قادمون! المسلمون قادمون)!

بذل أسبوزيتو جهداً واضحاً في هذا الكتاب, وفي تحليل الخطاب الصادر عن جميع الحركات الإسلامية الفاعلة, وعبر المحيطين الزمني والجغرافي للمسلمين, لكي يضع اصبعه في النهاية على (النقطة المظلمة) في الذهنية الغربية. والتي ترفض أن تضع فارقاً بين مختلف الحركات الإسلامية الحديثة. وتفضل أن تضعها جميعاً في سلة واحدة. لكي تصنع لنفسها عدواً جديداً بديلاً عن الاتحاد السوفييتي والشيوعية. ولكي تساهم من جهة في تكريس ودعم الأنظمة الإسلامية, غير الديمقراطية, تحت دعاوى الخوف من (الاصولية الإسلامية) و(الإرهاب).

فالمؤلف يتعامل مع الظاهرة الإسلامية بوعي بالغ ويتمنى على المحللين وعلى دوائر صنع القرار في الغرب أن يتعاملوا معها بالدرجة نفسها من الوعي. من أجل استشراف مستقبل أفضل للعلاقة بين الغرب والإسلام. ولهذا فهو يطالب بضرورة التمييز بين التحدي الديني والأيديولوجي من ناحية, والتهديد السياسي المباشر من ناحية أخرى. وحتى لا ينطوي التعامل مع الإسلام على مغالطة كبرى يجب معرفة الفارق الحقيقي بين وحدة الإسلام وتجلياته الإيجابية المتعددة في العصر الحديث من جهة ورد الفعل للأقلية المحبطة من جهة أخرى.

وبنظرة ثاقبة, لاحظ المؤلف الثنائية المجتمعية بالعالم الإسلامي. ما بين نخبة علمانية, ومجتمع مسلم ينزع لحركات التجديد الإسلامي. ويأخذ على الغرب نظرته الارتيابية نحو تلك الحركات ونعتها بمعاداة الغرب. ويرجع جذور تلك الحركات الى الفشل الذي أصاب المجتمعات العربية الناهضة بعد هزيمة 1967 والتي كانت أنظمتها تهدف إلى محاكاة النموذج الأوربي.

قدم المؤلف سياحة فكرية منذ الإسلام المبكر الذي اعتبره جامعاً للأفكار السابقة لليهودية والمسيحية. ونجح في صياغة نوع جديد من الرؤية الدينية المحكمة. الأمر الذي تسبب في إيجاد تحدٍ للغرب والمسيحية على المستوى اللاهوتي والثقافي, مما أدى في النهاية إلى نشوب صراعات فكرية, تحولت إلى مواجهات ميدانية على الأرض عبر حركة الفتوح الإسلامية, والحركة الصليبية في القرنين الثاني عشر والثالث عشر للميلاد. ثم نجح المسلمون العثمانيون في اجتياح القسطنطينية عاصمة الأرثوذكسية الأوربية منتصف القرن الخامس عشر ونشر الإسلام في البلقان وتهديد باقي دول أوربا.

ويرى أن ذلك كله قد أوجد قطيعة بين الغرب والإسلام وساهم في وجود صورة مشوشة وشائهة عن الإسلام والمسلمين كما ساهمت حركة الإصلاح الديني في الغرب الحديث في ترسيخ فكرة الإسلام الشرير واستمرت هواجس الغرب من الإسلام باعتباره تهديداً, إذ كاد أن يجتاح أوربا في معركة بواتييه (بلاط الشهداء) 732م. ثم عند بوابات فيينا 1683م, ولولا الهزيمة التي حاقت بالمسلمين في المواجهتين لكانت اللغة العربية هي لغة الدراسة في جامعة أكسفورد.

ويعود المؤلف الى العصر الحديث حيث مرّت العلاقات بين الإسلام والغرب في القرن العشرين عبر محورين أساسيين: حركة الاستعمار الأوربي, وحركات التحرير الوطني. حيث كرّس المستعمرون الأوربيون نظرتهم للإسلام بوصفه ديناً طيباً, دون أن ينظروا إليه بوصفه نظاماً سياسياً متكاملاً. وكان ذلك من أجل تكريس نظرتهم نحو تحديث المجتمعات الإسلامية, وتشجيع حملات التبشير, بوصف المسيحية الديانة الأقرب إلى التقدم والنجاح, وأن الإسلام هو العكس.

حدث هذا في الوقت الذي عزت فيه الحركات الإسلامية الإحيائية (المهدية ـ السنوسية ـ الوهابية وفي البنغال والهند وإندونيسيا) تخلف مجتمعاتها إلى البعد عن القيم النبيلة للإسلام, وجهود المستعمرين في تسريب أفكار غريبة لا تصب في مجرى المجتمع المسلم, ورأت ضرورة العودة إلى الإسلام الصحيح.

وهكذا انبثقت التصورات الإسلامية عن الغرب المسيحي عبر سياسات الاستعمار الذي هدد باقتلاع الهوية الإسلامية للشعوب المستعمرة.

ويوضح المؤلف أن الاستجابة الإسلامية لتحدي الاستعمار الغربي قد عبرت عن نفسها عبر عدة إفرازات تراوحت ما بين الرفض والانسحاب أو الأخذ بالعلمانية والتغريب أو إيجاد نوع من الحداثة الإسلامية. وتمثلت النتيجة النهائية لعمليات التحديث التي جرت بعد نجاح الحركات الوطنية ضد الاستعمار الغربي في ظهور نخب جديدة في المجتمع المسلم, حيث أفرز التعايش بين المدارس العلمانية الحديثة والمدارس الدينية التقليدية رؤيتين متوازيتين للعالم اعتمدتها أقلية نخبوية, علمانية, وأغلبية محافظة ذات توجه إسلامي. وسعى معظم الحكام في المجتمعات الإسلامية إلى إيجاد مواءمة بين التراث الإسلامي والعلائق الثقافية الخاصة بالاستعمار الغربي, حيث تم فرض التحديث من أعلى بواسطة الحكومات والنخب المرتبطة بالغرب.

وقليلون هم الذين تساءلوا عن الحكمة المقبولة بأن التحديث يعني التغريب والعلمنة المطردة للمجتمع, وبرزت إلى السطح حداثة إسلامية ترمي إلى سد الفجوة ما بين المصلحين العلمانيين, والتراثيين الإسلاميين كالأفغاني, ومحمد عبده, وأحمد خان, ومحمد إقبال.

ويؤكد المؤلف دائماً على الفهم الملتبس للإسلام في أذهان الغربيين, وتعمدهم استخدام مصطلحات كـ (الأصولية) ذات المزاعم المستمدة من البروتستانتية الأمريكية, وبالتالي وصم الإسلام بالإرهاب, ركزت آلات الإعلام الغربية على صورة المسلم الأصولي, الإرهابي المعادي لمصالح الغرب وديانته غير أنه يلحظ ـ في لفتة بارعة ـ أن أنظمة الحكم في الدول المسلمة, تلقفت أيضاً هذا المصطلح, من أجل توظيفه لخدمة أغراضها, ووصم خصومها الداخليين بصفات سوداوية شريرة وذلك لكسب الصراع الداخلي في المجتمعات الإسلامية.

ولم تتوقف تلك الأنظمة المسلمة عند ذلك فقط بل نجحت في استغلال الواجهة الإسلامية التي صبغت بها سياستها من أجل سحب البساط من تحت أقدام الحركات الإسلامية الإحيائية منها, وذات الاتجاه الثوري, مثلما حدث في ليبيا والسودان ومصر.

الإسلام.. في منظور الغرب

ويرسل المؤلف بصره أيضاً نحو كتلة ثالثة بالمجتمعات الإسلامية, أدركت منذ وقت بعيد أن تطبيق الحكومات للشعارات الإسلامية ماهو إلا وسيلة للسيطرة السياسية والقبض على زمام الأمور أكثر من كونها دعوة حقيقية للإلهام والتجديد, وبدأ أفراد تلك الكتلة ـ التي لم يحدد المؤلف ثقلها ـ في المجتمعات الإسلامية يتساءلون هل ستصبح الدولة الإسلامية الجديدة أكثر فعالية من النظم العلمانية في قضايا المشاركة السياسية والديمقراطية وحقوق الإنسان, فضلاً عن الأصالة الثقافية, وهل ينحصر الاختيار فقط فيما بين (حكم الفرد العلماني أو حكم الفرد الإسلامي?!).

وانتقل بعد ذلك إلى استعراض التنظيمات الإسلامية الموجودة على الساحة, وعلى الرغم من اتساع المشهد الفسيفسائي للجماعات الإسلامية عبر جغرافية العالمين العربي والإسلامي, فإن المؤلف استطاع الإمساك بتلابيبه, كما استطاع استعراض كل جماعاته المعتدلة منها والثورية في مصر ولبنان والجزائر وإيران وتركيا وموقف تلك الجماعات من الغرب, وكذا موقفها من حل المعضلة الإسلامية الداخلية في بلادها وموقفها من العلمانية ومن مستقبل المجتمعات التي تقوم بالتعبير عنها. وعلى الرغم من تورط العديد من الغربيين من مسئولين رسميين ومفكرين ومحللين, في التحذير من خطورة الإسلام فإن أسبوزيتو يرى أن الغرب أمامه طريقان لفهم ما يجري في العالم الإسلامي ومن ثم الاستجابة الإيجابية له, طريق سهل وآخر صعب, الطريق الأول الأكثر يسراً وسهولة الذي تسلكه الذهنية الغربية حتى الآن, هو أن يتم النظر للإسلام وحركات الإحياء الإسلامية بوصفها تهديداً عالمياً وأن يصبح الإسلام عدواً تاريخياً للغرب المسيحي, وهو ما يؤدي في النهاية إلى تأييد النظم العلمانية الموجودة في الدول الإسلامية بأي ثمن, وأن يغض الغرب المسيحي النظر عن قمعها لشعوبها (المسلمة), بدلاً من المخاطرة بوجود حكومات إسلامية في الحكم.

أما الطريق الأكثر صعوبة الذي ينادي به المؤلف وربما تقوم فكرة الكتاب عليه, فهو ضرورة التحرك نحو اكتشاف مدى الضرر الذي تسببه الأنماط السهلة والإجابات الجاهزة التي أفرزتها وسائل الإعلام الأمريكية والغربية, وتعميق فهم العقل الغربي, فينادي بضرورة التمهل في تناول الظاهرة الإسلامية وتجلياتها, والفصل بين الإسلام المثالي والحركات الراديكالية, ويذكّر الغربيين أنه على الرغم من كفاءة أجهزة المخابرات الغربية ودوائر صنع القرار, فإن الجميع لم يكونوا ليستطيعوا التنبؤ بالانهيار السريع للاتحاد السوفييتي, وأن الإجماع على فكرة معينة, لا يعني بالضرورة صوابها.

وهكذا فإن المؤلف يدعو إلى عدم التسّرع بإلقاء الأحكام النهائية على الإسلام, وربطه بالحركات الراديكالية فقط, والارتياح بوصمه بـ(إمبراطورية الشر) كما يطالب بأن تكون الاستجابات الغربية لما يحدث على نحو عقلاني واع بدلاً من الافتراضات المسبقة.

وفي محاولة من اسبوزيتو للحديث عن المسكوت عنه في الغرب, فإنه يطالب العقلية الغربية بأن تنظر إلى ما يعتمل في العقلية الإسلامية من هواجس وتوجسات إزاء الغرب ويغذي ذلك تراث طويل من العنف وسلب إرادة الشعوب عبر محطات مثل الحروب الصليبية والاستعمار الغربي الحديث فضلاً عن الاستغلال الاقتصادي والغزو الثقافي, آخذا على الذهنية الغربية ميلها للحكم على مواقف المسلمين بشكل مبتسر ومتعسّف وإلى دمج أعمال الأقلية النازقة مع الأكثرية المتوازنة, وغض النظر عن التجاوزات المتماثلة التي ترتكب باسم ديانات أخرى غير الإسلام, وأيديولوجيات تصف نفسها بالحرية والديمقراطية.

يؤكد المؤلف على أن العديد من الحكومات الإسلامية قد أدركت ميل الغرب إلى رؤية الإسلام باعتباره خطراً, فاستغلت عنف الجماعات الإسلامية الراديكالية. بعد أن ساوت - عن عمد - بينهما وبين الجماعات الإسلامية المعتدلة. كي تستطيع أن تسيطر على كل الحركات الإسلامية وقمعها. وبدأت وسائل الإعلام في تلك الدول في تضخيم المخاوف من راديكالية إسلامية متحجّرة في الداخل, سوف تتعامل مع الغرب بعدوانية وظلامية شديدة, وهو ما أدى إلى تبرير حبس المسلمين المعتدلين.

وتتبلور الفكرة الأساسية في الكتاب, لتصل في الفصل الأخير إلى رفض المؤلف للأطروحات المنادية بصدام الحضارات, وينتقد الكتاب المفكرين الغربيين المنادين بتلك الفكرة, أمثال برنارد لويس, الذي كان أسبق من طرح هنتنجتون لفكرته. ويصف المؤلف معلومات لويس بالسطحية, وأنه لم يميز بين الجماعات الإسلامية المختلفة, وكذلك بالنقص المذهل في المعلومات التي يقدمها, من أجل الوصول في النهاية إلى نتيجة شائهة هي حتمية حدوث الصدام الحضاري بين (الكتلة الإسلامية) والغرب.

كذلك ينتقد المؤلف أطروحة هنتنجتون التي تضع الإسلام - إلى جانب الديانات الوضعية الأخرى - في مواجهة الحضارة الغربية. ويؤكد أن التناول الانتقائي الذي ينهجه المحللون الغربيون للنشاط الإسلامي. يستبعد الأسباب التي ارتكز عليها المسلمون في رفضهم للغرب, وأن هؤلاء المحللين لا يجهدون أنفسهم أبدا في البحث عن الجذور التي تحدد مواقف الإسلاميين, بدلاً من استبعادها ببساطة, واعتبارها نتيجة للصدام بين الحضارات.

اليد واحدة والدوافع شتى

ويهاجم المؤلف المحللين الغربيين الذين يربطون جميع الحركات الإسلامية في العالم الإسلامي في خيط واحد. ويعتبرون أن ما يحدث في فلسطين وكشمير وأذربيجان وكوسوفا ولبنان هو انتفاضة إسلامية عالمية.

ويرى أن اقتناع الغربيين بهذا, يؤدي بهم في النهاية إلى تخيّل وحدة إسلامية غير واقعية. لأن لاندفاع كل منطقة وجماعة أسبابه الخاصة, فما يحدث في فلسطين لا علاقة له بما يحدث في كشمير وكوسوفا وأذربيجان.

ويتهم أسبوزيتو المحللين الغربيين بالازدواجية عندما يرحبون برغبات شعوب شرق أوربا نحو التحرر والاستقلال في الوقت الذي يرفضون فيه مطالب الحركات الإسلامية, ولا يتوقف عند ذلك فقط, بل يحاول أن يحلل أسباب هذه الافتراضات الخاطئة ويرجعها إلى عوامل عدة أهمها أن معظم أولئك المحللين جاءوا نتيجة انحيازات علمانية فضلا عن فهمهم البسيط والضحل للإسلام. وكذا ندرة الباحثين في الدراسات الإسلامية, واضطرارهم للتعامل مع الماضي الإسلامي, ومحدودية إمكاناتهم من حيث فهم الإسلام الصحيح, واللغة العربية, والاتصال الحقيقي مع الناشطين الإسلاميين, والحركات الإسلامية.

والنتيجة التي يخلص إليها المؤلف هي أنه يجب على الغربيين أن يدركوا أن الإسلام يتميز بحيوية فائقة ودائمة, وأنه يجب عدم اختزال كل الحركات الإسلامية في كفة واحدة, ولا يمكن أن تقوم صيغة استراتيجية أو وصفة سحرية (معلبة) بالتعامل مع الظاهرة الإسلامية ككل, بل يجب التحفظ ومعرفة الحد الفاصل بين الحركات الإسلامية ذات المشروع الفكري والتجديدي. وبعض العناصر والجماعات الراديكالية التي تبنت العنف نتيجة للعديد من الأسباب الداخلية, وكذلك الأسباب الخارجية التي كان الغرب هو المسئول الأول عنها بشكل أو بآخر.

يتبقى أن الترجمة الدقيقة والفائقة لأفكار المؤلف, قد توقفت أمام رؤيته لإسرائيل ودورها, فقد أخذت عليه - بحق - محاولة إيجاد مشابهة تعسفية بين مناضلين حقيقيين مثل نيلسون مانديلا وياسر عرفات, وإرهابيين على شاكلة مناحم بيجن وإسحق شامير وعصابة شتيرن. غير أن هذه (الزلّة) للمؤلف لا تنفي عنه معرفته ودرايته الفائقة بتضاريس الحركات الإسلامية الحديثة. وكذلك نزعته الموضوعية للتعامل مع الظاهرة الإسلامية. بل ربما يمكن القول - مع بعض التحفظ - إن المؤلف يفهم طبيعة جميع الحركات الإسلامية وأفكارها, ربما أفضل من بعض الحكومات المسلمة, التي لم تفهم ذلك, أو التي أغفلت فهم ذلك - عن عمد - حتى تستطيع تطبيق سياساتها, وتحقيق أهدافها ومصالحها

جون ل. إسبوزيتو مجلة العربي يناير 2003

تقييم المقال: 1 ... 10

info@3rbi.info 2016