وثيقة الإصلاح التي طرحتها القمة العربية في مؤتمرها الأخير في تونس... هل كانت صادقة النوايا, أم مجرد مناورة سياسية تحمل في داخلها مبررات النكوص ونوايا التراجع؟
أودّ, بادئ ذي بدء, إبداء الملاحظتين التاليتين:
أ- الملاحظة الأولى ذات طابع منهجي, ذلك أنني أقرأ في هذا النص قراءة نقديّة الفقرات المتصلة بالتطور السياسي, والإصلاح الديمقراطي الواردة في الوثائق الرسميّة الصادرة عن القمة العربيّة العادية السادسة عشرة المنعقدة بتونس في شهر مايو 2004, وهذه الوثائق هي:
- مسيرة التطور والتحديث في الوطن العربي.
- وثيقة العهد.
- تحديث الميثاق العربي لحقوق الإنسان.
- إعلان تونس.
- البيان الختامي.
ب - أقف في هذه النصوص عند المفاهيم ذات المحتوى السياسي, التي تمت بصلة متينة إلى قضايا الإصلاح الديمقراطي في العالم العربي, وهي أساسا: مفهوم التطوّر السياسي, ومفهوم الديمقراطيّة, ومفهوم الحرية, ومفهوما المجتمع المدني, وحقوق الإنسان.
وسأنزّل هذه الوثائق فيما بعد في زمانها السياسي عربيا ودوليا, مبديا الرأي فيما اتسمت به من تعميم, ومن تقييد مقصود أفرغ هذه المفاهيم في كثير من الحالات من محتواها الحقيقي.
وردت في توطئة وثيقة (مسيرة التطور والتحديث في الوطن العربي) الإشارة إلى العزم على المزيد (من التقدّم في مسيرة التطوّر السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والتربوي في بلداننا, ومن مرتكزاتنا الثقافيّة والدينيّة, ومراعاة لوتيرة التغيّرات الجارية في مجتمعاتنا), كما تمت الإشارة في وثيقة (إعلان تونس) إلى العمل من أجل توسيع المشاركة في المجال السياسي, والشأن العام.
نلاحظ في الفقرة الأولى ربط التقدم في مسيرة التطوّر السياسي بالمرتكزات الثقافية, والدينيّة, أي بالخصوصيّة الثقافية والدينيّة, وكذلك بضرورة مراعاة وتيرة التغيّرات الجاريّة في المجتمعات العربيّة.
وحرص مهندسو وثيقة مسيرة التطوير والتحديث على تأكيد المعاني نفسها في الفقرة الأولى منها لما أعلنوا أن مواصلة مسيرة التطوّير في المجالات السياسيّة في الدول العربيّة مرتبطة (بما يتفق مع قيمها ومفاهيمها الثقافية والدينيّة والحضاريّة, وظروف كل دولة وإمكاناتها).
إن هذه القيود تفتح الباب على مصراعيه أمام التبرير, ومناورات التنصل من إصلاح سياسي ديمقراطي حقيقي بحجة أن هذه المسألة, من مسائل الإصلاح الديمقراطي, أو تلك تتناقض مع خصوصيتنا الثقافية والدينيّة, أو لاتتماشى مع وتيرة التغيّرات الجارية في أقطارنا, وتعكس الفقرات المذكورة الخطاب الرسمي في كثير من البلدان العربيّة.
أما المفهوم الثاني فهو مفهوم الديمقراطيّة, وقد تمّت الإشارة إليه مرّتين في وثيقة مسيرة التطوير, وأكّد عليه إعلان تونس, مبرزا ضرورة مواصلة الإصلاح والتحديث من خلال تعزيز الممارسة الديمقراطيّة.
بين الديمقراطية والشورى
وأرى أن هذا المفهوم قد فقد محتواه, ودلالته السياسيّة لما قرنته وثيقة مسيرة التطوير بمفهوم الشورى, فهما مفهومان مختلفان, فمفهوم الديمقراطيّة مفهوم حداثي دنيوي تحوّل مع مرور الزمن والممارسة المتنوّعة إلى مفهوم كوني, أما الشورى فهو مفهوم تراثي ماضوي مرتبط بنص ديني لم يعرفه المجتمع العربي الإسلامي في عالم الممارسة اليوميّة إلاّ في سنوات معدودات, وبخاصة في المرحلة العمريّة من عصر الخلفاء الراشدين, وسرعان ما أفرغه فيما بعد الفقهاء, وكتّاب الأحكام السلطانيّة من محتواه لما نظّروا للشورى غير الملزمة فقبروا بذلك - استجابة لرغبة أصحاب السلطة - الومضات المشرقة التي عرفها مفهوم الشورى أيام خلافة عمر بن الخطاب.
أما مفهوم الحرّية فإنه يرد في الوثيقة الأساسيّة من وثائق القمة, وثيقة مسيرة التطوير والتحديث مرّة واحدة محصورا في مفهوم (حريّة التعبير), ولكن المفهوم يتسع في وثيقة إعلان تونس ليشمل (تعزيز حرية التعبير, والفكر, والمعتقد), ولكن القارئ لهذه النصوص يلمس في يسر قلق محرّريها من مفهوم (حرّية التعبير) فأسرعوا إلى تقييده بنعت شائع في الخطاب الرسمي العربي ليصبح (حرية التعبير المسئول). إنه من الغريب أن تنص وثيقة تطوير وتحديث على العزم على تحقيق مزيد من التقدّم في مسيرة البناء والممارسة الديمقراطيّة, وتتجاهل في الوقت ذاته الحديث عن مفهوم الحريات العامة, وضمنه تندرج حرّيّة التّعبير, وحريّة الفكر, وحريّة المعتقد, وحريّة النشر, وحريّة التنظيم السياسي والنقابي والجمعياتي, وحريّة الإضراب, وحريّة السفر, وأخيرا وليس آخرًا الحريّة الشخصيّة, وهي لبّ الحريات العامة.
إنّ مدلول مفهوم الحريّة, ومجالات ممارسة المواطن العربي لها قد ورد في وثائق القمة, وفي مطلع الألفيّة الثالثة دون مستوى مفهوم الحريّة الذي تحدث عنه أحد رواد الحركات الإصلاحيّة العربيّة الإسلاميّة المصلح التونسي خير الدين في كتابه (أقوم المسالك) لما أدرك عبر تجربة التنظير والممارسة أنه لا أمل في الإصلاح الحقيقي من دون إطلاق الحريات العامة فأسهب في الحديث عنها, واعتبرها تمثل الدعامة الصلبة لما عرفه المجتمع الأوربي من حداثة وتقدّم, وربط الحريات العامة برسالة البرلمان في الاحتساب على الدولة حسب تعبيره أي مراقبة السلطة التنفيذية.
وهناك مفهومان تمّ الإلماع إليهما بسرعة في نصوص القمّة, المفهوم الأول (الحكم الرشيد), وقد ورد مرّة وحيدة في وثيقة مسيرة التطوير والتحديث مقترنا بالحديث عن وضع استراتيجيّة عربيّة شاملة للتنمية الاقتصاديّة والاجتماعيّة والبشريّة, ومما يلفت النظر في هذا الصّدد أنّ الحديث عن قيام حكم رشيد لم يرد في سياق الحديث عن الإصلاح السياسي والديمقراطي, وهذا يعني في نظرهم أنه يمكن قيام حكم رشيد دون إصلاح ديمقراطي عميق يضمن التداول على السلطة, ويضمن بشكل خاص مراقبتها عبر مؤسسات ديمقراطيّة تحظى بتمثيل حقيقي.
أما المفهوم الثاني فهو (الاستعمار), وقد ورد في سياق دعم الجهود الذاتيّة لشعوب المنطقة نحو التغلّب على التحديات الماثلة, وتجاوز التداعيات الناجمة عن عهود الاستعمار, وهي تداعيات موضوعيّة لا ينكرها أحد, ولكن هنالك تداعيات أخرى صمتت عنها وثيقة مسيرة التطوير والتحديث, وأعني تلك الناجمة عن طبيعة النظم الاستبداديّة التي عرفها العالم العربي منذ ميلاد الدولة الوطنيّة حتى اليوم, أي طيلة النصف الثاني من القرن العشرين, وقد أسهمت, - ولاتزال - إلى حدّ كبير في إعاقة مسيرة التحديث, بل أدت في كثير من الحالات إلى التردّي والانتكاس. هناك مفهوم آخر خطير الشأن لعلاقته الوطيدة بالإصلاح الديمقراطي, وقد جاء بدوره مضطربا وغامضا, وأعني مفهوم (المنظمات غير الحكوميّة), فقد ذهب نص وثيقة المسيرة إلى تأييد الجهود والمبادرات العربيّة الإيجابية بمساهمة المنظمات غير الحكوميّة قصد الارتقاء بجهود التطوير والتحديث, ويتحوّل المفهوم في وثيقة إعلان تونس إلى تعزيز دور مكونات المجتمع المدني في بلورة معالم مجتمع الغد, والبون شاسع بين مفهوم المنظمات غير الحكوميّة, ومفهوم المجتمع المدني, فالمنظمات غير الحكوميّة تنصهر غالبا ضمن مفهوم المجتمع المدني, ولكن ليس كلّ المنظمات غير الحكوميّة تعبّر عن مفهوم المجتمع المدني, ومميزاته.
السلطة العربيّة تتوجس خيفة من مفهوم المجتمع المدني وتراه في جلّ الأحيان معارضا لها, وهذا ليس صحيحا, فالمجتمع المدني ليس نقيضا للسلطة, ومعاديا لها, بل يمكن أن يكون رافدا لها, ومساعدا على تسيير شئون المجتمع بشرط أن تكون سلطة عادلة تحترم حقوق المواطن, وتقوم على مؤسسات دستوريّة حقيقيّة, ولكنها إذا كانت سلطة قامعة فإن قوى المجتمع تتحول إلى نصل ناجع في مقاومتها, والإطاحة بها.
ألاحظ في هذا الصدد أن وثيقة (تحديث الميثاق العربي لحقوق الإنسان) تنص على (إعداد الأجيال في الدول العربيّة لحياة حرّة مسئولة في مجتمع مدني متضامن). قوى المجتمع المدني ليست دائما متضامنة قد تكون أحيانا متناقضة ومتصارعة.
وهنالك مفهوم آخر له علاقة مباشرة ومتينة بما ورد في وثائق القمة من مفاهيم سياسيّة تمثل الدعامة الصلبة في مشروعات الإصلاح الديمقراطي, وأعني مفهوم حقوق الإنسان, وقد ألمحت إليه مرتين وثيقة مسيرة التطوير لما تحدثت عن ضرورة تعزيز (مسيرة البناء والممارسة الديمقراطيّة, وحماية حقوق الإنسان العربي, والحفاظ عليها, وترسيخ ممارساتها), ثم ربطت في فقرة تالية بين (احترام حقوق الإنسان وحرية التعبير وفقا لما جاء في مختلف العهود والمواثيق الدوليّة, والميثاق العربي لحقوق الإنسان), ثم جاء إعلان تونس مؤكّدا تعلّق الدول العربيّة (بالمبادئ الإنسانيّة, والقيم السامية لحقوق الإنسان في أبعادها الشاملة والمتكاملة).
الميثاق العربي
أجلت الحديث عن مفهوم حقوق الإنسان إلى نهاية القراءة النقديّة لما جاء في الوثائق الرسميّة الصادرة عن القمة العربيّة السادسة عشرة لأتحدث عنه انطلاقا من وثيقة ثرية وخطيرة الشأن, وأعتبرها أبرز ما صدر عن قمة تونس, وأعني وثيقة (تحديث الميثاق العربي لحقوق الإنسان), وسأكتفي بالتلميح إلى ما احتوته من مفاهيم في مجال حقوق الإنسان العربي السياسيّة, فهي تقرّ بالارتباط الوثيق بين حقوق الإنسان والسلم والأمن العالميين, ذلك أن حقوق الإنسان تنتهك أيام الحرب, أو عندما تعم ظاهرة الفوضى والعنف, كما تبرهن على ذلك اليوم كثير من الأوضاع العربيّة, وغيرها من الأوضاع في العالم.
وتؤكد المادة الرابعة والعشرون من الميثاق الحق في حريّة الممارسة السياسيّة, وفي المشاركة في إدارة الشئون العامة إما مباشرة, أو بواسطة ممثلين يختارون بحريّة, وتنص على الحق في طلب اللجوء السياسي إلى بلد آخر هربًا من الاضطهاد, كما لا يجوز تسليم اللاجئين السياسيين, ويضمن الميثاق (الحق في الإعلام, وحريّة الرأي والتعبير, وكذلك الحق في انتقاء الأنباء والأفكار, وتلقيها ونقلها إلى الآخرين بأي وسيلة, ودونما اعتبار للحدود الجغرافيّة).
وتنص على حق كل مواطن في حريّة الفكر والعقيدة والدين, ولا يجوز فرض أي قيود عليها إلاّ بما ينص عليه التشريع النافذ, (وتعمل الدول الأطراف على دمج مبادئ حقوق الإنسان والحريات الأساسيّة في المناهج والأنشطة التعليميّة, وبرامج التربية والتكوين والتدريب الرسميّة وغير الرسميّة).
وأودّ في هذا الصدد إبداء الملاحظتين التاليتين:
أوّلا: يقف القارئ لنص الميثاق على قيد يتكرّر في نهاية مواد أساسيّة فيه يتمثل في الجملة التالية: يحق للمواطن العربي كذا وكذا (ما لم تحتم دواعي الأمن الوطني خلاف ذلك), ولا غرابة في ذلك, فالفكر السياسي العربي الراهن تسيطر عليه هواجس الأمن بالدرجة الأولى.
ثانيا: وضع الميثاق (في إطار الهويّة الوطنيّة للدول العربيّة), وهذا يتناقض في نظرنا مع الفقرة الرابعة من المادة الأولى التي تنص على (ترسيخ المبدأ القاضي بأن جميع حقوق الإنسان عالميّة, وغير قابلة للتجزئة, ومترابطة ومتشابكة), ذلك أنّ مفهوم عالميّة حقوق الإنسان قد يعطل, أو يقيد بحجة الهويّة الوطنيّة, شأنه في ذلك شأن مفهوم الديمقراطيّة الذي قد يفرغ من محتواه الفكري والسياسي بحجّة الخصوصيّة الثقافيّة.
إنني أذهب إلى القول: إن الفقرة الأولى من المادة الثالثة, والتي تنص على أن كل دولة طرف في هذا الميثاق (تكفل لكل شخص خاضع لولايتها حق التمتع بالحقوق والحريات المنصوص عليها في هذا الميثاق دون تمييز بسبب العرق, أو اللون, أو الجنس, أو اللغة, أو المعتقد الديني, أو الرأي, أو الفكر, أو الأصل الوطني, أو الاجتماعي, أو الثروة, أو الميلاد, أو الإعاقة البدنيّة أو العقليّة). هذه الفقرة من أبرز ما نص عليه الميثاق, وحري بقوى المجتمع المدني العربي أن تتمسك بها, وتناضل من أجل تطبيقها, فالوثيقة تلتقي في جوهرها مع المعاهدات الدوليّة, وستمثّل نقلة نوعيّة في الحياة السياسيّة العربيّة لو تصدق النظم العربيّة القائمة في احترامها وتطبيقها, ولكن هيهات, فالمشكلة الكبرى في العالم العربي كانت, ولاتزال, مشكلة تطبيق وممارسة, وليست مشكلة نصوص, فقد جاءت النصوص ضامنة لكثير من الحقوق, ومتأثرة بقيم الحداثة, وتجربة النظم الدستوريّة في الغرب بدءا بعهد الأمان في تونس, وإعلان الدستور العثماني أيام السلطان عبد الحميد الثاني, ووصولا إلى دساتير كثير من الدول العربيّة التي وضعت غداة استقلالها, وكفلت كثير من فصولها الحريات العامة, ولكنها بقيت حبرا على ورق, أو ألغيت تماما, وعوضتها دساتير وقتية, أو قوانين الطوارئ, وليس من المبالغة القول هنا: إن العالم العربي يمثل اليوم حالة نادرة, أو يكاد في هذا المجال.
ملاحظات نقدية
وقد آن الأوان أن أختم هذه القراءة النقديّة بالملاحظات التالية:
أوّلا: راج الحديث منذ مدة عن مشروعات إصلاح هياكل الجامعة العربيّة, وتحديث ميثاقها, ولكن لم نسمع عن مشروع تتبناه الجامعة باسم الدول الأعضاء يعالج إشكالية التحديث السياسي, والإصلاح الديمقراطي في البلدان العربيّة إلاّ هذه السنة, وهنا يطرح السؤال التالي نفسه:
هل حدث ذلك صدفة? وهل تفطنت النظم العربيّة بين عشية وضحاها أن بلدانها في حاجة ملحة إلى مسيرة تطوير وتحديث, وأن أوضاعها السياسيّة كانت في الأعوام الماضية على أحسن ما يرام, وهي بالتالي لا تحتاج إلى مشروعات إصلاحيّة?!
إنه من الطبيعي أن تطرح هذه الأسئلة عندما ينزل المتابع للشئون العربيّة وثيقة مسيرة التطوير والتحديث في زمانها السياسي العربي والدولي, فهل من الصدفة أن تعقد النّدوات عن قضايا الإصلاح في الوطن العربي, وأن تتحدّث الجامعة العربيّة في وثائقها الرسميّة عن التطوير السياسي, وعن الحريات, والديمقراطيّة وهي مفاهيم لم تعرف طريقها إلى أدبيات الجامعة العربيّة طوال عمرها المديد, فهل من الصدفة أن يحدث ذلك عام 2004, وبعد أن تهاطلت على المنطقة العربيّة مشروعات الإصلاح من الخارج, وبعد أن أعلنت الولايات المتحدة الأمريكيّة أن وجودها في العراق سيكون بداية لعصر جديد تنعم فيه الشعوب العربيّة بنعم الديمقراطيّة, وسيقدم العراق النموذج الأمثل للنظام الديمقراطي في المنطقة?
لا يصدق السذج خرافة الصدفة فضلا عن العارفين بما في الزوايا من خبايا, واستبشر المواطن العربي رغم ذلك خيرا لما طبّل الإعلام العربي الرسمي لمقولة (بيدي لا بيد عمرو) غير مدرك أن يد عمرو هي التي تحرّك في جلّ الحالات الأيدي الأخرى في المنطقة العربيّة. يقتضي المثل العربي (بيدي لا بيد عمرو) حين تصدق النوايا, وتكون هناك إرادة حرّة حقيقيّة لمواجهة التحديات المطروحة, والتصدّي لسياسة الإملاء الخارجي رصّ الصفوف الداخليّة بتعبئة قوى المجتمع المدني ذودا عن حريّة القرار الوطني, وذلك بفتح حوار صادق وجريء حول القضايا الكبرى المطروحة في هذا البلد العربي, أو ذاك, تسهم فيه جميع القوى الوطنيّة دون إقصاء أو تهميش. لم يحدث ذلك لا قبل تبنّي وثيقة مسيرة التطوير والتحديث, ولا بعده, فقد وضعت إذن لتعلن النظم العربيّة الرسميّة للعالم أن لها مشروعها الخاص, وقد حرصت على أن تؤكد أن تحقيق تقدم المجتمعات العربيّة نابع (من إرادتها الحرّة), وجاء البيان الختامي ليقول: إن (بيان مسيرة التطوير والتحديث في الوطن العربي) حدّد (الرؤية العربيّة لمبادئ هذه المسيرة وأهدافها). إن تحديد الرؤية العربيّة لمبادئ الإصلاح الديمقراطي وأهدافه لا يتمّ عبر الأجهزة الرسميّة وحدها, بل لابدّ من إسهام جميع القوى الحيّة في الوطن العربي, وقد أضاعت النظم العربيّة هذه الفرصة, ذلك أن المواطن العربي لم يعر اهتماما يذكر لما صدر عن القمة, إذ رأى أنّ الإصلاح المعلن لا يتجاوز العملية الشكليّة, وأن اللبّ, أي الإصلاح السياسي سيبقى هدفًا بعيد المنال نتيجة طبيعة السلطة السياسيّة القائمة اليوم في جلّ الأقطار العربيّة.
ثانيا: إن الحديث عن الوثائق الصادرة عن القمة العربيّة يفضي حتما إلى الحديث عن مشروعات الإصلاح الأخرى, وسأبدأ بتقرير ندوة (دور المجتمع المدني في تطوير جامعة الدول العربيّة في ضوء التحدّيات الإقليميّة والدولية الراهنة), وقد نظمها بتونس المعهد العربي لحقوق الإنسان, وشبكة المنظمات العربية غير الحكومية للتنمية في نهاية مارس 2004. ركز التقرير على خطورة رسالة المجتمع المدني لتحقيق مشروعات التحديث والإصلاح الديمقراطي في المنطقة العربية, وإن برامج التنمية الإنسانية الشاملة التي تبشر بها كثير من النظم العربية لا يمكن أن تتحقق إلا إذا أسست على دعامتي الديمقراطية وحقوق الإنسان, معترفا في الوقت ذاته بالعوائق التي تحد من تأثير المجتمع المدني في التغيير, والإصلاح الديمقراطي في الأقطار العربية, وأود التلميح في هذا الصدد إلى أن مفهوم المجتمع المدني كما نشأ في عقر داره: المجتمع الغربي, مازال جديدا في أدبيات الفكر السياسي العربي, ويكتنفه كثير من الغموض, وهو مفهوم يدعو إلى الريبة في أوساط النظم العربية, ومن هنا جاء حرص الوثيقة على إبراز رسالة المجتمع المدني, وعلى ضرورة تعاون الجامعة العربية مع منظمات المجتمع المدني العربية لتحقيق مشاريع التحديث والإصلاح, فالمجتمع المدني ليس معاديا للسلطة السياسية, بل هو مساعد لها إذا كانت صادقة وجادة في تنفيذ برامجها الإصلاحية.
وثيقة الإسكندرية
أفرد التقرير فقرة خاصة للإصلاح السياسي العام, مبرزا مفاهيم حقوق الإنسان والديمقراطيّة, ومفهوم التنمية الشاملة التي تقوم على مبادئ المساواة والعدالة, ولكنه صمت عن قضية الحريات العامة في الوطن العربي, وهي تمثل المدخل الأساسي للإصلاح الديمقراطي, وستبقى الديمقراطية, وحقوق الإنسان مفهومين مجرّدين تستغلهما السلطة السياسيّة, وتتغنّى بهما النخبة إن لم تكسب قوى المجتمع المدني العربيّة معركة الحريات العامة, وقبل اجتماع تونس بأسبوعين التأمت في مكتبة الإسكندرية (12 - 14/3/2004) ندوة كبيرة شارك فيها عدد من المثقفين العرب, وأصدروا وثيقة اعتبرت في اجتماع سياسي رسمي عربي أمريكي بواشنطن مرجعا وحجة على أن للعرب مشروعاتهم الإصلاحيّة الخاصة بهم, وأن مشروع الشرق الأوسط الكبير ليس المشروع الإصلاحي الوحيد المطروح على الساحة العربيّة, بل هناك وثيقة الإسكندريّة, وليس من المبالغة القول في هذا الصدد: إن هذه الوثيقة تعد أبرز وأنضج مشروع إصلاحي ديمقراطي عربي صدر حتى الآن, وتستطيع أن تفخر بها اليوم النخبة المثقفة العربيّة, ومن المؤسف أن تأتي بعدها وثيقة (مسيرة التطوير والتحديث في الوطن العربي) الصادرة عن القمة العربيّة مسخا وتشويها لها, وبخاصة في جزئها السياسي, وهو الجزء الأشجع والأشمل في وثيقة الإسكندريّة, فقد أكّدت على ضرورة تجديد أشكال الحكم بما يضمن تداول السلطة بالطرق السّلميّة دوريّا, وأكّدت أن الدولة الحديثة دولة مؤسسات, ونصوص, وليست نيات حسنة, كما طالبت بإقامة انتخابات دوريّة حرّة تصون الممارسة الديمقراطية, وتضمن عدم احتكار السلطة, وتضع سقفا زمنيا لتولّي الحكم, كما طالبت بتحرير الصحافة, ووسائل الإعلام من التأثيرات والهيمنة الحكوميّة, ذلك أن هذا التحرير دعامة قوية من دعائم النظام الديمقراطي, والتجسيد الواضح لحريّة التعبير.
أما الإصلاح السياسي والديمقراطي المملى من الخارج فقد تبناه مشروعان: مشروع تكثيف التعاون بين الاتحاد الأوربي والشركاء المتوسطيين في مجال الديمقراطيّة وحقوق الإنسان, ومشروع الشرق الأوسط الكبير, وقد اعتمدا اعتمادا كبيرا على تقرير التنمية البشرية العربيّة لعامي 2002 و2003 وهما المشروعان اللذان أسالا حبرا غزيرا في وسائل الإعلام العربيّة, وحركا السواكن في الأوساط الرسميّة العربيّة, وكذلك ضمن مكونات المجتمع المدني.
تفريغ المحتوى
ثالثا: لابدّ أن تسعى قوى المجتمع المدني في البلدان العربيّة جاهدة من أجل الدفاع عن كونية بعض المفاهيم السياسيّة مثل مفهوم الديمقراطيّة, والحريّة, وحقوق الإنسان, وأن أي محاولة لتقييدها باسم الهويّة, أو الخصوصيّة الثقافيّة, أو معطيات محليّة معينة تعني إفراغها من محتواها الحقيقي, وتحويلها إلى شعارات يتزيّن بها الخطاب الرسمي العربي.
رابعا: تتحدث وثيقة الشرق الأوسط الكبير بإسهاب عن ظاهرة الفساد المستشرية في العالم العربي اعتمادا على تقرير التنمية العربيّة, وتشير إليها وثيقة الإسكندريّة باحتشام في جزئها الاقتصادي لما طالبت بإرساء قواعد الحكم الجيّد للنشاط الاقتصادي مع تأكيد الشفافيّة والمحاسبة, وصمتت عن الفساد السياسي, أما وثيقة مسيرة التطوير والتحديث فلم تشر إلى الظاهرة لا من قريب, ولا من بعيد, وكأنّها منعدمة في الساحة العربيّة في الوقت الذي تغرق فيه بعض النظم العربيّة إلى الأذقان في مستنقع الفساد السياسي والاقتصادي.
إن ظاهرة الفساد تمثل عائقا أساسيّا, وخطير التأثير من عوائق التحديث السياسي, والإصلاح الديمقراطي.
خامسا: لا أستطيع أن أنهي هذا النص دون التلميح إلى قلق سيطر علي, وأنا أقرأ مشروعات الإصلاح العربيّة الرسميّة منها, وغير الرسميّة, ذلك أنها توحي بأن النداء من أجل الإصلاح قد برز فجأة, وجاء نتيجة مشروع الشرق الأوسط الكبير. إن للمشروعات العربيّة من أجل الإصلاح السياسي, ومقاومة فساد السلطة السياسيّة تراثا عريقا بدأ في العصر الحديث مع الثورة العرابيّة, واستمر عبر الأجيال حتى الانتفاضة الشعبيّة الثانية في الأراضي المحتلّة, ودفع رواد الحركات الإصلاحيّة, وفئات متعاقبة من القوى الحيّة في المجتمع العربي ثمنًا باهظًا في سبيل مطالبتها بالإصلاح الديمقراطي, كما أن التجارب المعاصرة العربيّة والعالميّة قد برهنت في جلاء أنه لا حداثة حقيقيّة من دون تحديث سياسي.