مختارات من:

مجلات السينما: هل يعود النقد السينمائي الجاد؟

نديم جرجورة

على الرغم من أزمات السينما العربية وتراجع الأفلام التي تنتجها, فإن هناك محاولات نقدية جادة أثمرت إصدار ثلاث مجلات سينمائية جديدة.

رغم أزمة السينما, فإن هناك سينمائيين مصرّين على ابتكار أعمال جادة, تعاين الفرد والجماعة, والتاريخ والواقع والحياة اليومية, والأبعاد الإنسانية والاجتماعية والفكرية للإنسان والمجتمع العربيين.

إحدى هذه الأزمات تكمن في غياب مجلات سينمائية نقدية جادّة, تواكب حركة الإنتاج العربي, وتغربل الأفلام, وتطرح الأسئلة المختلفة, وتقدّم للقارئ المهتم صورا متنوّعة عن النتاج السينمائي العالمي, وتواجه التحديات التي تفرزها المجتمعات بتحوّلاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإعلامية, إذ إن هذه التحوّلات تؤثّر في السينما, كجزء من الحركة الإبداعية للمجتمع.

هنا, محاولة نقدية لقراءة تجارب متواضعة شهدتها القاهرة, بالدرجة الأولى, على مستوى إصدار مجلات سينمائية عدّة.

لا يستقيم المشهد السينمائي, عامة, من دون رفد النتاج البصري بمجلات نقدية متخصصة, تغربل الأعمال المقدمة, وتضيء جوانب أساسية من الثقافة السينمائية الضرورية, وتحلّل مضامين الأفلام ولغاتها البصرية, وتطرح على بساط البحث والمناقشة قضايا السينما وأزماتها ومشاكلها وتحوّلاتها وحاجاتها وأغراضها, ويفترض أن يتمّ ذلك كلّه في إطار من الموضوعية النقدية, بعيدا عن الغوغائية والمصالح الذاتية الضيّقة. يعتقد البعض أنه لا أهمية تذكر, ولا فائدة ترجى, من وجود مثل هذه المجلات. في حين أن بعضا آخر يشير إلى عجزها, كمجلات سينمائية متخصصة, في العالم العربي تحديدا, عن الاستمرار في الصدور, وعن حماية نفسها من السقوط في التبعية والعلاقات العامة (والرخيصة, أحيانا). بالنسبة إلى الرأي الأول, فالجواب الأكيد ينفي غياب الأهمية والفائدة المرجوّة من إصدار مجلات نقدية, ومن الاستمرار في إصدارها, والسعي إلى أن تحتلّ حيّزا رفيع المستوى في المشهد السينمائي هذا. أما بخصوص الرأي الثاني, فإن مجلات نقدية عدة, صدرت في أوقات مختلفة, أثبتت قدرتها على تجنّب الانزلاق في متاهة المصالح والعلاقات العامة, بتقديمها البعد النقدي الموضوعي على ما عداه من تفاصيل ورغبات. مع أن عددا لا بأس به من هذه المجلات لم يستمر في الصدور طويلا, إذ إنها (أي المجلات) عجزت عن الصمود أمام حاجات السوق الاستهلاكية, والفراغ الفاضح في إنتاج أفلام جدّية وجادة, وغياب الوعي الثقافي والفني لدى الجمهور السينمائي, وسلطة الرأسمال التجاري.

الفن السابع

إن التجربة المتميّزة في هذا المجال, التي شهدتها القاهرة في الأعوام القليلة الماضية, تبقى في (الفن السابع), التي ثابر صاحبها الممثل المصري محمود حميدة على إصدارها شهريا, على مدى أربع سنوات متتالية, مازجا فيها تقنيات الطباعة الحديثة بالمواضيع الجدية, من دون التغاضي عن اهتمام بعض الجمهور بالسينما كنجوم وعلاقات وأخبار ومعلومات. هذه المجلة أكدت, بعناد صاحبها وبعض العاملين فيها وقدرتهم على مواجهة التحدّيات والأزمات المختلفة, أن النيّة الحسنة قادرة على رفد المشهد السينمائي بمعاينة نقدية سليمة وموضوعية, إلى أبعد حدّ ممكن, وبأن الإمكانات المالية المتواضعة قادرة على خوض مغامرة البحث عن المعنى الأسمى للسينما. ولعلّ (الفن السابع) ستبقى, لأعوام عدّة, المجلة السينمائية المصرية والعربية الوحيدة, التي صدرت طوال أربع سنوات من دون توقّف, إذ درجت العادة, في هذا المجال, ألا تصمد المجلات السينمائية النقدية الجادّة أمام الصدور طويلا.

في تقديمه (كتابات مختارة للناقد السينمائي فتحي فرج) (إعداد سمير فريد), الصادر عن (الهيئة العامة لقصور الثقافة) (فبراير 2002), رأى الناقد المصري أمير العمري (رئيس جمعية نقّاد السينما المصريين), أنه (في زمن ما, كان للنقد وظيفة وهدف), محددا الأولى بـ (النهوض بمستوى الفن السينمائي), والثاني بـ (الجمهور: إعداده وإعادة بنائه الفكري), مشيرا في الوقت نفسه إلى أن الوظيفة اليوم (غائبة, أو مغيّبة تماما), والهدف بات مجرّد (ترويج للصناعة بأي شكل, بهدف الإبقاء عليها في أي صورة كانت). من جهته, كتب فتحي فرج في مقالة له بعنوان (معنى النسبية في النقد) (المجلة المصرية (الكواكب), 25/2/1969) ما يلي: (إن النسبية ليست الطريق الصحيح في تناول الأعمال الفنية السينمائية, لأنها إخلال بوظيفة الناقد, وإفساد للفنان نفسه, سواء كان ذلك بالمبالغة في مدحه أو ذمّه). يمكن القول, أيضا, إن للنقد دورا تنويريا, كما جاء في مقدمة وضعها الناقد مدكور ثابت لكتاب (صحافة السينما في مصر, النصف الأول من القرن العشرين) (ضمن سلسلة (ملفات السينما), الصادرة عن (المركز القومي للسينما), وزارة الثقافة. 1996). فهو اعتبر أن هذا الدور التنويري موجّه (إلى دفع حركة صانعي الفيلم أنفسهم, من سينمائيين وفنانين, أو إلى تثقيف الجمهور العريض للسينما, والارتقاء بتذوّقه الجمالي (...)).

عودة إلى الماضي

على سبيل المثال. فإن مجلة (السينما) (التي أصدرها أحمد كامل حفناوي, أسبوعيا, بين يناير 1945 ومارس 1948) قسمت مواضيعها إلى قسمين: جماهيري وتثقيفي, اشتمل الأول على أخبار النجوم والأفلام في مصر وخارجها, وعلى قضايا الساعة, وعلى حوارات مع النجوم أو مقالات بأقلامهم. في حين أن الجانب الثاني ضم مواد عامة, تراوحت بين ما أسماه حفناوي بـ(الأقوال المأثورة والقصص أو قراءات في الفن). وبين (النقد السينمائي والتعريف بعناصر فن السينما وتاريخها وصناعتها. مثل آخر: مجلة (عالم السينما) (صاحب الامتياز جورج منسي, رئيس التحرير حسن جمعة, صدرت منها خمسة أعداد فقط, بين الخامس من سبتمبر والثالث من أكتوبر 1929, علما بأن العدد صفر صدر في السابع عشر من أغسطس 1929): أريد منها أن تكون بداية تأسيس فعلي لـ (صناعة صحافة فنية متخصصة في مصر), في فترة شهدت تلمّس السينما المصرية خطواتها الإنتاجية الأولى. الناقد محمود قاسم رأى أن المشرفين على هذه المجلة (حاولوا جعل الثقافة الراقية شعبية), وسعوا إلى (الاستفادة من السينما كفن شعبي لتحقيق أهدافهم). ففي مقالة غير موقعة, نشرت في العدد صفر, ظهر بوضوح أن هناك رغبة في (رقي المجلة). اعتبر قاسم أن قارئ المقالة يكتشف أن (أفكار (المجلة) ليست عملا أحادي البعد, يهتم بثقافة سينمائية بعينها, محلية أو عالمية, بل هي للسينما, والسينما فن عالمي) (صحافة السينما في مصر), ص182).

هناك, إذن, حاجة ملحة إلى مجلة سينمائية نقدية, تعنى بالفن السابع كنتاج ثقافي وفني وجمالي, وليس كمنبر إعلامي ترويجي, ذي منطق تجاري استهلاكي دعائي لهذا المخرج, أو لتلك الممثلة, أو لذاك المنتج. هنا, لابد من الإشارة إلى أن شركات إنتاج وتوزيع تصدر نشرات إعلامية تروّج لأفلامها. هذا حق طبيعي وشرعي. إنه جزء من سياسة إعلامية متكاملة, تعتمدها الشركات في أنحاء مختلفة من العالم. غير أن هذه النشرات والمطبوعات الإعلامية لا تدخل في سياق البحث النقدي في المجلات السينمائية, التي يفترض بأصحابها أن ينأوا بأنفسهم عن تبعية مالية أو تجارية. ولعل المأزق المالي يشكل السبب الأول والأخطر لتوقف مجلات متخصصة عن الصدور, فما بالك بالنسبة إلى مجلات سينمائية عربية, تصدر في عواصم عربية, تعاني ارتفاعا خطرا في نسبة الأمية والجهل.

الناقد المصري سمير فريد خاض تجربة مهمة, في هذا المجال. ففي العام 1992, أصدر مجلة بعنوان (السينما والتاريخ) (كتاب متخصص غير دوري, يبحث في السينما والتاريخ, وفي تاريخ السينما, يصدر ست مرات في السنة), غاصت في تشعّبات الفن السابع, غربيا وأجنبيا. حاول فريد, قدر المستطاع, أن يستعيد فيها محطّات بارزة في تاريخ السينما, بهدف قراءة تفاصيلها وتحوّلاتها وسياقها الثقافي والفني والفكري والجمالي. فإلى جانب المقالات والدراسات المتنوّعة, التي وضعها نقّاد وباحثون مصريون وعرب, نشرت المجلة وثائق مهمة عن السينما وفيها: مثلا, احتوى العدد الثاني على نص المقالة الأولى عن السينما, التي كتبها السيد حسن جمعة في مجلة (الهلال) (ديسمبر 1929), بعنوان (السينما الناطقة, ماضيها وحاضرها ومستقبلها). هناك, أيضا, اختصار لمقالتين متتاليتين نشرهما جورج سادول في المجلة الفرنسية (الآداب), في مطلع العام 1963, عن مشاركته في حدثين سينمائيين مهمّين أقيما في بيروت: الأول (المهرجان الدولي الأول للأفلام) (18/27 أكتوبر 1962), والثاني طاولة مستديرة نظّمتها وزارة الأنباء اللبنانية, بالتعاون مع منظمة اليونسكو, بعنوان (السينما والثقافة العربية) (29/31 أكتوبر 1962). أما العدد السادس, فاحتوى على مقالة من دون توقيع, نشرتها جريدة (المؤيد) في 12/11/1896, بعنوان (متى ندركهم?), بعد أيام قليلة على العرض السينمائي الأول في الإسكندرية, الذي أقيم في الخامس من نوفمبر من العام نفسه. هناك أيضا أبواب ثابتة: محاورات وذكريات ونصوص (مثلا, رسالة فيلّيني إلى ماسيمو بوتشيني) وغيرها.

أزمة التوزيع

في المقابل, فإن مشكلة أخرى تواجه القارئ العربي, تتلخّص في صعوبة التوزيع. ذلك أن مجلات سينمائية عدّة لا تعثر لها على أسواق عربية, يمكنها من خلالها أن تلتقي أكبر عدد من القرّاء المهتمّين بمعرفة ما يدور في هذا البلد العربي أو ذاك, من نشاطات مختلفة معلّقة بالنتاج السينمائي. فكما هو حاصل على مستوى الغياب شبه المطلق للعروض العربية للأفلام العربية, تعاني المجلات السينمائية النقدية صعوبات جمّة في تجاوز الحدود الجغرافية المقامة بين البلاد العربية. ما يصدر في مصر, مثلا, لا يباع في السوق المغاربية, وما يطبع في بيروت, لا يكاد يصل إلى أبعد من دمشق والقاهرة. ترى, هل تصدر مجلات سينمائية متخصصة في تونس والجزائر والمغرب? في حين أن بعض أصحاب هذه المجلات يواجهون المستحيل, بهدف توسيع شبكة توزيع مجلاتهم في العالم العربي. هذا ما يفعله قصي صالح الدرويش, صاحب مجلة (سينما) ورئيس تحريرها, التي تصدر في العاصمة الفرنسية, وتوزّع في عدد قليل من العواصم العربية, أبرزها بيروت والقاهرة والجزائر. أما (الفن السابع) فكانت تصدر من القاهرة, وتطبع في بيروت, وتوزّع في أكثر من عاصمة عربية وغربية.

أضف إلى ذلك, أن مجلات كثيرة انحرفت عن النقد السينمائي والاهتمام الصحفي النقدي الجدّي بالفن السابع, إلى مجرّد مطبوعات صحافية تحتلّ السينما فيها حيّزا صغيرا, نقدا وحوارات جدّية ومتابعات موضوعية وتحليلية, مفسحة مجالا أوسع لأخبار النجوم والحفلات السينمائية والاجتماعية وتفاصيل الخلافات بين الممثلين والمخرجين والمنتجين, وغيرها من العناوين المفرّغة من النقد السينمائي الجدّي. غير أن بعض هذه المجلات وازن بين الجانبين, النقدي والخبري, في محاولة الجمع بين النخبة والعامة. يذكر, هنا, مثلا, مجلات (فن) (توقفت عن الصدور منذ بضعة أعوام) و(أخبار النجوم).

ماذا عن المجلات السينمائية الجديدة, التي تصدر في القاهرة وباريس?

ثلاث مجلاّت جديدة تسنّى لي الحصول عليها منذ صدور أعدادها الأولى: (سينما) (بدءا من يوليو 2000), (نظرة) (تعنى بشئون السينما المستقلّة, وتصدر عن جمعية (سينمائيون مستقلّون للإنتاج والتوزيع) - سمات. العدد الأول ربيع 2002) و(السينما الجديدة) (عن (جمعية نقّاد السينما المصريين), العدد الأول مارس 2002).

(سينما).. الهموم الفنية كلّها

لم تلتزم (سينما) هموم السينما العربية وحدها, بل وسّعت دائرة اهتمامها النقدي, لتشمل أيضا شئون الفن السابع الغربي وشجونه. ففي افتتاحية العدد الأول, كتب قصي صالح الدرويش أن البحث عن الصنيع الفني المتميّز يحصل في إطار التعامل (بجدية مع الفكر السينمائي, لتنير تضاريسه وآفاقه الرحبة, وتفتح فضاءات جديدة أمام الحرية والإبداع والتذوق). مضيفا أن ذلك كله يتم (من دون أن تتحول هذه الجدية إلى جيتو نظري للمثقفين, وأن تعزل نفسها عن باقي فاعليات الفن السينمائي, من نشاط اقتصادي, وأخبار ومشاريع واهتمام بالنجوم). لعل المشكلة الأولى تكمن في عجز المجلة عن الصدور في موعد ثابت. هذا عائد إلى غياب التمويل, مما يدفع بصاحب المجلة إلى البحث, بعد صدور كل عدد, عن مصدر ما لتمويل إصدار العدد التالي. إن غياب الصدور المنتظم يسيء إلى المجلة, ويعرض مشروعها النقدي إلى تجاهل شبه تام من القراء, ويسبب شرخا في العلاقة بينها وبينهم. لم يمنع عدم الصدور المنتظم أصحاب المجلة من تقديم أعداد تميز بعضها بملفات تناولت مواضيع وقضايا متنوعة, شارك فيها نقاد عرب عالجوا المادة من جوانبها المختلفة. كما تميز هذا البعض بنشر حوارات مطولة مع نجوم أو مخرجين, لتقديم صورة لا تخلو من بعض التفاصيل الحياتية والفكرية والمهنية. هناك المقالات المختلفة, التي بدت, في الأعداد الأخيرة, غير مترابطة في سياق نقدي واحد يعكس هوية المجلة, وأهدافها وثوابتها, بقدر ما عاينت النتاج السينمائي, من خلال قراءات متفرقة وخاصة بهذا الناقد أو ذاك, لهذا الفيلم أو ذاك.

من ناحية أخرى, أفردت المجلة زاوية خاصة بصور لمشاهد مختارة من أفلام قديمة, مع تعليق تاريخي تحليلي مختصر, أو لملصق ما ساهم فيلمه في إحداث حركة نقدية أو جماهيرية عند إطلاق عروضه الجماهيرية. غير أن هذه التنويعات كلها سرعان ما سقطت في غياب الميزانية المتلائمة مع مشروع صحافي نقدي كهذا, مما أدى إلى شيء من الفوضى في الصدور والملفات والمواضيع. مع هذا, تبقى (سينما) واحدة من المجلات المطلوب دعمها, معنويا وإبداعيا وماليا, كي تستعيد نفسها الأول, وتمارس حقها النقدي في القراءة والتحليل.

نظرة مستقلة

مجلة (نظرة) لا تخرج على الإطار النظري الخاص بجمعية سينمائية مصرية, أعلنت رغبتها في خلق مسافة إبداعية وثقافية, بعيدا عن سطوة الاستوديوهات والشركات الكبيرة. في دردشة خاصة أجريتها مع هلا جلال, وهي واحدة من المسئولين في جمعية (سينمائيون مستقلون للإنتاج والتوزيع). قالت المخرجة الشابّة إن تأسيس الجمعية نشأ من تضافر جهود (مجموعة من الأصدقاء التقت عند مرجعيات مشتركة, منها أن غالبية هؤلاء درست السينما, واشتغلت في التلفزيون أو في المركز القومي للسينما, وأنجزت أفلاما تجارية وأشرطة إعلانية وغيرها. هؤلاء عانوا همّا واحدا, ووجدوا أنفسهم في مأزق متشابه: (لم يعثر أحد منا على مكان له في المؤسسة الرسمية, أي في السينما الحالية. ليس بمعنى الحصول على فرصة عمل, إذ إن فرصا كهذه كثيرة ومتوافرة دائما, بل بمعنى عدم قدرتك على إنجاز أفلام مختلفة, تخاطب جمهورا مختلفا, وتقدم أنماطا مختلفة, وترسم شخصيات مختلفة. ليس سهلا عليك أن تفعل هذا كله في جو طغى عليه البعد التجاري المحض, علما بأن السينما التجارية هذه اعتمدت على التنميط, واستعانت بأشكال شبه ثابتة, تؤمن لأصحابها إيرادات عالية). أضافت هلا جلال: (ما دفعنا إلى تشكيل المجموعة, إيماننا بالتغيير الذي يمكن أن يحققه صنّاع الأفلام. هذا ما حدث في العالم, عندما ظهرت تيارات فنية جديدة, بفضل المخرج أو الكاتب. التقينا, أيضا, على ضرورة أن نتحرك بدل أن ننتظر).

التحرك أدى إلى تأسيس جمعية تعنى بشئون السينما المستقلة, أصدرت مجلة متخصصة في المجال نفسه. ففي مقدمة العدد الأول, جاء أن (الطفرات الكبيرة في صناعة السينما المصرية, قام بها أفراد مستقلون مغامرون, مدفوعون بحب السينما, وليس (بهدف) إقامة مشروع تجاري). طبعا, يستحيل البحث في مدى قدرة المجلة على ترجمة اهتمام الجمعية, إذ إن عددا واحدا لا يكفي لتبيان دلالاته وعلاقة نقاشه النقدي بالواقع السينمائي. غير أن العناوين التي احتواها, تشي برغبة صادقة في طرح أسئلة السينما والشباب والعلاقات المختلفة بالواقع والمجتمع والفرد والذاكرة. في الملف, حكاية السينما المستقلة في مصر, كشفت أن طلعت حرب لم يكن وحده مؤسس (استديو مصر). في حين أن حوار العدد كان مع المخرج يسري نصر الله, الذي اعتبر أن (الحديث عن السينما المستقلة بدأ عندما أصبحت هناك مؤسسة ضخمة لصناعة السينما, لها آلياتها الاقتصادية, وأعرافها, ونظام النجوم الخاص بها. ثم جاء من يقول بالخروج على هذا النظام, وإيجاد مصادر تمويل خاصة, ونظم مختلفة للتوزيع. تجعله بعيدا عن شروط المؤسسة الكبرى). إلى جانب مجموعة من المقالات والمعلومات والمعطيات النقدية, التي تمحورت حول أعمال سينمائية أنجزها شبان مصريون, رفضوا الخضوع للنظام السينمائي القائم.

على الرغم من ذلك كله, أعتقد أن مجلة (نظرة) حاجة ملحة: إنها من إنجاز مجموعة من السينمائيين والصحفيين الشباب. إنها من نتاج فكر سينمائي يسعى إلى الاستقلال الفعلي, وليس فقط النظري, عن المؤسسة السينمائية القائمة. إنها محاولة لفهم موقع الشباب في المشهد السينمائي. إنها منبر للتواصل بين الشباب والذاكرة السينمائية. لكن, هل تستطيع هذه المجلة أن تستمر في الصدور? وأن تحافظ على استقلاليتها? وأن تواجه أباطرة الشركات الكبرى, والأسماء النقدية والصحفية المكرّسة?

منبر مختلف للنقاد

بعض الملاحظات السابقة تندرج في إطار القراءة الأولى لمجلة (السينما الجديدة). ذلك أن (جمعية نقاد السينما المصريين) ارتأت تأسيس منبر صحفي ونقدي, يعكس توجهاتها, ويعلن بحثها الدءوب عن أشكال جديدة للقراءة النقدية, ثم إن حصولي على عدد واحد (علمت أن أعدادا خمسة صدرت في الأشهر القليلة الفائتة) لا يسمح لي بتحليل المضمون النقدي, ومع هذا, أرى أن للنقاد حقا في حيّز خاص بهم, يجعلونه مرآة لبعض الهموم النقدية.

رئيس التحرير أمير العمري كتب في افتتاحية العدد الأول, أن (السينما الجديدة) تصدر بهدف (رد الاعتبار, أولا وأساسا, إلى الكتــــابة الجادّة عن السينما: في القضـــــايا السينــــمائية, وفي النمـــــاذج السينمائية الرفيعة, في الحاضر والماضي, في محاولة لاستشراف آفاق المستـــــقبل بعـــيون مفتوحة, تستلهم من التجارب المتــقــــدمة في عصرنا, تتعــــامل مع ما ينتج في السينما المصرية من أفلام بدقة وتدقيق, بــــعيدا عــــن الشعــــارات والهتــافات والدعوة إلى التدجين, التي تسري في الصحافة عموما).

لا داعي لإعادة نشر مقتطفات من المقدمة. فالناقد العمري أراد مجلة الجمعية منبرا حقيقيا لكل ما هو جديد, خصوصا بالنسبة إلى الكتابة النقدية. فـ (السينما الجديدة) مجلة (للأقلام الجديدة التي لا تجد لها مكانا في سوق عكاظ الصحفية السائدة). غير أن المواضيع المنشورة في العدد الأول لا تشي بتطوير لغة القراءة, أو بأسلوب الكتابة, أو بكيفية المعاينة. مع هذا - أكرر للمرة الألف - ربما أن عددا واحدا لا يكفي لإصدار الأحكام.

خلاصة

ما الذي دفعني إلى اختيار مجلات سينمائية جديدة, مع أني لم أحصل إلا على عدد واحد من بعضها? المسألة برمتها تكمن في رغبة شخصية في تقديم نماذج حية من حركة نقدية مصرية, في الدرجة الأولى, علما بأن هذه المجلات تفرد حيزا لا بأس به أمام النتاج السينمائي العربي والغربي. إن المعاينة الأولى لهذه المجلات, على ضوء أمثلة قديمة, أتاحت التنبه إلى ضرورة البحث عن مصادر ثقافية وفنية قادرة على دعم تجارب كهذه, وعلى حمايتها من خطر الانزلاق في فخ التبعية الاستهلاكية والتجارية

نديم جرجورة مجلة العربي ديسمبر 2002

تقييم المقال: 1 ... 10

info@3rbi.info 2016