عادة ما ننظر إلى النباتات ككائنات ذات قدرات محدودة للغاية. وأغلبنا ينظر بعين الشك إلى أولئك الذين يدّعون أن التحدث إلى نباتاتهم المنزلية يجعلها تنمو بسرعة أكبر. لكن الأبحاث الحديثة تظهر لنا صورة مختلفة تماما للنبات, فمن المعتقد الآن أن النباتات تمتلك بعض القدرة على أن ترى, وتحس, وتتذوق ما يجري حولها!
يعتقد بعض الباحثين أن القدرات المكتشفة حديثا للنبات تشكل الأساس لنوع جديد من الذكاء, ويعتقدون أن الفرق الحقيقي الوحيد بين أفراد المملكة الحيوانية والنباتات هو عدم قدرة أفراد المملكة الأخيرة على الحركة. وقد اعتدنا على الحكم على الذكاء من خلال الأفعال, فما نفعله وما نقوله هو ما يدل على ما يحدث داخل عقولنا. ولذلك فإن النباتات, نظرا لكونها صامتة وثابتة في موضعها, لا تبدو ذكية بهذا المنطق. لكنها في الواقع تتحرك وتتفاعل مع العالم المحيط بها - وهي تفعل ذلك بطرق ذكية!
ويمكن للنباتات أن تستوعب المعلومات, وتحسب العواقب, وتستجيب للعالم حولها من خلال سلسلة معقدة من سبل إرسال الإشارات الجزيئية, تشبه بصورة مدهشة تلك الموجودة في عقولنا البشرية! ومن المثير معرفة أن القدرات الحسابية للنباتات تصل في جودتها إلى مثيلاتها في الكثير من الأنواع الحيوانية.
ومن الحقيقي أن النباتات تمتلك أحاسيس خاصة بها, فيمكنها اكتشاف والاستجابة للضوء, والأصوات, والكيماويات, والاهتزازات, واللمس, ناهيك بالماء, والجاذبية, والحرارة. وتتمثل استجابتها عادة في تغيير نمط نموها, ولكن بطريقة أكثر تنوعا وتعقيدا مما يمكنك أن تتخيل!
أظهرت الدراسات التي أجريت في معهد كارنيجي أن النباتات يمكنها اكتشاف الأطوال الموجية المختلفة, وأنها تستخدم الألوان للتعرف على طبيعة البيئة المحيطة بها. وعندما يوجد نبات صغير في ظل نبات ضخم, نجد الأول تنمو براعمه للأعلى مباشرة, عوضا عن أن تتفرع له أغصان. كما أشارت الأبحاث إلى أن النباتات تفرّق بين الليل والنهار, فهناك مسام خاصة في أوراق النباتات تنفتح في النهار لتسمح بعملية التمثيل الضوئي, وتغلق أثناء الليل لتقليل الفقد في المياه.
وخلال السنوات القليلة الماضية, ازداد عدد علماء النبات والبيئة الذين يستخدمون ألفاظا مثل (البحث عن الغذاء), و(التنافس), و(التخفي من الضواري), عندما يتحدثون عن النباتات. ويقول علماء النبات إنهم يستخدمون مصطلح (سلوك النبات) بصورة روتينية في الوقت الحاضر, فالنباتات أبعد ما تكون عن كونها كائنات سلبية. فمثلها مثل الحيوانات, تستجيب النباتات للتلميحات الصادرة من البيئة المحيطة بها.
فالنباتات تستجيب للأشعة فوق البنفسجية عن طريق إفراز مادة تعمل كحاجب للشمس, بحيث تقيها من أشعة الشمس الحارقة. وتمثل هذه الاستجابات نوعا من (الرؤية) - باستجابتها للضوء وقدرتها على التفريق بين الأطوال الموجية المختلفة.
ويرى أغلب العلماء هذه الاستجابات على أنها نواتج انعكاسية محددة مسبقا predetermined : أي النتيجة الرائعة لملايين السنين من التكيف التطوري. لكن البعض يرى أنها استجابات مرنة ومتكيفة, فالمرونة في نظرهم ما هي إلا بصيرة نافذة. فالنباتات تضبط نموها وتطورها للوصول بلياقتها في بيئة متغيرة إلى الحد الأقصى, وهو ما يتوافق تماما مع تعريف الذكاء الذي وضعه ديفيد ستينهاوس, وهو فيلسوف وعالم نفس من نيوزيلندا ألف كتابا في سبعينيات القرن العشرين عن تطور الذكاء. وقد تحدث عن الذكاء على أنه (سلوك تكيفي متغير خلال فترة حياة الفرد), وبالتالي فالاستجابات الذكية ليست مجرد عمليات تكيف على سلم زمني تطوري, كما أنها أكثر من بضع استجابات محددة مسبقا ويمكن التنبؤ بها. وإذا افترضنا صحة هذا التعريف, يعتقد بعض العلماء, ومنهم تريوافاس, أن جميع النباتات لديها نوع من السلوك الذكي.
صاحب قرار!
يدّعي الباحثون من جامعة إدنبره أن النباتات بوسعها التنبؤ بالمشكلات المستقبلية, ومن ثم اتخاذ القرارات التي من شأنها تجنب التعرض لها!...ويعلم علماء النبات منذ زمن أن البراعم النامية يمكنها استشعار النباتات المحيطة بها. وتقوم الأوراق الخضراء للنباتات بامتصاص الضوء الأحمر لكنها تعكس الأشعة دون الحمراء, ويمكن للنباتات إدراك التغير في نسبة الضوء الأحمر إلى الأشعة دون الحمراء, والتي تشير إلى وجود نباتات خضراء مجاورة. ويقول العلماء إن النباتات تتوقع نتائج مثل هذا الوجود, ومن ثم تتعرف على أكثر المواقع المحيطة بها احتمالا لأن تواجه منافسة في المستقبل, ثم تتخذ إجراءات للمراوغة إذا لزم الأمر. وهنا يقوم النبات بتغيير شكله بالكامل, وعدد وشكل أغصانه, بالإضافة إلى تركيب جذعه للحصول على أفضل وضع ممكن في مواجهة الشمس. وبرغم أن ذلك لا يماثل تماما عمل العقل الموجه لمشروع بشري, لكنها استجابة تكيفية متغيرة تؤدي الغرض ذاته.
ويمكن للنباتات أيضا أن تقوم بأفعال اجتنابية كبرى, فعلى سبيل المثال, تمتلك النخلة المرتكزة stilt palm جذعا مرتفعا على جذور داعمة, بحيث ترتفع فوق التربة, وعندما تتعدى النباتات المجاورة على حصتها من الضوء أو المواد المغذية, تتخذ فعل مراوغة واضحا للغاية - إذ تتحرك النخلة بكاملها تجاه أقصى اتجاه لضوء الشمس عن طريق نمو جذور داعمة جديدة باتجاه الجانب المشمس, بينما تذوي تلك الجذور الموجودة ناحية الظل وتموت. وهو سلوك متعمد غاية في الوضوح, ومن المؤكد أنه فعل تكيفي, فهل يعد ذلك علامة أخرى على الذكاء?
وليس من المدهش معرفة أن كثيرين لا يعتقدون ذلك! ومع ذلك, فاستجابات النباتات تشبه أفعالنا الانعكاسية reflex actions, أو الغريزية, أو مخاوفنا الفطرية, فعندما تزيد معدلات نمو نبات ما ليصبح أطول من النباتات المجاورة لأنه (يراها), أو عندما يقبل بخفض معدلات نموه للتعامل مع إشارات متضاربة مثل تذبذبات الرياح, والتي تؤدي عادة لإيقاف نمو النبات كلية, والأشعة دون الحمراء - والتي عادة تحفز نموه, يبدو النبات عندها كمتخذ ماهر للقرارات المعقدة, لكنها - برغم ذلك - لا تعدو كونها مجرد استجابات صماء مبرمجة مسبقا.
ويعترض تريفاواس مرة أخرى, فهو يرى أن العديد من النباتات تُظهر مرونة سلوكية تتخطى كونها أفعالا انعكاسية فقط أو برمجة مسبقة, فالجذور بوسعها أن تتبع مدروجات gradients المعادن أو الرطوبة في التربة, لكنها لا تتبع دائما السبيل المباشر - والبسيط - لذلك, فقد درس العلماء السلوك الاغتذائي لعشب زاحف اسمه الجليشوما, فعند وجود هذه الأعشاب في تربة جيدة, تنمو لها المزيد من الأغصان والبراعم والأوراق, كما تكوِّن تكتلات من الجذور بسرعة أكبر لتستغل الرقعة المحيطة بها بالكامل. ولكن عند وجودها في منطقة قاحلة, فهي تنتشر لمسافة أبعد وبسرعة أكبر, كما لو كانت تهرب, كما تكون سيقانها الأرضية أرفع بصورة عامة, كما تنمو لها أعداد أقل من الفروع.
ويعني هذا أن البراعم الجديدة تنمو بعيدا عن النبات الأصلي وتبحث بنشاط عن رقع جديدة غنية بالموارد اللازمة لها, كما أن مقدار النمو لا يرتبط فقط بالجودة المطلقة لرقعة الأرض الموجود فيها النبات, بل بمدى جودتها بالنسبة للتربة المحيطة بها. وليس هذا كل شيء, بل إن التجارب أظهرت أن النباتات التي تنتمي لفصيلة واحدة يمكنها أن تستشعر وجود جذور النباتات المنافسة, ومن ثم تتوجه لمناطق أخرى - ولو كان لا يزال هناك الكثير من الغذاء في المنطقة الأصلية!
دماغ من أيونات!
يرى الباحثون أن النباتات تتعلم بطريق المحاولة والخطأ عند حدوث تغيرات كافية, بحيث يتم تقليل تعرض النبات للمزيد من الكرب والأذى إلى الحد الأدنى. ويقوم النبات أيضا بتعديل استراتيجياته المتعلقة بالاستجابة للإشارات البيئية الأخرى, مثل المغذيات ودرجة الحرارة والرطوبة, وتلك العوامل المتعلقة بتاريخ النبات ذاته, مثل عمره, والأمراض التي تعرض لها سابقا, وهكذا.
وفي هذا النمط الضئيل جدا من أنظمة الإشارات الكهربية, يرى تريوافاس موضع (الدماغ) الحقيقي للنبات, ففي النباتات - مثلها في ذلك مثل الحيوانات - تعد أيونات الكالسيوم هي الوسيط الرئيسي لتحويل المعلومات الحسية إلى لغة داخلية مشتركة يمكن دمج الإشارات المختلفة فيها. ويمكن لأي إشارة حسية يلتقطها النبات أن تسبب ارتفاعا مؤقتا في مستويات الكالسيوم, وقد وجد العلماء أيضا أن الارتفاع الطفيف في مستويات الكالسيوم يحدث بعد فترات زمنية تتباين قليلا اعتمادا على نوع الإشارة الحسية التي تم استقبالها, مما يساعد النبات على التفريق بين الأحاسيس المختلفة. وربما كانت منظومة الكالسيوم هذه في المكان الذي تتم فيه عمليات الحوسبة واتخاذ القرارات, ومن ثم تخزين الذكريات الخاصة بالنبات.
وقد أظهرت التجارب أن أيونات الكالسيوم لا تبتعد كثيرا بعضها عن البعض الآخر, فهي تنتشر لمسافة قصيرة فقط من مخازن معينة داخل الخلايا عبر قنوات الكالسيوم الموجودة في الغشاء الخلوي المحيط بها, ولكن عندما ترتبط بمجموعة متنوعة من المواد الكيميائية والإنزيمات الأخرى, يمكنها أن تشجع قنوات الكالسيوم المجاورة على أن تفتح, مما يسمح في النهاية بنقل الإشارات عبر مسافات أكبر بكثير, ولكن عبر خطوات عديدة, مما يسمح بقدر هائل من المرونة والتعقيد.
وتشبه كل من هذه القنوات, بشكل أو بآخر, العقدة الموجودة في الشبكات العصبية, وكل منها عبارة عن (مفتاح), لكنه مفتاح يمكن التحكم بسهولة في فتحه. تمر الإشارات عبر سبل معينة مكونة من هذه المفاتيح, والتي يتم الربط بينها بفعالية بواسطة توزعها على الغشاء الخلوي, وتوجه المفاتيح اتجاه مرور المعلومات عبر سبل محددة, ويمكن ضبطها للسماح بمرور, أو لمنع, الإشارات التي تصل في الوقت نفسه, تماما مثل منطق (و), و(أو) المستخدم في دوائر الكمبيوتر. وبالإضافة إلى ذلك, يمكن أن تصبح أكثر أو أقل حساسية بناء على الإشارات السابقة التي مرت عبرها. وقد أظهرت التجارب التي أجريت في جامعة إدنبره إمكان دمج مصادر مختلفة للمعلومات, وتصنيفها حسب الأولوية أو الأهمية, أو حتى تجاهلها. وعلى نطاق أوسع, يمكن تنسيق تحركات الكالسيوم عبر الشبكة في صورة موجات أو ذبذبات, تماما مثلما يحدث في الشبكات العصبية.
من الواضح أن ما تفعله النباتات معقد وذكي بصورة مدهشة, وأن هناك الكثير لنتعلمه عن سلوكها, ولكن هل يمكن لتحركات أيونات الكالسيوم داخل خلايا النبات أن تنتج ذكاء حقيقيا? وللإجابة عن هذا السؤال, يشير رولف فايفر, وهو باحث في الذكاء الاصطناعي بجامعة زيوريخ السويسرية, ومؤلف كتاب (فهم الذكاء), إلى أن هناك الكثير من الطرق لتعريف الذكاء, ويمكن تطبيق إحداها بصورة معقولة تماما على نظرية جامعة إدنبره التي تحدثنا عنها, لكن هناك العديد من التعريفات الأخرى, على سبيل المثال, القدرة على المحادثة بطريقة البشر! وفي نهاية الأمر, يقول فايفر إنه يصبح من العبث محاولة تعريف الذكاء وتقرير أي سلوكيات يتعين علينا أن نسميها (ذكية), وأيها ينطبق عليها العكس, وما يستحق الاهتمام هو أن نأخذ سلوكيات بعينها ومن ثم نحاول استكشاف كيفية عملها.
وهناك علماء آخرون من المتشككين في تعريف علماء إدنبره للذكاء, فهم يرون أنه يبدو معقولا, لكن لماذا نتوقف عند النباتات? فخلية وحيدة مثل الأميبا تتخذ بدورها قرارات (ذكية) في بيئتها الطبيعية, كما تستجيب الخلايا المنفردة في أجسامنا بطريقة (ذكية) للعديد من العوامل - الكهربية, والكيميائية, واللمسية, وغيرها - من أجل أن تنمو وتتمايز بطريقة متناسقة. فإذا نظرنا إلى الذكاء كمجرد طريقة للاستجابة لمنبهات معقدة بطريقة تحافظ على بقاء الكائن الحي, فسيكون هذا تعريفا واسع الانتشار بالفعل.
لكن عندما يخلع باحث ما على النباتات صفة الذكاء, فهو لا يقصد الترويج والدعاية لعلم النبات, لكنه يهدف لتوضيح أن البشر قد أغفلوا ذلك القدر الهائل من التعقيد الموجود في الطريقة التي تدرك بها النباتات العالم المحيط بها وتستجيب له. وإذا كان استخدام مصطلح (الذكاء) سيثير جدالا أو خلافا حول مدى تعقيد النباتات, فهو أفضل لفهمنا النهائي للموضوع!.